الفضاء السيبراني.. ساحة حرب جديدة قد تشعل العالم

27.09.2016

في الفترة الأخيرة، لا يمر أسبوع واحد دون أن يعلن الإعلام الأمريكي عن عملية سرية أخرى للخدمات الخاصة الروسية في شبكة الإنترنت. القراصنة من روسيا متهمون باختراق خوادم الهيئات الإدارية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وسرقة البرامج الخبيثة من وكالة الأمن القومي الأمريكية، وتنفيذ هجوم على قاعدة البيانات العالمية لوكالة مكافحة المنشطات، ومتهمة كذلك بنية تعطيل عملية فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة.

أنصار الاجراءات الصارمة يحاولون إقناع باراك أوباما بتهدد موسكو على الأقل بفرض عقوبات جديدة. بدلا من ذلك، يطرح الرئيس الأمريكي بدء المفاوضات بشأن "قواعد السلوك المسؤول للدول في الفضاء الإلكتروني". روسيا قبل بضع سنوات، كانت أول من طرح فكرة وضع هذه القواعد. ومع ذلك، هذا القانون من غير المرجح أن يظهر في السنوات القادمة.

الهجمات والعقوبات
حتى وقت قريب، كان شرير الإنترنت الرئيسي في وسائل الإعلام الأميركية، القراصنة الصينيون الذين يخوضون الشبكة العالمية في البحث عن الأسرار التجارية. ولكن لا يكاد الصينيون يُذكرون الآن، إذ طغت هجمات الانترنت التي يزعم تورط قراصنة روس يرتدون الزي العسكري فيها.

زُعم أولا أنهم اخترقوا خادم البريد الإلكتروني للجنة الوطنية الحزب الديمقراطي الأمريكي، وهم لم يقوموا فقط بتحميل البيانات السرية، بل سربوا لـ"ويكيليكس" آلاف رسائل البريد الإلكتروني التي تحتوي على معلومات حساسة. من الوثائق التي تم الكشف عنها، أصبح من المعروف أن جهاز الحزب تلاعب لصالح هيلاري كلينتون خلال الانتخابات التمهيدية لضمان النصر لها، ضد عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت، بيرني ساندرز. أعرب الرأي العام عن غضبه، ما اضطر ديبي واسرمان- شولتز رئيس اللجنة للاستقالة.

شركة أبحاث CrowdStrike، التي لجأ إليها الديمقراطيون، وصلت إلى استنتاج مفاده أن أجهزتهم اخترقت مرتين، ووراء هذا الأمر، تقف الإستخبارات الروسية، أو ربما جهاز روسي آخر مثل دائرة الأمن الفيدرالي، أو الاستخبارات الخارجية الروسية. في الوقت نفسه، وفقا للخبراء من CrowdStrike، جهازا المخابرات الروسيان، عملا بشكل مواز، غير مدركين أنهم يخترقون نفس الجهة.

مجموعة القراصنة المرتبطة بالإستخبارات الروسية، وفق التقرير، تحمل اسم Fancy Bear، وتعرف أيضا باسم، Sofacy و Apt 28. والمجموعة الثانية تحمل اسم Cozy Bear ، وأيضا - Apt 29. وتزعم الشركة أن كلاهما من بداية القرن الحالي تعملان في مجال القرصنة الحكومية والعسكرية والإعلامية وضد المنظمات التجارية في جميع أنحاء العالم. وحقيقة أن المسؤولية عن الهجوم على الديمقراطيين أعلنت لاحقا من قبل قراصنة تحت اسم مستعار Guccifer 2.0 من رومانيا، (وهي تنفي علاقتها باجهزة الامن الروسية بشكل قاطع)، لم تغير رأي الباحثين، الذين لم يستبعدوا أن البيان "قد يكون جزءا من حملة منظمة من قبل موسكو للتضليل."

نتائج CrowdStrike أكدتها اثنتين من أكبر الشركات الأمريكية العاملة في مجال الأمن السيبراني (مانديانت وفيديليس). من وجهة نظرهم، خصائص البرمجيات الخبيثة التي وجدت على خوادم اللجنة الوطنية الديمقراطية، تجعل من المحتمل جدا أن نؤكد أنه عملية الاختراق نفذت من قبل أجهزة الخدمات الخاصة الروسية، وليس أحد آخر.

