الرمال المتحركة في جنوب السودان
يبدو أن الجامعة العربية تعتزم إيجاد صيغة تسمح لجنوب السودان بالانتساب إليها. وهي ترى أن هذه الدولة الجديدة التي انفصلت عن أمها السودان قبل خمس سنوات تعتبر الأقرب إلى العالم العربي، إلى جانب سيادة اللغة العربية فيها لدرجة أّنها أصبحت لغة التخاطب المشتركة بين جمع القبائل المختلفة في جنوب السودان.
على أن وضعية المراقب الخاص التي يخطط الأمين العام للجامعة لانجازها الشهر المقبل تواجه عقبات عديدة، على رأسها أن مستقبل استمرار جنوب السودان كدولة مستقلة ذات سيادة أصبح محل تساؤل. فهي في حالة حرب داخلية مستعرة منذ أكثر من 30 شهراً حتى الآن، وهي حربٌ إلى جانب كلفتها الإنسانية العالية والدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي تُحْدثه، أصبحت تدفع باتجاه مزيد من تفتيت البنى السياسية ببعدها القبلي، خاصة في معسكر المعارضة. وتتزايد المؤشرات على إمكانية حدوث مواجهات بين حكومة جنوب السودان من جهة والمؤسسات الإقليمية، مثل منظمة "الإيقاد" التي رعت اتفاق السلام الهشّ بين الفرقاء، والاتحاد الأفريقي، وحتى الأمم المتحدة وبعثتها المسؤولة عن حفظ السلام من الجهة الأخرى. وهذه الصورة الكئيبة أعادت إلى الساحة نقاشاً عن ضرورة وضع جنوب السودان تحت الوصاية الدولية بعد العجز الفاضح للنخب السياسية، وفشلها في تجاوز صراعاتها حول مصالحها الشخصية والنظر في حلحلة المشاكل التي تواجه الدولة الوليدة.
ذكرى وتشرذم
التاسع من الشهر الماضي، كان يفترض أن تشهد العاصمة جوبا احتفالاً بمرور خمس سنوات على استقلالها. ولكنه كان معلناً من البداية أن الاحتفالات ألغيت بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل حدث تبادل لإطلاق النار بين مجموعات تابعة لرئيس الجمهورية سلفا كير وأخرى تابعة لنائبه الأول رياك مشار، في الوقت الذي كانا يعقدان فيه اجتماعاً مشتركاً. في البداية لم يُعرف من الذي بدأ بإطلاق النار، ثم بدأت تتسرب بعض الاتهامات بأن المسألة كانت مدبّرة من قبل مجموعة سلفا كير لاغتيال مشار والتخلّص من قواته في العاصمة جوبا. بعد ذلك اختفى مشار عن الأنظار معلناً أنّه لن يعود إلى جوبا ما لم يتم إخلاء العاصمة من السلاح ودخول قوة ثالثة من الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام فيها، وهي الخطوة التي أعلن سلفا كير رفضه لها منذراً مشار بأنه ما لم يعد إلى ممارسة عمله فسوف تتم إقالته من منصبه.
وفي خطوة باتجاه التفتت، تعرض معسكر مشار إلى تحركات انقسامية تزعمها تعبان دينق الذي كان المفاوض الرئيسي لمجموعة مشار، وتردد أنه لم يكن راضياً عن منصب وزير المعادن الذي أسند إليه في الحكومة، ويبدو أنّه انتقل إلى معسكر سلفا كير الذي وجد فيه حليفاً مناسباً للحلول محل مشار في منصب النائب الأول، لثقله السياسي إلى جانب انتمائه إلى قبيلة النوير التي ينحدر منها مشار.. ولو أنّ دينق تحوط بالقول أنّه يقبل بالمنصب بصورة مؤقتة، وحتى يعود مشار إلى ممارسة عمله.
الأمم المتحدة ومنظمة "الإيقاد" انتقدتا الخطوة ووصفتاها بأنها تعقّد الأوضاع، خاصة في ظل عدم اعتراف مشار بها وقيامه بفصل دينق من حركته. لكن موقف مشار يزداد ضعفاً، لأن الانقسام السياسي الذي شهدته حركته يمكن أن يفتح الباب أمام انقسامات عسكرية، خاصة وأنّ أحد أهم قادته العسكريين، بيتر قاديت، لا يخفي أجندته الخاصة.
اتفاقية السلام التي أشرفت عليها "الإيقاد"، بدعم إقليمي ودولي، ركّزت على قسمة السلطة بين سلفا كير ومشار. لكن افتقاد الثقة بين هذين الرجلين وتدهور النزاع بينهما ليأخذ بعداً قبلياً، خاصة أنّ الأول ينتمي الى قبيلة الدينكا وهي الأكبر عدداً في جنوب السودان بينما ينتمي الثاني إلى قبيلة النوير التي تأتي في المرتبة الثانية من ناحية الحجم والتأثير.
الاتفاقية تم التوصل إليها في آب/ أغسطس من العام الماضي، لكن تنفيذها لم يبدأ إلا قبل ثلاثة أشهر مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وها هي تتعثر مرة أخرى.
الوصاية الدولية
خرج اقتراح وضع جنوب السودان تحت الوصاية الدولية في هذه الأجواء. الاقتراح لم يكن مجرد عصف أكاديمي، وإنْ كان صدر في مقال كتبه برنستون ليمان، المبعوث الأميركي السابق للسودان وجنوب السودان، بالاشتراك مع كيت المكيست نوبف التي عملت أيضا مديرة لوكالة المعونة الأميركية في البلدين. ليمان انتقل مستشاراً لمعهد السلام الأميركي ونوبف مديرة للمركز الأفريقي للدراسات الإستراتيجية، والمؤسستان تعملان لصالح الكونغرس الأميركي الذي ينفق عليهما.
