"الصديق" الروسي وقت الضيق
المشهد التركي اليوم شبيه بالحقبة الجمهورية قبل قرن من اليوم. السلطان أردوغان، «أتاتورك القرن الحادي والعشرين»، يرمم علاقات بلاده المتعثرة مع موسكو في لحظة مفاجئة، ثم يتبعها «بزيارة انقلابية» إلى سان بطرسبرغ ملوحاً من جديد بالفزاعة الروسية «للأصدقاء الغربيين».
المطّلع على التاريخ التركي في القرن المنصرم يدرك فضل الاتحاد السوفياتي في رعاية الجمهورية الحديثة التي أنشأها أتاتورك. ويجسد مجسم العسكريين الروس (المارشال السوفياتي كليمنت فوروشيلوف ومؤسس الاستخبارات السوفياتية ميخائيل فرونز) إلى جانب أتاتورك ضمن «نصب الجمهورية» في «ميدان تقسيم» وسط اسطنبول، امتنان «أب الأتراك» للاتحاد السوفياتي آنذاك، الذي استجاب لنداء استغاثته في حربه ضد «الامبريالية» بإرسال المساعدات العسكرية من مدافع وأسلحة خفيفة والمالية كالذهب، فضلاً عن الديون الطويلة الأمد والمستشارين العسكريين والعلماء الصناعيين إلى تركيا، ويشهد البنك المركزي التركي ومصنع الأسلحة والذخائر والكثير من معامل النسيج وموانئ كثيرة على المتوسط والأسود على ذلك.
البراغماتية «الأتا (الجد الأكبر) توركية» في السياسة التركية باتت السمة الأبرز لسياسات الحكومات المتلاحقة، العلمانية منها والإسلامية على حد سواء، نهج اتبعه أردوغان الإسلامي بعد 95 عاماً من رسالة اتاتورك الاستجدائية للينين «الامبراطور السوفياتي»، ببعثه «رسالة اعتذار» للقيصر الروسي بوتين مؤسساً لحقبة جديدة من العلاقات الاقتصادية والسياسية قد تمتد لعشرات السنوات كما كان الحال في القرن الماضي حينما بقيت علاقة التحالف والاتفاقيات الثنائية بين الدولتين حتى انضمام تركيا إلى المعسكر الغربي ودخولها لاحقاً حلف «الناتو» العام 1952.
الظروف التي دفعت أردوغان للالتفات نحو الروس شبيهة جداً بسابقتها في عهد «الجد العلماني» مع اختلاف التسميات. فالسلطان المنكفئ بات يشعر «بخيانة الغرب» له بعد الموقف المتردد والتصريحات الباردة والمتأخرة المنددة بالانقلاب العسكري. الولايات المتحدة التي لا تزال تستضيف غولن على أراضيها وتدعم الأكراد على حدود بلاده الأطول في سوريا، أعلنت عن موقفها من الانقلاب متأخرة بساعات عن موقف «الصديق بوتين» بعدما انكشف السحاب مظهراً سيطرة جناح «العدالة والتنمية» على جناح «النور» في الحكومة الإسلامية. فيما لا يزال الحلفاء الأوروبيون في «الناتو»، الذين تركوا تركيا يوماً وحيدة في محنة إسقاط الطائرة الروسية يتلكأون في تنفيذ تعهداتهم، المالية من مساعدات موعودة، والقانونية كإلغاء «الفيزا» الخاصة بدخول الأتراك دول «الشنغن»٬ مع استمرارهم في الضغط على الحكومة التركية عبر تقارير حقوق الإنسان وقرارات البرلمانات الخاصة بإدانة الإبادة الجماعية الأرمنية، فضلاً عن «الشروط التعجيزية» المفروضة على تركيا لدخول «الاتحاد المسيحي».