بعض أدلة هذه الشركات الأمريكية، يوحي بأن وكالات الاستخبارات الروسية تضم أشخاصا أغبياء جدا، أو أن القراصنة المقلدين لهم غير أكفاء للغاية. فواحدة من الوثائق المخترقة من الحزب الديمقراطي، تم تغييرها من قبل القراصنة، ونسي القرصان اسمه "فيليكس ادموندوفيتش" مكتوبا هناك. وفي بضع وثائق أخرى، كتبت ملاحظات باللغة الروسية.

وبغض النظر عن مدى صحة هذه "الأدلة"، هيلاري كلينتون اتهمت علنا السلطات الروسية باختراق خوادم حزبها، قائلة ان الكرملين بهذا الشكل، يدعم الجمهوري دونالد ترامب. ومع ذلك، فقد اشتكى الجمهوريون أيضا من أن شبكة أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم تعرضت لهجوم سيبراني.

موسكو أعلنت عدم صلتها بهذه الحوادث. وأكد فلاديمير بوتين في مقابلة أجراها مؤخرا مع "بلومبرغ"، أنه لا يعرف شيئا حول هذا الموضوع، موضحا أن "الكثير من المتسللين اليوم، يعملون بدقة شديدة، ويتركون بصماتهم في المكان المناسب وفي الوقت المناسب - أو حتى بصمات ليست لهم، لتمويه أنشطتهم في إطار نشاط قراصنة آخرين من بلدان أخرى. هذا شيء يصعب التأكد منه، إن لم يكن من المستحيل التحقق من ذلك. على أية حال، نحن لا نمارس هذه الأمور على مستوى الدولة".

من تصريحاته، يتضج أن الرئيس الروسي يعي جيدا ما يحدث. وفي الوقت نفسه، دعا الرئيس الروسي إلى إيلاء مزيد من الاهتمام بـ"ما كشف للجمهور" بدلا من الانخراط في "قضايا بسيطة تتعلق بالبحث عن الشخص الذي فعل ذلك."

إلا أن السياسيين والخبراء الأمريكيين لا يعتبروا مسألة إمكانية التأثير الروسي على حملتهم الانتخابية غير مهمة. فظهرت نداءات - بما في ذلك من الكونغرس - لمساءلة الروس. على سبيل المثال، فرض عقوبات جديدة ضد موسكو. ولحسن الحظ، الحق في فرض تدابير تقييدية ردا على هجمات سيبرانية من قبل دولة أخرى، يملكه فقط الرئيس باراك أوباما بعد أن منح نفسه هذه الصلاحية في العام 2015. رئيس البيت الأبيض، مع ذلك، امتنع عن توجيه الاتهامات ضد موسكو. فممثلو مجتمع الاستخبارات وإنفاذ القانون في الولايات المتحدة، أعلنوا للصحفيين بشرط عدم الكشف عن هويته، أنهم يشتبهون في تورط روسيا.

من المنشطات إلى الانتخابات
استمرت الهجمات في هذه الأثناء. إذ أعلنت مجموعة قراصنة لم تكن معروفة سابقا، تحمل اسم The Shadow Brokersعن اختراقها لواحدة من إدارات وكالات الاستخبارات الاميركية الأكثر سرية - وكالة الأمن القومي الأمريكي، والتي يتولى رئيسها مايكل روجرز في نفس الوقت، القيادة السيبرانية للبلاد. وكدليل على نجاحهم، نشر القراصنة على شبكة الإنترنت عددا من البرامج الخبيثة المستخدمة من قبل وكالة الأمن القومي للتجسس على المستخدمين في جميع أنحاء العالم، وغيرها من العمليات السرية.

ومن جديد، يشتبه خبراء الولايات المتحدة بتورط موسكو. وهذه المرة مع استنتاجاتهم اتفق بشكل غير متوقع موظف وكالة الأمن القومي السابق إدوارد سنودن، الذي منح حق اللجوء في روسيا. وكتب سنودن على تويتر "الأدلة الظرفية والحس السليم يدل على مسؤولية موسكو". ووفقا له، مسألة اختراق وكالة الأمن القومي وإزاحة الستار عن أدوات التجسس لدى هذه المنظمة، تشير ليس إلى عملية استخباراتية، بقدر ما هي سياسية ودبلوماسية. الغرض منها – تحذير أنصار الاجراءات الصارمة، من أنه في حال استخدام الضغط والعقوبات ضد روسيا، ستكون متاحة للجمهور مجموعة كبيرة من المعلومات حول عمليات تجسس واشنطن ووكالة الأمن القومي، والتي يمكن استخدامها بما في ذلك ضد الدول – الحليفة للولايات المتحدة.

