خطايا السياسة الخارجية الفرنسية
صدر في فرنسا تقرير استشاري سنوي حول السياسة الخارجية الفرنسية، تعده مجموعة من الخبراء، تضم عشرين شخصية عملت في وزارة الخارجية والسفارات الفرنسية في الخارج، ومنهم هيرفيه دو شاريت ورولان دوما وهوبير فيدرين.
وقد طرحت المجموعة رؤيتها للسياسة الخارجية الفرنسية مع التركيز على الأخطاء التي ارتكبت في عهدي الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، والرئيس الحالي فرانسوا هولاند.
ويتوقف التقرير أولاً عند دور فرنسا التاريخي على مستوى العالم من عهد شارل ديغول إلى عهد فرانسوا ميتيران، حيث تميّز بنوع من الاستقلالية التي أتاحت لفرنسا أن تقوم بدورها، بوصفها قوة عظمى، في حل بعض النزاعات الدولية. لكن هذا الواقع تغير الآن، ولم يعد لفرنسا أي دور على المستوى العالمي بسبب تبعية فرنسا المطلقة لأمريكا، ما أفقدها مصداقيتها ومكانتها، ولذلك تقترح مجموعة العشرين أن تعيد فرنسا النظر في سياستها الخارجية لكي تستعيد مكانتها الدولية.
وتحت عنوان “أوروبا نهاية مرحلة” تقدم المجموعة رؤيتها لواقع أوروبا الحالي، والأزمات التي تعصف بها والتي تهدد الاتحاد الأوروبي بالتفكك، من أزمة اليونان، إلى أزمة المهاجرين، وتضارب المصالح بين دول الاتحاد، وعدم فعالية مؤسسات الاتحاد المختلفة، واعتماد أوروبا في أمنها على الحليف الأمريكي.
وينصح الخبراء أوروبا بأن تعيد النظر في بنية الاتحاد، والعودة إلى الأسس التي قام عليها في الأصل، ويرون أن أوروبا تملك مقومات النهوض إذا توفرت الإرادة السياسية، وهي من أهم المراكز الديمقراطية في العالم، وتملك ثاني أهم عملة نقدية في العالم، وسوقاً اقتصاديةً واسعةً.
وحول التحالف مع أمريكا، يتحدث التقرير عن السياسة الفرنسية الخاطئة تجاه أمريكا، ويرى أن علاقة فرنسا بأمريكا تحولت إلى علاقة تابع بمتبوع، وبعد أن كانت السياسة الفرنسية تمتلك هامشاً من الاستقلالية يخولها القيام بدورها في العالم.
ويؤكد التقرير أن السياسة الفرنسية الحالية تضر بالمصالح الفرنسية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهيمنة أمريكا على العالم، وقيامها بحروب أدت إلى زيادة مشاكلها وأعدائها وتحميل حلفاء أمريكا نتائج ذلك، وإذا أرادت فرنسا الحفاظ على استقلالها، وهويتها السياسية، وأمنها في هذا العالم المضطرب، عليها ترك مسافة معينة بينها وبين أمريكا، لا أن تكون تابعاً بالمطلق للسياسة الأمريكية.
ينتقل التقرير بعد ذلك إلى الحديث عن علاقة فرنسا مع روسيا، ويرى أن أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، قد فوتت على نفسها فرصة ضم روسيا إلى الاتحاد الأوربي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بسبب خوف بعض دول الاتحاد التي كانت ضمن الكتلة الاشتراكية سابقاً من عودة الهيمنة الروسية بعد ظهور قوة روسيا من جديد، وظهور ملامح حرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن.
ويقول: لقد أخطأت أوروبا تجاه روسيا عند تدخلها في يوغسلافيا، وتوسيعها الحلف الأطلسي ليقترب من حدودها ويهدد أمنها القومي، ثم جاءت أزمة أوكرانيا وتدخل أوروبا فيها مع علمها بأن روسيا لا يمكن أن تتساهل في ما يخص أمنها القومي خاصة إذا جاء من الحلف الأطلسي.
