«النصرة» تتلوى تحت الضغوط وتغيّر جلدها

29.07.2016

لا «جبهة نصرة» في سوريا... لكن «القاعدة» باقية تحاول التنكّر وراء أقنعة وأسماء لم تعد تنطلي على أحد. هذه الحيلة التي اضطر القائمون على «الجهاد العالمي» للقيام بها، كان يمكن أن تترتب عليها تأثيرات متعددة محلياً وإقليمياً ودولياً، في زمن سابق. لكنها اليوم أصبحت بلا قيمة، خصوصاً أنها ترافقت مع الزلزال الذي أحدثه الجيش السوري على فالق حلب، فلم يغطِّ عليها وحسب، بل سحب منها كل إمكانات التأثير لينقلب السحر على الساحر. فما فائدة ظهور أبو محمد الجولاني بوجهه بينما ترتدي حلب وجه باكورة انتصاراتها الكبرى؟

ومن دون أية إشارة صريحة إلى فك الارتباط مع تنظيم «القاعدة»، ولا التراجع عن البيعة «المتجددة» التي تربط بينهما، أعلن أبو محمد الجولاني زعيم «جبهة النصرة»، أمس، عن «وقف العمل باسم «جبهة النصرة» وإعادة تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل تحمل اسم «جبهة فتح الشام»، مشدداً على أن «هذا التشكيل الجديد ليس له علاقة بأية جهة خارجية».

وثمة العديد من المؤشرات الداخلية والخارجية التي تؤكد على أن خطوة الجولاني التي كانت متوقعة منذ ايام عدة، لن تفلح في إحداث أي اختراق سواء على صعيد علاقته مع باقي الفصائل أو على صعيد صورة تنظيمه المصنف على قائمة الإرهاب، بل يمكن القول إن خطوة الجولاني جاءت متأخرة لدرجة أن بعض الدول التي لم تُخفِ في السابق رهانها على إمكان ضم مقاتلي «النصرة» إلى «المعارضة المعتدلة»، لم تعد قادرة على الاستثمار في هذه الخطوة والاستفادة منها؛ فقد جرت مياه كثيرة منذ غازلها المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي اي ايه) الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس مطالباً بضمها إلى «التحالف ضد داعش» في أيلول من العام الماضي. وتغيرت قناعات العديد من الدول التي كانت تراهن عليها، وذلك بعد أن اكتسحت موسكو الأجواء السورية بـ «عاصفة السوخوي» فارضة نفسها لاعباً أساسياً لا يمكن تجاوزه أو القفز فوق شروطه. حينها، انتقلت واشنطن من طور غض الطرف عن «الإمارة الإسلامية» والرهان على «الجهاديين» كما فعلت سابقاً في أفغانستان، إلى طور التفاهم مع موسكو والاتفاق معها على «محاربة الإرهاب» بوجهَيه البارزين «داعش» و «النصرة».

ولم يُخفِ الجولاني في كلمته أمس التي ظهر فيها للمرة الأولى بوجهه الحقيقي بعد أن كان طوال السنوات الماضية يتخفى وراء الكاميرات، أن الخشية من هذا التفاهم هي أحد الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ خطوته الأخيرة، متذرعاً بحماية «أهل الشام من القصف». وليست واشنطن وحدها من انقلبت على عقبيها وأدارت ظهرها إلى «مشروع معتدلي النصرة». فأنقرة أيضاً، وفي موقف لافت صدر، أمس، عن وزير خارجيتها نفضت يديها من التنظيم الذي طالما رضع من معابرها وحدودها سلاحاً ومالاً و«مقاتلين أجانب»، حيث أعلن مولود جاويش أوغلو أن «بلاده وموسكو ستتخذان قراراً مشتركاً بمحاربة تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» الإرهابيين في اجتماع اردوغان وبوتين في 9 آب»، وهذا الإعلان يشكل أحد تداعيات الانعطافة التركية التي بدأت بها أنقرة قبل انشغالها بالانقلاب الفاشل، ويؤكد التزامها بعدم الخروج عن إطار التفاهم الثنائي بين القوتَين العظميَين.

