الديقراطية في سوريا خط الدفاع الأخير ضد الفدرلة

21.03.2016

فجر الأكراد السوريون مفاجئة من العيار الثقيل هذا الأسبوع عندما أعلنوا من جانب واحد ما سمي "فدرالية شمال سوريا" بين الأكراد و الأتراك والعرب، وغيرها من القوميات في المنطقة، أو بعبارة أخرى، ما يتصوره الأكراد بهذا الإعلان ان يصبحوا في يوم من الأيام " فدرالية داخل نظام فدرالي(فدرالية البوسنة والهرسك التي أعلنت في ظروف بلاد تعاني من اختلال هيكلي وظيفي يعتبر مقارنة ملائمة) مع العلم أن مثل هكذا فدرالية وما تبقى من سوريا يمكن أن يتشظى بشكل فظيع وتتحول البلاد إلى مشهد من المجموعات القائمة على أسس مختلفة الهوية والتعريف إذا لم يتم وضع حد لفيروس الفدرلة في مهده قبل أن ينتشر.
بغض النظر عن ما ستؤول إليه الأحداث في نهاية المطاف تبقى الحقيقة أن هذا الإعلان الكردي القائم على المصلحة الذاتية سيتبدد في مواجهة كل ما قام به الجيش العربي السوري وشعبه على مدى السنوات الخمس الماضية للحفاظ على طبيعة ووحدة دولتهم،  وبالتأكيد سيؤدي إلى الكثير من التوتر في محادثات جنيف الثالثة الجارية.
ما فعله الأكراد في خطوة واحدة هو تغيير دراماتيكي في طبيعة محادثة المصالحة السورية الداخلية، وطرح رسمي لفكرة "الفدرالية".
وعلى الرغم من أن إعلان الأكراد هذا الذي يوتر الوضع قد يتحول في نهاية المطاف إلى واقع، إلا أنه لا يزال بعيدا كل البعد عن التحقق والوصول إلى الهدف المعلن في خضم كل ما يقال ويتم فعله. ومن المرجح أن هذه الخطوة الكردية تأتي في سياق مناورة سياسية محسوبة لتأمين مقعد لهم في جنيف. . وبغض النظر عن دوافعهم، فإنه لا يمكن إنكار أن "عفريت الفدرلة" خرج من "قمقمه الفكري" ليأخذ مكانه في صلب الأحداث، ولكن هذا التشاؤم لا يعني أن مشروعهم لا رجعة فيه ولا مفر منه، وأنه لا يوجد وقت كاف لوقفه.
وهنا يتجسد احتمال كبير بأن الشعب السوري، كما فعل سابقا وخصوصا في سياق السنوات الخمس الماضية، سوف يقول كلمته في التصويت ضد الفدرلة ولصالح المرشحين الموالين لوحدة سوريا وذلك خلال الانتخابات التشريعية المقبلة في 13 أبريل/نيسان، وستكون إشارة قوية أن الشعب السوري يرفض هذه الفكرة الخارجية. ومع ذلك، فإن الغرب لديه حيله وأساليبه في التعامل فقد تقوم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالاعتراف بالحكومة الفدرالية في سوريا قبل الانتخابات بحيث  يتمكن السوريون الموالون للفدرلة في المناطق التي تسيطر عليها حاليا قوات كردية بتتزوير الانتخابات وإظهار لائحة واحدة أثناء التصويت.
تحايل وأوهام
في حين يبدو في البداية كما لو أن الأكراد مستميتين لإقامة فدرالية حكم ذاتي شبه مستقلة في شمال سوريا - وكثير منهم قد يدعم هذه النوايا – إلا أنه من المحتمل أيضا أن توقيت هذا الإعلان قصد منحهم قوة مساومة للحصول على مقعد في مفاوضات جنيف. وهذا ما تقف معه كل من روسيا والولايات المتحدة، ولكن الإطار التنظيمي للمحادثات ينص على ضرورة موافقة جميع الاطراف في الاتفاق على إدراج أي مشارك آخر، وهنا تعتبر تركيا العقبة الوحيدة المعلنة في وجه مشاركة الأكراد في المفاوضات.