ويتابع: لم تتفهم أوروبا مخاوف موسكو ودعمت الانقلابيين المعارضين لموسكو، واعتقدت أن بإمكانها اللعب في المجال الحيوي الروسي دون ردة فعل قوية من موسكو التي قامت بضم شبه جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين في المنطقة الشرقية ما أدى إلى اشتباكات دموية.
لقد أخطأ الغرب في فهم شخصية بوتين، فهو ليس ملاكاً، ولكنه ليس شيطاناً كما يصوره الإعلام الغربي، إنه قومي روسي يرى في انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر عار لحق بالأمة الروسية بفعل التدخلات الغربية، ولذلك يعمل على تدعيم القوة العسكرية الروسية الضامنة الوحيدة لأمن روسيا، ويعمل كذلك على تقوية الاقتصاد.
ويرى خبراء السياسة الفرنسية أن بوتين شخص واقعي يؤمن بالقوة، وقد أفاد من ضعف خصومه في الخارج، وساعده الوضع الداخلي على تثبيت حكمه، ومن الخطأ أن تبقى العلاقات سيئة بين روسيا والاتحاد الأوربي، وعلى فرنسا أن تبادر إلى إعادة الحوار السياسي مع موسكو، لأن مصالحها ليست مع أمريكا ولكنها مع روسيا، وخريطة الاتحاد الأوربي ناقصة في غياب روسيا وحلف باريس وبرلين وموسكو هو أكبر ضمانة للأمن في أوروبا.
ويتوقف التقرير عند أزمات الشرق الأوسط، والفوضى الحاصلة في بلدانه، ويحمل الغرب جزءاً من المسؤولية فيما يحصل بسبب الحرب على العراق، ثم إسقاط النظام في ليبيا، ودعم حركات التمرد التي ظهرت، خاصة في سورية، والذي أدى إلى ظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تهدد الأمن العالمي. ويخصص التقرير حيزاً كبيراً للحديث عن السياسة الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط، ويرى أنها سياسة تابعة، وغير مستقلة، وذات نظرة ضيقة لا تأخذ المصالح الفرنسية بعين الاعتبار. ويرى أن الضامن الوحيد للحفاظ على نفوذ فرنسا في المنطقة هو سياسة فرنسية مستقلة ومتوازنة.
ويؤكد التقرير على أن دعم الطموحات الديمقراطية لشعوب المنطقة يجب أن لا يكون على حساب استقرار المنطقة وأمنها، مع التركيز دائماً على المصالح الفرنسية. كما لا يمكن لفرنسا أن تقوم بدور فاعل في مكافحة الإرهاب، الذي يجب أن يكون الهدف الأول لفرنسا، إلا من خلال الحوار مع جميع الأطراف حتى أولئك الذين لا نتفق معهم، وعلى فرنسا أن تحاور دول المنطقة، وتتعاون مع روسيا وإيران في حل أزمات المنطقة.
وترى مجموعة الخبراء أن العواطف تسيطر على السياسة الفرنسية أكثر من التقييم الواقعي لمصالح فرنسا، ولهذا فإن قراءتها للأحداث خاطئة وغير واضحة، ما تسبب بخسارة بعض حلفائها العرب.
إن التدخل الغربي في المنطقة، في السنوات الأخيرة، أسهم في زيادة التوتر، وزعزعة الاستقرار، وعلى فرنسا أن تعود إلى سياستها التي كانت تحكم علاقتها بالعالم العربي قبل سنة 2007، من أجل الحفاظ على ما تبقى لها من علاقات عربية، ولكي تستطيع أن تكون وسيطاً مقبولاً في حل نزاعات المنطقة.