وقد سارعت واشنطن إلى الرد على «الحيلة القاعدية» بإغلاق الباب أمام أية آمال زائفة، فقالت على لسان قائد المنطقة الوسطى الجنرال لويد أوستن «أن جبهة النصرة» ستظل جزءًا من تنظيم «القاعدة» حتى لو غيرت اسمها»، مشيراً إلى «تزايد المخاوف من قدرة النصرة على استهداف الغرب»، وأضاف: «ما زلنا نجري تقييماً لوضعها».

وعلّقت وزارة الخارجية الأميركية بالإشارة إلى أن «النصرة» لا تزال هدفاً للطائرات الأميركية والروسية على الرغم من قرارها قطع العلاقات مع تنظيم «القاعدة» وتغيير اسمها. وقال المتحدث باسم الوزارة جون كيربي إن التنظيم لا يزال «خارج نظام وقف إطلاق النار في سوريا» وإنه يعد «هدفا مشروعا للولايات المتحدة وطبعا لروسيا التي لها وجود عسكري في سوريا».

لكن كيربي اعتبر أن الإعلان الذي صدر عن الجولاني «يمكن أن يكون ببساطة مجرد تغيير للمسميات»، وأن الولايات المتحدة «ستحكم عليها من تصرفاتها وأهدافها وعقيدتها».

بدوره، قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال جو فوتل سرعان ما صرح إن «جبهة النصرة» لا تزال تشكل في الواقع تهديداً، وأنها على علاقة بتنظيم «القاعدة» رغم إعلانها فك ارتباطها به.

وقال فوتل الذي يشرف على القوات الأميركية في سوريا والعراق وأفغانستان خلال منتدى أمني في ولاية كولورادو إن «هذه المنظمات ماكرة للغاية، وتتمتع بمرونة بشكل غير عادي. ينبغي أن نتوقع قيامها بأشياء»، مضيفاً: «يمكنهم إضافة فرع لشجرة، وجعله مختلفاً قليلا، لكن هذا الفرع يجد جذوره في أيديولوجية ومفهوم إصوليين. ووسط كل هذا، فإنها لا تزال تنظيم القاعدة».

وفي انعكاس جلي للخارج على الداخل، فقد لوحظ مدى فتور ردود الأفعال على خطوة الجولاني حتى من أقرب الفصائل إليه، هذا إذا لم تكن بعض الفصائل الكبيرة قد تعمدت التحرش بـ«جبهة النصرة» قبل ساعات من إعلان الجولاني كي توصل إليه رسالة مفادها أن زمن «الاتحاد» قد ولّى إلى غير رجعة. ومن هذا القبيل قيام «أحرار الشام» بطرد أربعين عنصراً من «جبهة النصرة» بعد محاولتهم التمركز في إحدى قرى سهل الغاب، وكان لافتاً أن «أحرار الشام» بررت ذلك بحماية أهالي القرية من القصف المتوقع على «النصرة» في إشارة إلى أنها تسعى لتمييز نفسها عنها والنجاة بجلدها مما ينتظرها.

وبالتالي فإن كلام الجولاني عن «العمل على التوحد مع الفصائل» و«تقريب المسافات مع الفصائل المجاهدة» و«الأمل بتشكيل جسم موحد يقوم على الشورى» يأتي ليؤكد مدى الخيبة التي ستمنى بها «جبهة النصرة» بعد أن تخرج من قوقعتها وتدرك وزنها الحقيقي عند هذه الفصائل التي سيكون همها الأول والأخير تفادي الطائرات الروسية والأميركية.

والمفارقة أن الجولاني سيجد نفسه بعد التخلي عن إسم «القاعدة» أكثر عزلةً مما كان عليه عندما كان يقاتل تحت رايتها.