ولنكن أكثر دقة، فإنه ليس بالضرورة أن تكون تركيا هي المشكلة، ولكن الرئيس رجب طيب أردوغان، وما يقال بوضوح أنه ضد الإرادة المشتركة لكل من روسيا والولايات المتحدة، والتي تأتي بشكل غير مسبوق في الحرب الباردة الجديدة لدعم أكراد سوريا، يظهر حجم رأس المال السياسي والعسكري الذي استثمرته الولايات المتحدة في هذا الملف حتى بلغ هذه النقطة، ومن المعقول التفكير مليا فيما إذا كانوا يريدون إشغال أردوغان في المستقبل القريب، والوقوف إلى جانب القوى المناهضة له عسكريا أو سياسيا، وهذا من شأنه أن يضعهم في نفس الجانب الاستراتيجي لروسيا الاتحادية.
عموما، لقد لعب الأكراد ورقتهم الأخيرة خلال الإعلان عن "فدرالية شمال سوريا" لأنه ليس هناك أسلوب واقعي للاعتراض على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وخرقه . . وبالتالي إثارة غضب كل من روسيا والولايات المتحدة، وهما الضامنان الأساسيان لهذا الاتفاق. ولذلك، فإن الدائرة المنطقية مرة أخرى تعود إلى نقطة تؤكد أن هذا كله جزء من لعبة جيوسياسية كبيرة على الأرض السورية في الوقت الراهن، يحاول فيها الأكراد توسيع المكاسب السياسية والعسكرية، والمساحات المكتسبة في السنوات الخمس الماضية بالتزامن مع إرادة واستماتة السلطات السورية الشرعية التي تفعل كل ما في وسعها لاستعادة كل شبر من أراضي سوريا والحفاظ على وحدة الدولة التي ضحت كل عائلات سوريا من أجلها.
وعلى صعيد متصل مع الدوافع الأخيرة، فإن سعي سوريا لإدراج مسألة مرتفعات الجولان المحتلة من قبل إسرائيل في محادثات جنيف يمكن النظر لها بأنها واقعية وذات صلة، في حين أنه من غير المرجح عودة هذه الأرض التاريخية في أي وقت قريب (بغض النظر عن نتيجة جنيف الثالثة، من الجيد إثارة مسألة مرتفعات الجولان أمام الاهتمام العالمي)، ومن المرجح أن طرح هذه المسألة في هذا الوقت بالتحديد هو واحدة من حيل دمشق التفاوضية. بحيث تتمكن دمشق بشكل تكتيكي بإقناع الولايات المتحدة للضغط على الأكراد للتنازل عن طموحات الفدرلة وقبول شكل أكثر آخر من أشكال الحكم الذاتي بسيط.
صوت الشعب
ما ينسى كل المعلقين التحدث عنه هو أن الدستور السوري الحالي لا يسمح  بالفدرلة ولا بالحكم الذاتي، وبالتالي فإن أي إعلان من هذا النوع أي بإنشاء كيان فيدرالي يعتبر إعلاناً فاقداً للشرعية بوجود الدستور الحالي وبالتالي لا يمكن تنفيذ مثل هذا الإعلان إلا بعد تعديل الدستور الحالي أو تغييره. وكما يجب أن يكون, حسب قرار مجلس الأمن الولي رقم 2254 , الذي صرح بوجوب مراجعة الدستور الحالي وصياغة دستور جديد للبلاد, مما يعني إمكانية إجراء هذه التغييرات المطلوبة لتجعل الفدرلة أو الحكم الذاتي أمراً مشروعاً.
لا يوجد مهلة محددة لإنجاز شيء كهذا والشرط الموجود في القرار الدولي بإنجاز ذلك خلال ثمانية عشر شهراً ( أي حتى تموز 2017 ) بدون تحديد واضح لتاريخ إنهاء صياغة الدستور. وبالتالي فإنه من الممكن أن تطول النقاشات لأشهر عديدة حتى يتم الاتفاق على فقرة الفدرلة أو الحكم الذاتي. وبالتالي فإن الانتخابات القادمة في 13 أبريل/ نيسان القادم سوف تحدث قبل وجود أي دستور جديد للبلاد يسمح بتقسيم أو إعادة تقسيم البلاد ولكن هذا لا يعني مطلقاً أن ما يجري ليس ذو صلة بالعملية الإجمالية التي تجري الآن.