وحول ما يجب القيام به الآن في الشرق الأوسط، يرى الخبراء أن هناك أربعة لاعبين رئيسيين في المنطقة: تركيا، ومصر، وإيران، والسعودية، وكل دولة من هذه الدول تريد أن تقوم بدور مركزي لأسباب خاصة بها، وعلى فرنسا أن تتعامل مع هذه الحقيقة، خاصة أن تنافس هذه الدول أدى إلى الفوضى، وحالة عدم الاستقرار التي نشهدها.
ظهرت تركيا مع حزب العدالة والتنمية، في المرحلة الأولى، كنموذج لحكومة مسلمة ديمقراطية ومتحضرة، عملت على زيادة النمو الاقتصادي، وحل المشاكل مع جيرانها، إلى أن جاء الربيع العربي، حيث أرادت تركيا استغلاله وإدارته لتأخذ دور القيادة فيه، ومساعدة الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة في بعض دول المنطقة، وبدأ نظامها يتحول إلى نظام إسلامي أكثر تشدداً، ويضيف التقرير: “لقد أدت هذه السياسة التركية إلى تحول أكثر دول المنطقة إلى أعداء، خاصة النظام السوري الذي سعت تركيا إلى إسقاطه بكل الوسائل، حتى إنها دعمت داعش في الحصول على أسلحة، والتمويل عبر تهريب النفط، والسماح للمقاتلين بعبور الحدود”.
لكن داعش هاجمت تركيا، وقامت بعدة تفجيرات في المدن التركية، ما اضطرها لتغيير سياستها، والانضمام إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ثم جاءت المشكلة الكردية التي أصبحت أولوية لتركيا بسبب انعكاسها على الوضع الداخلي التركي، ما سبب توتراً في سياستها أدى إلى أن تكون تركيا عامل عدم استقرار، ومصدراً للتوتر، ولكن ذلك لا يمنع فرنسا من فتح باب الحوار معها من أجل إعادة الاستقرار، وتخفيف الاحتقان.
أما بالنسبة لمصر، فيشير التقرير إلى أن أولوية الحكومة المصرية هي محاربة الإخوان المسلمين، وإعادة التوازن إلى نظام اقتصادي كارثي، وعلى الحكومة الفرنسية أن تقف إلى جانبها في الاقتصاد، والثقافة.
ينتقل التقرير بعد ذلك للحديث عن إيران التي وقفت فرنسا ضدها تماشياً مع السياسة الأمريكية، لكن أمريكا اقتنعت بأن لإيران دوراً لا يمكن تجاوزه في المنطقة، إلا أن فرنسا تماشت مع السياسة السعودية المعادية لإيران، فبدت وكأنها تساند محور الرياض ضد محور إيران، وهذا خطأ سياسي كبير، لأن إيران لاعب إقليمي أساسي لا يمكن تجاهله، ولابد من إقامة علاقة طبيعية معها حتى تستطيع الشركات الفرنسية الوصول إلى السوق الإيرانية الواعدة اقتصادياً.
يختم التقرير هذا القسم بالحديث عن السعودية، حيث يرى أنها تواجه أخطاراً متعددة، وبأشكال مختلفة منها: الحكم العائلي، وتقدم أعمار الملوك في مواجهة جيل شاب يطمح لاستلام الحكم. يضاف إلى ذلك احتمال فقدان السعودية لأهميتها النفطية في ظل ظهور النفط الصخري الأمريكي، والعلاقة الأمريكية الجديدة مع إيران على حساب علاقتها مع السعودية، ما يعني عودة إيران بقوة إلى المنطقة.
كما أن موقف الرياض من التطرف الإسلامي غير واضح، فهي تموّل المجموعات الإرهابية، و"جيش الإسلام"، و"جيش الفتح" الذي يضم أطرافاً مرتبطة بتنظيم "القاعدة"، ومستقبل الأمور فيها غير واضح، وعلى الرغم من ذلك تبقى لاعباً أساسياً في المنطقة لابد من حوار فرنسا معها، خاصة في مجال النفط، وشراء طائرات الرافال.
