حول مسألة الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى(2/2)

19.04.2016

الجزء الثاني
رغم أن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى تعتبر "محل خلاف"، ولكن من المثير للاهتمام تحليل دوافع وتاريخ اعتماد هذه الاتفاقية.
منذ أواخر السبعينات، كان وضع علاقات الاتحاد السوفياتي مع حلف الناتو في القارة الأوروبية مستقر. ولكن الولايات المتحدة لم تهتم بمراعاة التوازن السوفياتي الأمريكي الاستراتيجي من حيث القواعد المتقدمة أو القدرات النووية لحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين في الناتو مثل بريطانيا العظمى وفرنسا.
في هذا السياق في نهاية السبعينات، بدأ الاتحاد السوفيتي بتوسيع نظام الصواريخ متوسطة المدى (آر أي آر-10 "بايونير") الجديد على الأراضي الأوروبية التابعة له. وقد حلت هذه الصواريخ مكان الصواريخ ( آر 12 و آر 14) ذات القواعد الثابتة التي عفا عليها الزمن.
من حيث عدد أنظمة إطلاق الصواريخ النووية متوسطة المدى، (بما في ذلك صواريخ متوسطة المدى والطائرات، وتلك المحمولة)، فقد فاق عددها عند قوات حلف شمال الاطلسي أكثر من الاتحاد السوفياتي بحوالي مرتين. وفي الوقت نفسه، كان الاتحاد السوفياتي يمتلك عددا أكبر من الصواريخ المتوسطة المدى، حيث بلغ عددها حوالي 600 صاروخ،  خمسمائة منها كانت تتمركز في أوروبا، في حين كان لبريطانيا العظمى وفرنسا 178 صاروخا فقط.
وردا على توسيع الاتحاد السوفياتي لانتشار نظام الصواريخ متوسطة المدى (آر أي آر-10 "بايونير") الجديد، قرر حلف شمال الاطلسي في ديسمبر/ كانون الاول 1979 زيادة عدد الصواريخ متوسطة المدى الأرضية الأميركية الجديدة، بما في ذلك الصواريخ الباليستية (بيرشين-2) و صواريخ كروز (توماهوك) ، على أراضي عدد من الدول الأوروبية.
وتجدر الإشارة إلى أن نظام الصواريخ متوسطة المدى (آر أي آر-10 "بايونير") الجديد السوفيتي المتمركز في أوروبا لا يمكن أن يصل إلى أراضي الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال، في حين أن النظام الصاروخي الأمريكي في أوروبا يمكن أن يوجه ضربات في عمق الأراضي السوفيتية، (كان لأنظمة بيرشين-2 مدى يصل إلى 1800 كم والتي يمكن أن تصل إلى منطقة موسكو، ونظام ( كريب) "KRNB" يصل إلى  2500 كم، أي أنها يمكن أن تصل إلى ما يقرب من جبال الأورال. وهذا يشكل تهديد حقيقي من قبل النظام الصاروخي الأمريكي وقلق من إمكانية حدوث ضربة سريعة على نقاط سوفييتية هامة (القوات النووية الاستراتيجية) وأجهزة الدولة. حيث أن زمن رحلة الصاروخ "بيرشين-2"  قصيرة حوالي 10-12 دقيقة يمكن أن تصل إلى موسكو، وبالتالي لن يكون هناك وقت كاف للرد.
وكانت مخاوف القيادة السوفيتية معقولة في ضوء الابتكارات التكنولوجية المستخدمة في الصواريخ الأمريكية. حيث أنها كانت مجهزة برؤوس تحتوي على ثالث نترات التولوين شديد الانفجار المعدل، والقادر على تدمير الأهداف المحمية والمحصنة.
ونظرا لهذا التباين الجيو استراتيجي، لم يكن الاتحاد السوفياتي مهتما في أي تمركز للصواريخ الأميركية في أوروبا. وكان خطر توسع الصواريخ النووية في أوروبا بالتالي هو حوار مضغوط.
ونظرا لهذه الظروف، ابتداء من خريف 1980 دفعت مشكلة الأسلحة النووية الأوروبية الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لمناقشة موضوع (الأسلحة الهجومية الاستراتيجية). الصواريخ البرية (أرض-أرض)، الصواريخ النووية المتوسطة المدى والطائرات والمركبات القادرة على إيصال الأسلحة النووية، أصبحت على وجه الخصوص مواضيع هذه المفاوضات.
الوضع المعقد للمفاوضات بين عامي 1980 و 1983، على كل حال لم يسمح للأطراف بتحقيق أية نتائج وتوقفت المفاوضات.
قبل هذه النهاية، مع ذلك، تمكن الاتحاد السوفييتي من وضع مقترحات مختلفة لحل المشكلة النووية الأوروبية:
في عام 1980، اقترح الاتحاد السوفيتي وقف جميع عمليات الانتشار الجديدة من قبل حلف شمال الاطلسي والاتحاد السوفياتي بالنسبة للصواريخ متوسطة المدى في أوروبا، أي "تجميد" القدرة الحالية لهذه الأسلحة.
في عام 1981، اقترح الاتحاد السوفياتي تخفيض عدد الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا إلى 300 وحدة صاروخية لكل جانب.
- في عام 1982، اقترح الاتحاد السوفياتي إنشاء عدد متساو من القواعد الصاروخية والطائرات في أوروبا (مثلا أن يتساوى عدد الصواريخ السوفييتية في المنطقة الأوروبية التابعة للاتحاد السوفياتي مع عدد الصواريخ لكل من إنجلترا وفرنسا).
في عام 1983، أعرب الاتحاد السوفياتي استعداده في ألا ينصب أكثر من 140 منصة صواريخ (RAR) في أوروبا، أي أقل من العدد المتاح لفرنسا وبريطانيا العظمى. وفي الوقت نفسه، كان من المتوقع أن تمتنع الولايات المتحدة عن وضع أي منصة صواريخ في أوروبا. وتضمن العرض أيضا وضع عدد متساو من الطائرات القادرة على حمل السلاح النووي لكلا الطرفين.
ولم تقبل الولايات المتحدة أيا من هذه العروض.
في عام 1982، وافق الاتحاد السوفيتي من جانب واحد على وقف التوسع في الأسلحة النووية المتوسطة المدى حتى قبل تحقيق أي اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن هذه الأسلحة، وقبل بداية توسع أمريكا في منظوماتها الصاروخية في أوروبا. تحقيقا لهذه الغاية، أعلن الاتحاد السوفييتي نيته في عام 1982 في تخفيض عدد منصاته الصاروخية. هذه المبادرة من قبل الاتحاد السوفياتي، لم تلق تجاوبا من قبل الأمريكيين.
من جهة أخرى، قدمت الولايات المتحدة العروض التالية:
في عام 1981، عرضت الولايات المتحدة ما سمي خيار "الصفر"، الذي ينص على أن الولايات المتحدة سوف تمتنع عن وضع أي منصة صاروخية في أوروبا اذا وافق الاتحاد السوفيتي على إزالة جميع الصواريخ المتوسطة المدى في المنطقتين الأوروبية والآسيوية التابعة له. وهذا يعني أن الاتحاد السوفياتي سوف يزيل مجموعة متقدمة مكونة من 600 صاروخ في مقابل إلغاء الولايات المتحدة "خططا لتوسيع الوجود الصاروخي لها في أوروبا"، أي خطته التي كانت فقط في مرحلة التطوير.
- في مارس/آذار 1983، اقترحت الولايات المتحدة الخيار "المتوسط" الذي ينص على كمية متساوية من الصواريخ بالنسبة للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، ولكن صواريخ ومنصات والطائرات الحاملة للأسلحة النووية لكل من فرنسا وبريطانيا العظمى ليست مشمولة.
- في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1983، اقترحت الولايات المتحدة وضع حدود متساوية في عدد الرؤوس الحربية للاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لكمية 420 وحدة صاروخية  لكل منهما.
- في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1983، بدأت الولايات المتحدة التوسع في منظوماتها الصاروخية في أوروبا. غادر الطرف السوفياتي المفاوضات بسبب عدم القدرة على التوصل إلى اتفاق حتى بالنسبة للأسئلة المطروحة للنقاش.
كإجراء مضاد، أعلن الاتحاد السوفياتي من جانب واحد إلغاء تعليق نشر الصواريخ متوسطة المدى في الجزء الأوروبي من البلاد. وشرع في عملية زيادة صواريخ تكتيكية من طراز "تيمب-إس" في تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية (انظر بيان أنتروبوف في 24 نوفمبر 1983 في رفض الاتحاد السوفياتي للتفاوض حول تخفيضات الأسلحة الاستراتيجية في أوروبا، وعزمه على وضع صواريخ متوسطة المدى جديدة في بلدان حلف وارسو).