ولم يتوقف المخترقون عند هذا الحد، فمؤخرا، تم اختراق قاعدة بيانات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات. وسرقت من هناك، ونشرت مواد على موقع fancybear.net، ومنها أصبح معروفا أن لاعبتا التنس الأمريكيتين سيرينا وفينوس وليامز، والبطل الاولمبي أربع مرات في عام 2016 في الجمباز سيمون بايلز، وحتى عدد من الرياضيين الحائزين على ميداليات، سمح لهم بتعاطي المخدرات غير المشروعة، بزعم أنهم مرضى.

واتهمت الوكالة الدولية رسميا القراصنة في روسيا بالأمر. في موسكو، وبطبيعة الحال، تم إنكار كل شيء. وفلاديمير بوتين مرة أخرى، كما في مسألة تسريب مراسلات الديمقراطيين، أكد أن السلطات الروسية "لا تدعم ما يقوم به الهاكرز"، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن "ما قاموا به، لا يمكن ألا يثير اهتمام المجتمع الدولي."

وفي هذا الصدد، القرصنة، بالطبع، تبدو أداة سياسة جذابة للغاية. فكشف هوية المعتدي السيبراني صعب للغاية مع اليقين المطلق، بل وأحيانا مستحيل، وفي الوقت نفسه، النتائج غنية للغاية. تلومون روسيا على انتهاك مبادئ الديمقراطية؟ أنتم نفسكم تقدمون مرشحا على حساب الآخر. تقولون أننا اخترقنا حواسيبكم؟ لديك وكالة كاملة، مهمتها الاختراق والتجسس على المستخدمين في جميع أنحاء العالم. الرياضيون الروس تعاطوا المنشطات؟ فلتنظروا لرياضييكم أولا. وشكرا للفرسان المجهولين لأنهم أظهروا الحقيقة للعالم.

لا عجب الآن من أن ممثلي أجهزة الاستخبارات الأمريكية والكونغرس يشعرون بالقلق الشديد من أن الأجهزة الخاصة الروسية عن طريق تخريب الحواسيب، ستحاول اختراق نظام فرز الأصوات، وفقا لصحيفة "واشنطن بوست"، "لنزع الثقة عن الانتخابات الرئاسية القادمة والمؤسسات السياسية في الولايات المتحدة". الإغراء بالتأكيد عظيم حقا.

اللعب وفقا للقواعد ومن دونها
في بداية شهر سبتمبر، في خضم فضيحة القرصنة، التقى باراك أوباما مع بوتين (على هامش قمة مجموعة الـ20 في الصين). وكان الأمن السيبراني واحدا من موضوعات المحادثات، إلا أن رئيس البيت الأبيض لم يكن عند مستوى توقعات "الصقور"، فقد خرج للصحفيين عقب الاجتماع وامتنع عن مناقشة التقدم المحرز في التحقيقات الجارية، وقال بشكل غامض إن الولايات المتحدة "في الماضي عانت من مشاكل مع الاختراقات الكمبيوترية من روسيا ودول أخرى."

وأشار أوباما إلى أن الولايات المتحدة لديها قدرات هي الأكثر تقدما في المجال الإفتراضي "على حد سواء الدفاعية والهجومية" لكنه أضاف: "هدف الولايات المتحدة ليس تكرار السباق في مجال التصعيد، مثل الذي رأيناه في الماضي في سباق التسلح. بدلا من ذلك، نريد أن نحقق اعتماد قواعد السلوك المسؤول في الفضاء الإلكتروني". وقال رئيس البيت الأبيض أنه ناقش هذه المسألة مع نظيره الروسي وقادة الدول الأخرى.

فكرة اعتماد قواعد سلوك الدول في الفضاء الإلكتروني، صدرت للمرة الأولى عن روسيا. ففي خريف عام 2011، بدأ الدبلوماسيون الروس العمل على اتفاقية في الأمم المتحدة "لضمان أمن المعلومات الدولي"، تحدد قواعد استخدام الإنترنت، مع الأخذ بعين الاعتبار التحديات العسكرية والسياسية والجنائية والإرهابية. بالإضافة إلى حظر استخدام الشبكة للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وإسقاط الأنظمة غير المرغوب فيها، وعرضت روسيا منح الحكومة حرية واسعة للعمل ضمن "القطاعات الوطنية" للإنترنت. ناقشت الورقة أيضا حظر عسكرة الفضاء الإلكتروني، وعلى وجه الخصوص، تجنب "استخدام تكنولوجيا المعلومات لأعمال عدائية"، بما في ذلك هجمات القراصنة.

