البحث عن وطن مستحيل في سوريا والعراق ولبنان
«يصعب على المشرق أن يكون وطناً».
الأرض تغيّرت. كانت بلاداً وكيانات. لم تعُد كذلك. الحروب سفكتها. توزّعت وتبعثرت شعوب. توغلت بدمائها ولا تزال. لم يبق من تلك البلاد ما يدل عليها، غير الخرائط القديمة. الخرائط الجديدة مكتظة بالخنادق والتنظيمات والطوائف والمذاهب وجثث بلا أسماء. يبدو أن المشرق لم يكن وطناً لأحد من قبل. ربما كان طموحاً انكسر مراراً، حتى انتحر.
فأيّ مشرق غداً؟
حلب فتحت السؤال على مصير سوريا. تراجع «داعش» في العراق يرسم صورة للعراق. اليمن محسوب على الخراب إلى أن ينتقل مجانين الحروب ومجانين المشاريع. لبنان مكتفٍ بفراغه وصامد فيه بلا كلل. ومع ذلك، التغيرات السياسية الدولية والإقليمية تشي بإمكانيات التفاوض. حلب قد تفتح الطريق إلى جنيف.
فأي سوريا غداً؟ أي عراق؟ أي يمن؟ وأي لبنان أيضاً؟
وأي مشرق غداً؟
تجارب الحروب الأهلية، غير المستقلة عن التدخلات الخارجية، أفرزت نتائج متباينة. يلوح خطر التقسيم، وهو ليس حتمياً. يتأكد «سرطان» الاقتسام، كحل لاستحالة الفصل وصعوبة الوصل، بين «المكوّنات» المكتوية بالثأر والكراهية والحقد، وتراث العداء وحصيلة المعارك وعدد المجازر وأرقام الضحايا. لا أشكال جاهزة بعد.
الحرب الأهلية القبرصية السريعة جداً، انتهت بالتقسيم: قبرص التركية وقبرص اليونانية. عدم الاعتراف الدولي بقبرص التركية لا يلغي واقع وجود الدولة بكامل أجهزتها. كان لبنان مهدّداً بالقبرصة. خاض حروبه كلها ولم يتقبرص. لم ينقسم. ظل دولة واحدة، استعاد «عيشه المشترك» بالتي هي أحسن، وبالزغل السياسي المصاحب. لم يتقسّم لبنان لكنه خضع للانقسام بين مكوناته. «اتفاق الطائف» أعاد اللحمة الشكلية للبلد. التنفيذ السيئ والمتعمد «للطائف» أنشأ «كيانات موازية» للدولة، داخل الدولة وجغرافيتها. لبنان ليس وطناً، ولا كان كذلك، إلا بالشعر. الواقع يؤكد وجود «وُطَيْن» لكل مكوّن طائفي ومذهبي. فلبنان هو تحالف وتخالف «وُطَيْنَات». الانقسام هو القاعدة.
الحرب الأهلية المتمادية في السودان انتهت إلى التقسيم. ثم اقتسام المقسّم في الجنوب. الصومال، بلاد من الرمال المتحركة والقبائل النازفة ومواعيد التطرف والتفكير... وعليه، قد تتشابه الحروب ولكن نهاياتها مختلفة.
سوريا الواحدة الموحّدة، بحاجة إلى انتصارات منجزة وهزائم محققة. هذا ليس ميسوراً بعد. «حلف النظام» حقق نصراً في معركة حاسمة ومديدة. لكن الحرب لم تنته بعد. السعودية مستعصية على الحلول الوسطى. مثلها مثل النظام عندما ينطق بالسياسة. الرياض ترى إلى التسوية من باب المستحيل راهناً، واقفة عند «جنيف واحد»: «مجلس حكم انتقالي يدير شؤون سوريا»، وهو ما يرفضه النظام، فـ «حتى يقبل الأسد هذا المسار سيستمر القتال. ويموت الناس». يستشهد الجبير بحتمية التشابه بين البوسنة وبين سوريا: «الحل العسكري خيار وحيد. بشار الأسد انتهى... حين كان القتال جارياً في البوسنة قيل إن لا حل عسكرياً ولا تدخل خارجياً، بل حل سياسي، ثم تدخل العالم». سوريا هذا مصيرها سعودياً: حرب عالمية عليها بقيادة ميدانية سعودية، لإسقاط بشار الأسد وفرض الحل السياسي عليها.
ولكن ذلك دونه استحالة. البوسنة لم تكن حرباً أهلية ودولية ميدانياً. سوريا كذلك. العالم كله منخرط في الصراع السوري والعالم لم يتعب بعد. فلا «محور الممانعة» انهزم ولا «محور المسالمة» انتصر... فأي مصير لسوريا بعد الحرب المديدة؟
الظن الغالب هو صعوبة الاقتسام. قد تبقى سوريا موحّدة على الأرض، وتحديداً بعد القضاء على دولة «داعش»، التي استقرت كياناً عابراً لحدود الخرائط المرسومة منذ قرن. قد تبقى موحّدة ولكن مقتسَمة، بين «مكوناتها» التي ساهمت في تدميرها (بئس هذه المكوّنات كلها، بلا استثناء). سيكون للأكراد وضع جغرافي خاص ووضع سياسي مناسب لأقل من طموحهم. سيكون للجالسين إلى طاولة التفاوض حصص، ولو لم يقرها الدستور العتيد. دستور لبنان بريء من التقاسم والاقتسام، اتفاق الطائف كذلك، وهذا ما لا نجده في العراق. الدستور هناك «احترم» المكونات الكردية والسنية والشيعية. المكوِّن العربي التَهمته الحروب. سحقه الاستبداد. يتناسب هذا الغياب لهوية الوطن مع مشرق خالٍ من الأوطان، أو خال من وطن. سيكون المشرق، تجمُّع «وُطَيْنَات» صغيرة، اثنية ومذهبية ودينية، لاستحالة ولادة وطن، بعد حروب بلا شعار وطني واحد، أو بلا عروبة.
العراق، لم يعُد وطناً للعراقيين. «الوُطَيْن» الكردي يتقدم بلا اعتراف محلي أو إقليمي أو دولي. يتصرف الأكراد كدولة وكيان. ما تبقى من بلاد ما بين النهرين، يُتوَّزع ويُتقاسَم. يصنَّف «الأخوة في الدين» و «الأعداء في المذهب». الوطنية العراقية انفرط عقدها. تصعب لملمة حبّاتها، كلبنان، إن جازت المقارنة. «الوطنية اللبنانية» بأساسها، كانت مزغولة، ولا تلقى إجماعاً. الإجماع معقود اليوم على «حقوق المكوّنات» ومكتسبات الجماعات. المسيحيون، يصرخون لاستعادة حصتهم التي تقاسمها «تحالف السنة والشيعة والدروز، بغطاء سوري». بعد اتفاق الطائف، تقاسم هذا التحالف «التركة المسيحية»، التي أفلست قياداتها في الحرب، فسُجنت وأبعدت واستبدلت بملحقات الطوائف غير المسيحية.
لبنان، ليس وطناً، ولا هو وطن اللبنانيين. اللبنانيون المفترَضون، هم أولاً ليسوا لبنانيين. وطنهم الصغير، هو مذهبهم بحدوده الجغرافية والسياسية والعدائية.
غداً، إذا توقفت الحروب، سيكون لنا كيانات ودول، لأعداء يتقاسمون الأرض ويختلفون على كل شيء، باستثناء ما يجمعهم من نهب مشترك.
يصعب على المشرق، بعد الآن، أن يكون وطناً.
نصري الصايغ
نشرت للمرة الأولى في السفير