أما فيما يتعلق بالأزمة السورية، فيشير التقرير إلى موقف فرنسا منها، وحالة العداء تجاه الرئيس بشار الأسد، ودعم المجموعات المسلحة، ويطرح التقرير مجموعة من الأسئلة: هل فرنسا بحاجة إلى سورية؟ وهل هي بحاجة إلى إعادة فتح قنوات الاتصال مع دمشق؟.
يأخذ التقرير على السياسة الفرنسية دعمها لحركة التمرد ضد النظام دون تقدير حظوظ نجاح هذا التمرد، ويقول: موسكو تدعم دمشق من أجل الأمن والاستقرار، ولهذا على فرنسا التنسيق مع موسكو للمساعدة في إيجاد حل سياسي على الرغم من صعوبة ذلك.
يعيش المتمردون حالة من الانقسام والتشرذم استغلها الإسلاميون المتشددون لتقوية نفوذهم، والسيطرة على الأرض، خاصة مع ظهور داعش التي تسيطر على جزء من الأراضي السورية والعراقية.
ويرفض الغرب التعاون مع النظام السوري للقضاء على "داعش"، كما ترفض فرنسا الفكرة تماماً، ولا نعرف إذا كان هذا الموقف صحيحاً.
ازدواجية الموقف الفرنسي غير مفهومة، فهي تريد محاربة "داعش"، وفي الوقت نفسه تريد إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وهذا ما يسبب حالة العجز والفشل للسياسة الفرنسية، وعلى فرنسا القيام بجهد أكبر في محاربة "داعش"، ولا يكفي إرسال عدد قليل من الطائرات للقضاء على "داعش"، وهنا لابد من التنسيق مع الجهة الفاعلة على الأرض وهي الدولة السورية، وعدم الاكتفاء بالتنسيق فقط مع موسكو وطهران.
تمثّل التنظيمات الإرهابية الموجودة في سورية خطراً على الأمن الداخلي الفرنسي، في حين أن نظام الرئيس بشار الأسد لا يمثّل مثل هذا الخطر، ولذلك يجب التركيز على محاربة داعش، والمنظمات الإرهابية الأخرى. إن هجمات باريس تؤكد الحاجة إلى إعادة النظر في الاستراتيجية الفرنسية، وعدم رفض أية مساعدة مهما كان مصدرها، وفرنسا لم تقم بواجبها تجاه مسيحيي الشرق الذين تربطهم علاقة تاريخية بفرنسا، ولذلك خاب أملهم من سياستها، فتوجهوا نحو موسكو.
على فرنسا أن تأخذ المبادرة في الاتحاد الأوروبي لإقناعه بالمساهمة بشكل فعّال في إيجاد حل سياسي لهذه القضية، خاصة مع أزمة المهاجرين الحالية، والتي فشلت أوروبا تماماً في مواجهتها، كما فشلت في توقع نتائج الحروب في منطقة الشرق الأوسط على أمنها الداخلي.
ولذلك تطلب مجموعة الخبراء من الخارجية الفرنسية أن تقوم بدور أكبر لإعادة الأمن والاستقرار إلى العراق، وعدم الاكتفاء بدور التابع للسياسة الأمريكية فيه، خاصة أن لفرنسا علاقة تاريخية بهذا البلد.
ويجب ألا تنسى فرنسا القضية الفلسطينية، وأن تعود إلى روح الخطاب الذي ألقاه فرانسوا ميتران في الكنيست الإسرائيلي عام 1982، وأن تنصح الحكومة الإسرائيلية بتغيير سياستها الانتحارية على المدى الطويل في موضوع حل القضية الفلسطينية.
إن المدقق في هذا التقرير سيكتشف أن السياسة الفرنسية تراكم أخطاءها منذ عهد ساركوزي وحتى الآن، ويكاد يخلو التقرير من ذكر أية إيجابية لهذه السياسة التي أوقعت فرنسا في مجموعة من المآزق التي يصفها التقرير بالخطايا.