يقترح الكاتبان خطوات محددة تقوم على الاعتراف بالمشكلة وبعجز القيادات عن إحلال السلام، وأنّ فكرة قسمة السلطة بين الفرقاء، كما في الاتفاقية التي رعتها "الإيقاد"، لم تعد مجدية، بالتالي من المهم النظر في خيار جديد يرى الكاتبان أنّه يتلخص في تفعيل مفهوم الوصاية الدولية الذي تم تطبيقه من قبل في تيمور الشرقية وكوسوفو. ويضيفان أنّه، في غياب حلول سياسية، فإنّ الإنفاق المالي على تلك البلاد يصبح هدراً. وأشارا لما أنفقته الولايات المتحدة في جنوب السودان منذ 2005، وبلغ نحو 11 مليار دولار، بلا أثر واضح على الأرض الآن، بعد أكثر من عقد من الزمن.
الخطوة الأولى التي يقترحها الكاتبان تبدأ بإبعاد كلٍّ من سلفا كير ومشار عن المشهد السياسي، وتقليص قدرتهما وأتباعهما عن تخريب الترتيبات الجديدة، باستخدام أساليب الجزرة والعصا والاتفاق من البداية على فترة زمنية معقولة تتراوح بين 10 إلى 15 عاما يوضع خلالها جنوب السودان تحت إدارة تنفيذية مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، بدعم من الدول الغربية التي أوْلت الوضع في جنوب السودان اهتماما خاصة وتحديدا الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج وكذلك الدول المجاورة. تستخدم هذه الإدارة موارد البلاد، خاصة من مبيعات النفط، لبناء المؤسسات وتشذيب العنصر القبلي.
أحد المتاعب التي يتوقعها هذا السيناريو هي المعارضة التي يمكن أن يلقاها من الطبقة السياسية والعسكرية، ونظرتها إلى الخطوة على أساس أنّها نوع من إعادة الاستعمار وخرق لسيادة جنوب السودان. وهنا يقترح الكاتبان أن يتم اللجوء إلى نقاشات معمّقة مع بعض الرموز العسكرية والسياسية في أن هذا الخيار أفضل من خيار التدخل العسكري المباشر لوقف حمام الدم الجاري، وكذلك لقطع الطريق أمام تدخل من قبل دول الجوار القوية وخاصة السودان ويوغندا وأثيوبيا، واحتمال أن تقتطع كل منها جزءا من جنوب السودان حماية لمصالحها الوطنية.
ويمضي الكاتبان قدماً ويقترحان إصدار قرارات من مجلس الأمن بحظر تصدير السلاح إلى جنوب السودان والإشارة أنّ قرارات حظر بخصوص السياسيين وعقوبات أخرى يمكن أن تصدر بما في ذلك تشكيل محكمة مختلطة للمتهمين بارتكاب جرائم ضد المدنيين إلى جانب تعزيز صلاحيات وقوة حفظ السلام الأممية.
سلفا كير رفض من البداية فكرة تعزيز قوة حفظ السلام التي طرحها الاتحاد الأفريقي قائلا إنّهم لن يقبلوا بجندي واحد إضافي على الموجودين، وبالتالي فإنّ فكرة فرض الوصاية الدولية تحتاج إلى جهد أكبر حتى يمكن تقبلها بواسطة النخب السياسية والعسكرية في جنوب السودان. لكن بما أنّ قراراً مثل هذا يحتاج إلى مساندة قوية فإنّه من الصعوبة توقع قيام إدارة أوباما وهي في خواتيم أيامها بالدخول في هذه المغامرة، ونفس الشيء بالنسبة لبريطانيا المشغولة بتبعات خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وسيدفع هذا الوضع إلى التركيز على ما يجري على الأرض في جنوب السّودان وإلى أيّ مدىً ينجح سلفا كير في تقسيم جبهة المعارضين التي يقودها خصمه اللدود مشار وأن دينق الذي كسبه إلى جانبه يمكن أن يضعف من معسكر مشار ويخلق من ثمّ حقائق جديدة على الأرض تفرض نفسها على القوى الخارجية.
ثم هناك الدّور الذي يمكن أن يلعبه الجيران، خاصة الثلاثة الكبار السودان وأثيوبيا ويوغندا، ويلاحظ أنّ العلاقات السودانية اليوغندية انتقلت من خانة العداء المتبادل إلى حالة من التطبيع بدليل زيارة الرئيس عمر البشير إلى يوغندا لحضور حفل تنصيب رئيسها يوري موسفيني الذي لم يتردد في استغلال المناسبة للهجوم على المحكمة الجنائية الدولية التي تتهم البشير بارتكاب جرائم في دارفور وأصدرت أمر قبض بحقه، لكنّ يوغندا الموقعة على ميثاق المحكمة تجاهلت الأمر.
موسفيني الذي يعتبر أهم حلفاء سلفا كير لمساندته له عسكريا نصح الأخير ألّا يدخل في مواجهة مع المجتمع الإقليمي والدولي، وهو ما يجعل الباب موارباً أمام بعض التطورات التي سيحكمها في النهاية مدى التوافق السوداني اليوغندي وما يمكن لسلفا كير وحليفه الجديد من قبيلة النوير تعبان دينق تحقيقه على أرض الواقع.
نشرت للمرة الأولى على "السفير العربي"