إلا أن المبادرة الروسية لم تحرز تقدما. واعتبرتها الولايات المتحدة وحلفاؤها رغبة الطرف الأضعف للحد من إمكانيات الدول القوية لتطوير تكنولوجياتها. ووصفت واشنطن اقتراح حظر البلدان من تطوير تكنولوجياتها الهجومية بالأمر "غير الواقعي"، مشيرة إلى أن الترتيبات التقليدية (مثل معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية) لن تكون فعالة في الفضاء الإلكتروني. واعتبرت طلب اعتماد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول على شبكة الانترنت ومنح الحكومات مزيدا من السلطة - "عنصر تحكم لتعزيز رقابة الدولة في الشبكة"، في حين أن حكومة الولايات المتحدة، من حيث المبدأ، لا تعتبر أنه من الضروري اتخاذ أية قواعد خاصة لسلوك الدول في الفضاء الإلكتروني، على افتراض أن جميع القضايا العالقة يمكن حلها عبر المعايير الدولية القائمة.

ومنذ ذلك الحين، شهد موقف واشنطن تغييرات كبيرة. وجاءت نقطة التحول بعد الزيادة في حالات التجسس الإلكتروني من قبل الصين، وسلسلة من الهجمات الإلكترونية على بنوك الولايات المتحدة، تشتبه واشنطن في أن ايران وراءها، والتهديد المتزايد من الإرهاب السيبراني. منذ عام 2013، تعتبر الحكومة الأمريكية رسميا أن هجمات الإنترنت هي التهديد الأول للأمن القومي - سابقا كان الإرهاب الدولي على رأس القائمة.

وقد تم تحقيق أكبر قدر من التقدم في مسألة اعتماد الدول لاتفاق حول المجال الإلكتروني في صيف عام 2015، عندما وضعت مجموعة من خبراء أمن المعلومات الدولي في الأمم المتحدة (تضم ممثلين من 20 دولة، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة والصين) أساسا لنوع من اتفاق عالمي على عدم الاعتداء الإلكتروني. وفقا للاتفاق، تتعهد الدولة باستخدام التقنيات السيبرانية "حصرا لأغراض سلمية". من بين أمور أخرى، يفترض أنهم لن يقوموا بمهاجمة البنية التحتية الحساسة (محطات الطاقة النووية، والبنوك، ونظم إدارة النقل، وما إلى ذلك)، والتوقف عن إدراج البرمجيات الخبيثة في المنتجات التي تنتجها تكنولوجيا المعلومات الخاصة بهم، والامتناع عن تراشق التهم العشوائي ضد بعضهم البعض في الهجمات الإلكترونية، وبذل جهود لمكافحة المتسللين، والمشاركين في عمليات التخريب الكمبيوتري من أراضيهم أو من خلالها.

معايير مجموعة الأمم المتحدة، لديها عيب كبير: هي طوعية فقط. ومع ذلك، للموافقة على هذه القواعد غير الملزمة، استغرق الأمر عدة سنوات. والتكهن بالموعد الذي ستصبح فيه هذه النوايا الحسنة قانونا، أمر صعب للغاية اليوم، لا يتحمل مسؤوليته حتى أكثر المتفائلين. بسبب خصوصية التقنيات السيبرانية، من غير الواضح تماما كيفية مراقبة استخدام هذا القطاع. في غياب أي قيود. ومع الأخذ بعين الاعتبار، انعدام ثقة اللاعبين الرئيسيين ببعضهم البعض، سيستمر الجميع في تسليح أنفسهم.

مثل هذا الوضع خطير أيضا لأن الدول الرائدة في المجال المعلوماتي والإلكتروني، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة، وضعت الهجمات الإلكترونية على قدم المساواة مع العمل العسكري التقليدي، معلنة عن حقها في الرد عليها كعمل من أعمال العدوان. وبما أن تتبع مصدر الهجوم في الفضاء الإلكتروني من الصعب جدا، لا يمكن استبعاد أن أي طرف ثالث سيحاول دفع  موسكو وواشنطن إلى المواجهة.

الأمل الوحيد، يبقى معلقا على الخط الساخن، الذي أطلقه بوتين وأوباما في يونيو/حزيران عام 2013. بين موسكو وواشنطن لمنع وقوع الحوادث السيبرانية وتحولها إلى أزمة شاملة، لذلك تأسس خط تواصل معلوماتي يعمل على مدار الساعة – هذا الخط يماثل ذلك الذي أطلق في الحقبة السوفيتية للحد من المخاطر في المجال النووي.