الانتخابات القادمة هي انتخابات شرعية بنظر مجلس الأمن الدولي وسوف يتم تغطيتها من قبل وسائل الإعلام العالمية, أما السوريون فإن لديهم فرصة وحيدة لجعل أصواتهم مسموعة بشكل واضح عندما يختارون الشخصيات الوحدوية التي تناهض الفدرلة أو الحكم الذاتي. بهذه الطريقة فقط يمكن للسوريين أن يدحضوا الإدعاءات الغربية التي تدعو إلى الفدرلة وذلك ببعث رسالة قوية بأنهم ضد الفدرلة وأن هدفهم هو الحفاظ على وحدة بلادهم.
لقد كان السوريون متميزين بغيرتهم عندما توجهت حشود الناس لانتخاب رئيس للجمهورية عام 2014 حيث تم انتخاب الرئيس بشار الأسد بنسبة 88.7% , وحسب تاريخهم المدني السابق فإنه لا مجال للشك بأنهم سيفعلون نفس الشيء لحماية وطنهم من المؤامرة الخارجية التي تدار ضدهم. يجب على المتابع أن يعلم أن تغيير نظام الأسد هو الآن أقل أهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في هذه المرحلة الحرجة من موضوع إعادة بناء سوريا بشكل جديد ولمدة طويلة تضمن لأمريكا وحلفائها ميزات جيواستراتيجية وذلك من خلال زرع الفيدرالية في الدستور الجديد, ليستطيع الغرب من خلال مثل هذه الخدعة تحقيق طموحاته.
اللعب القذر
أغلب الظن أن الشعب السوري سوف ينظر للانتخابات القادمة بأنها استفتاء على الفدرلة وأنه سوف يصوت بأغلبية ساحقة ضد مثل هذه الخطة، لذلك فإن الولايات المتحدة قد تأمر حلفائها الأوروبيين للعب الورقة المكشوفة في نهاية المطاف وذلك من خلال عملية يائسة لمحاولة عرقلة المسيرة التي تقود إلى تحقيق السيادة السورية. كما هو معروف فإن معظم الدول الأوروبية الكبرى لا تعترف بالقيادة الشرعية والمنتخبة ديمقراطيا للرئيس بشار الأسد، وبالتالي ليس لديهم أية علاقات دبلوماسية أو تمثيل دبلوماسي في دمشق.

إن هذه الأوضاع ستعقد الأمور على الغرب وتصعب عليهم عملية التدخل في الانتخابات القادمة وتأمين الأشخاص السوريين الذين يكونون معهم ضد الحكومة ومع الفدرلة من الذين هاجروا إلى الكثير من الدول الغربية للذهاب إلى السفارات واختيار الأشخاص المتفقين معهم في الرأي. سيكون من الصعب طبعاً على الأوروبيين بدون إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا, وهذا لن يتم إلا بالاعتراف بشرعية الرئيس الأسد, كي يستعيد هؤلاء المهاجرين حقوقهم الانتخابية عكس ما  كان الأمر عليه في انتخابات 2014 .
لذلك من الممكن أن تضغط الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها الأوربيين للاعتراف بشرعية الرئيس الأسد قبل  13 أبريل/ نيسان من أجل أن يتمكن هؤلاء المهاجرون من التصويت في الانتخابات واختيار الأشخاص المؤيدين للفدرلة وغير المؤيدين لوحدة الدولة السورية وبالتالي التخلص من نتائج التصويت المتوقعة لصالح الدولة السورية.