لقاء القيصر والسلطان احتضنته سان بطرسبورغ، لينينغراد سابقاً، المدينة التي بناها القصير بطرس الأول لتكون بوابة إمبراطوريته نحو أوروبا، ولعبت دوراً رئيسياً في انتصار القيصرية في معركة الشمال العظمى التي فتحت الطريق أمام الروس للهيمنة على بحر البلطيق، في قاعة الجلوس اليونانية أعداء الأتراك التاريخيين.
وعلى مبدأ «ما جمعه الاقتصاد لا تفرقه السياسة» تقابلت القوتان، الأرثوذكسية الأكبر في العالم، والسنية الفاعلة، للتباحث في تفاصيل المكاسب الاقتصادية المتبادلة، مع التطرق إلى العناوين العريضة للأزمة السورية، الملف الأكثر تعقيداً في علاقة البلدين ضمن سلسلة قضايا خلافية لم يتم ذكر إلا جزء منها بخجل، بدءاً من القوقاز مروراً بالمسألة القبرصية وصولاً إلى أوكرانيا.
القيصر اخترق «الناتو» راسماً شراكة جيو اقتصادية مع حليف الولايات المتحدة الأول في المنطقة، التي أشار إليها الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان في خطاب تاريخي شهير بجامعة هارفرد لدى قوله إن حدود بلاده الشرقية تنتهي عند كارس وأرداهان (ولايات أقصى الشرق التركي) مستفزاً الاتحاد السوفياتي آنذاك.
أما أردوغان فقد نجح في تخويف الحليف الغربي عبر التلويح بالفزاعة الروسية ضمن سياسة ابتزاز سابقة بدأت مع قوارب موت اللاجئين السوريين عبر المتوسط. وما تصريحات وزير خارجيته إلا استكمال لتلك السياسة، بتشديده على أن «التقارب الروسي ـ التركي لا يستهدف حلف الناتو»، علماً أنه ذكّر في الوقت نفسه بأن «الغرب سيفقد تركيا بسبب أخطائه».
تلقفت الولايات المتحدة رسالة اللقاء لتسارع إلى الإعلان على لسان المتحدثة باسم خارجيتها اليزابيت ترودو أنها لا تعتبر مباحثات أردوغان في روسيا «لعبة ذات مجموع صفري»، لافتة إلى أن «كلا البلدين يواجه تنظيم داعش»، ومعربة عن قناعة بلادها بأن الشراكة مع أنقرة قوية وأنها لا تتأثر بمثل هذا التقارب.
الخلاف العميق بين موسكو وأنقرة حول مصير الرئيس الأسد لا يزال مستمراً، لكن بعض الأوساط الصحافية التركية التي تواصلت معها مؤخراً تعتقد أن سياسة أردوغان حيال سوريا ستدخل مرحلة تحول خلال الأشهر الستة المقبلة، مستدلة بـ «الاعتقالات التي طالت العديد من ضباط الجيش والاستخبارات المؤثرين في الأزمة السورية والاستياء في صفوف العدالة والتنمية من موقف السعودية من الانقلاب الفاشل».
ولا ضير من التذكير بأن الطيارين التركيين الذين قُدما للإعلام غداة إسقاط الطائرة الروسية «المعتدية» على الحدود التركية كبطلين، في زحمة تصريحات نارية تتوعد الروس بتكرار السيناريو ذاته في حال حدوث خرق جديد، باتا اليوم في قبضة «العدالة التركية لدراسة احتمال وجود صلة بين إسقاط القاذفة ومؤامرة حركة غولن».
صفحة جديدة في العلاقات الروسية ـ التركية وبالتالي التركية ـ الأطلسية تُفتح إذاً، من سان بطرسبورغ، لعلنا إذا ما استعرنا بيتاً من شعر المتنبي أمكننا القول عنها من منظور تركي:
كلما ضاق بنا الغرب قلنا
القوقاز قصدنا وروسيا السبيل
نشرت للمرة الأولى في "السفير"