وفي انفصال حقيقي عن الواقع، وفي ظل عدم قدرة على قراءة التطورات السابقة، أو ربما عناد على تجاهلها، كانت قيادتا «القاعدة» و«النصرة» مشغولتين بطريقة إخراج خطوة الانفصال الشكلي وكيفية إظهار عدم تعارضها مع أحكام «البيعة» والتأكيد على التوافق التام بين الطرفين على القيام بها، بينما كل المؤشرات كانت تدل على أنه أيّاً كانت طريقة الإخراج فإن المشهد بدا كأنه خطوة في الهواء ولن تترتب عليه أية آثار ذات أهمية.

لذلك فإن قيادة «القاعدة» ولنفي أي خلاف مع «النصرة» ولطمأنة بعض رؤوس قادتها بأن ما يحصل لا يشبه في شيء ما قام به زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي ربيع العام 2013 عندما أشعل أوسع خلاف من نوعه حول «البيعة»، حرصت على الإيعاز إلى نائب الظواهري أبو الخير المصري (واسمه محمد رجب) والذي يقيم في سوريا منذ أشهر عدة بإصدار خطاب يمنح فيه «جبهة النصرة» الضوء الأخضر لاتخاذ الإجراء المخطط له.

وكان زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، قد سبقه مؤكداً أن بوسع «النصرة» التضحية بروابطها التنظيمية مع «القاعدة» إذا كان ذلك لازماً للحفاظ على وحدتها ومواصلة المعركة في سوريا.

وتوجه الظواهري لـ«النصرة» في تسجيل صوتي بالقول: «إن أخوة الإسلام التي بيننا هي أقوى من كل الروابط التنظيمية الزائلة والمتحولة وإن وحدتكم واتحادكم وتآلفكم أهم وأعز وأغلى عندنا من أي رابطة تنظيمية».

وأضاف: «وحدتكم واتحادكم ووحدة صفكم تعلو فوق الانتماء التنظيمي والحزبي بل يضحى بلا تردد بتلك الروابط التنظيمية الحزبية إذا تعارضت مع تآلفكم ووحدتكم واصطفافكم في صف واحد كالبنيان المرصوص في مواجهة عدوكم العلماني الطائفي وتتواطأ معه الحملة الصليبية المعاصرة».

من هو الجولاني:
تبين أن الجولاني هو أحمد حسين الشرع ولد في العام 1984 أي أنه يبلغ الثانية والثلاثين من عمره، وكان عند تأسيس «جبهة النصرة» في السابعة والعشرين فقط. وقد تضاربت الأنباء حول مكان ولادته، ففيما تقول إحدى الروايات إنه وُلِد في درعا، تؤكد رواية أحد مناصري «داعش» والذي سبق له تسريب صورة الجولاني وهويته الحقيقة منذ شباط الماضي، أن الجولاني ولد في السعودية.

ويعتقد أن الجولاني عاش القسم الأكبر من حياته في العاصمة دمشق حيث دخل كلية الإعلام، لكنه لم يكمل الدراسة. وقد ذهب تحت تأثير خطب أبي القعقاع للقتال في العراق وانضم إلى «دولة العراق الإسلامية» وقاتل تحت إمرة البغدادي الذي اختلف معه بعد سنوات من ذلك التاريخ، ليصبحا ألد عدوين.

وتشير المعلومات إلى أن الجولاني كان معروفاً في العراق باسم أمجد حسين علي النعيمي، وأنه دخل سجن بوكا بذلك الإسم، وربما هذا ما دفع الأمم المتحدة إلى استخدام الإسم في لائحة العقوبات الخاصة بها.

وفي سجن بوكا حصل الجولاني على تزكية من أبي مسلم التركماني الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في تنظيم «داعش» والذي قتل بغارة أميركية مؤخراً، وهو ما فتح الأبواب أمامه للقاء البغدادي ومبايعته يداً بيد. ومن ثم كلّفه البغدادي بالقدوم إلى سوريا وتأسيس «جبهة النصرة» قبل أن تتطور الأمور ويحصل الخلاف المعروف بينهما.

جريدة "السفير"