حتى لو لم يستطيعوا الحصول على الغالبية النيابية المؤيدة للفدرلة ولو حصلوا فقط على نسبة تتراوح بين 20 و 33 % من المقاعد النيابية فإنهم سيستطيعون دعم حجتهم بضرورة إرضاء الأقلية ووضع إمكانية الفدرلة في الدستور السوري. كإجراء احتياطي يمكن لدمشق أن تسن مرسوماً أنه يمكن للسوريين التصويت في سفارات بلدانهم في الخارج أو العودة إلى الوطن للحصول على الوثائق والتصويت داخل الوطن. إن مثل هذا الإجراء الذكي يمكن أن يخلص الوطن من الانتهازيين الذين سيختارون أوروبا بدلاً من العودة إلى الوطن من أجل التصويت.
لا شك أن السوريين سيرون من خلال هذه المسرحية أن الأوربيين سيحاولون اجتذابهم, بينما سيكون معياراً مهما إذا حاول الأوربيون إقامة علاقات جيدة مع سوريا بعد الاعتراف بشرعية الرئيس الأسد بدلاً من التحايل بطرق مختلفة لاستمرار النزاعات داخل الوطن السوري وتقسيمه إلى كيانات متحاربة بما يخدم أهداف الولايات المتحدة وحلفائها.
إن أعداء الوطن السوري سيحاولون إضعاف سوريا إما من خلال بلد موحد يحكمه مجموعة من الجشعين أو تقسيم سوريا إلى كيانات منفصلة يشكل فيه كل كيان جيشه الخاص مع العلم أن المنطقة من دمشق إلى حمص إلى الساحل ستبقى بيد الجيش السوري وسوف يتحكم أعداء سوريا بهذه الكيانات الصغيرة وجيوشها.

أفكار ختامية
وبصفة عامة فإن إعلان الأكراد من طرف واحد تشكيل "اتحاد شمال سوريا" أمر مقلق بالتأكيد.إنها تظهر كخطوة متعمدة ومحسوبة التوقيت مع استئناف محادثات جنيف الثالثة لكي تضمن مقعداً للأكراد على طاولة التفاوض. فيما إذا كان الأكراد سيصرون على هذا الإجراء أو سيكونون أكثر واقعية فإن القرار في النهاية يعود للشعب السوري الذي سيقرر إذا كان سيعطي لممثليه أو لحكومته الحق على هذه الصلاحيات أم ستمسك ببلد موحد يعيش فيه الجميع بحقوق متساوية.
إن هذا يفتح الإمكانية بأن تكون الانتخابات القادمة في 13 نيسان استفتاءاً شعبياً على موضوع الفدرلة, وإذا صوت الوطنيون السوريون لصالح وحدة بلدهم بنفس الحماس الذي صوتوا به لصالح انتخاب الرئيس بشار الأسد فإنهم سيرون العالم بقوة كيف أنهم يرفضون الضغوط وكيف يقفون صفاً واحداً ضد هذه المؤامرة الخارجية على بلدهم. وفي نفس الوقت سوف تسعى الولايات المتحدة بالضغط على حلفائها للإعتراف بالرئيس الأسد وإقامة العلاقات مع دمشق لضمان استغلال أصوات السوريين المقيمين في أوروبا لتحقيق نسبة ما من المقاعد تستطيع من خلالها التحكم بالقرار السوري.
إن السوريين سيكونون قادرين على تمييز حيلة الاعتراف برئيسهم أو إقامة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق, وبغض النظر عن مدى تأخر هذا الأمر وأخلاقيته, فإنهم يعلمون أن الغرب لا يفعل هذا من منطلق أخلاقي بل لمحاولة السيطرة على البلد بكامله ولمنع سوريا من تحقيق النصر الدبلوماسي. لذلك يجب على السوريين أن يسألوا أنفسهم هل يريدون رئيساً معترفاً به من الغرب يحكم بلداً فيدرالياً ضعيفاً؟ أم رئيساً قوياً يحكم بلدا موحداً معترفاُ به من جميع الأقطاب الدوليين يستطيع أن يجد حلاً تكتيكياً للقضية الكردية وضمان حقوق الأكراد بدلاَ من الفدرلة التي لا يعلم أحد نتائجها المستقبلية؟ 
 

.