ووفقا لبيانات مفتوحة المصدر، اتخذ الاتحاد السوفييتي أيضا قرارا لتطوير أنظمة الصواريخ المحمولة الجديدة متوسطة المدى "سرعة آر كي" لوضعها في أراضي ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا. كما وضعت خطط لنقل جزء من صواريخ "بايونير" إلى منطقة  "تشوكوتكا"، إلى مواقع يمكن أن تضرب مناطق في المنطقة الشمالية الغربية من الولايات المتحدة، مثل ألاسكا.
الحكومة السوفييتية افترضت أن هذه التدابير ستجبر واشنطن على الحد من معدلات نشر صواريخها في أوروبا في مقابل وقف الاتحاد السوفييتي نقل الصواريخ إلى ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ونشر صواريخ "بيونير" في تشوكوتكا. في حال نجاحها، فإن تجمع منصات صاروخ "بيونير" في المجال الأوروبي من الاتحاد السوفياتي سوف تتعزز.
ومع ذلك، في عام 1985، جاء "غورباتشوف" إلى السلطة في الاتحاد السوفياتي. وقد تميز هذا التغيير في القيادة السوفييتية بأنه التغيير الأكثر جذرية والسريع في نهج الاتحاد السوفييتي في مسائل البناء العسكري ونزع السلاح وتكثيف المفاوضات بشأن تقييد انتشار منصات الصواريخ الاستراتيجية.
تغير أيضا النهج في التعامل مع قضية قواعد الصواريخ الأمريكية. في أبريل/نيسان عام 1985، علق الاتحاد السوفياتي من جانب واحد إجراءات تنصيب صواريخه الاعتراضية الاستراتيجية في أوربا التي كانت قد بدأت مع التوسع الأمريكي في منظوماتها الصاروخية في أوروبا.
أوروبا الغربية، وفي الوقت نفسه، كانت غارقة في موجات من المظاهرات المناهضة للحرب التي مختلف قطاعات المجتمع، بما في ذلك السياسية والنقابية والدينية والشخصيات العلمية الذين دافعوا عن فكرة إزالة القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا. وتم دعم هذه الحركة المناهضة للحرب من قبل الاتحاد السوفيتي الذي بدأ حملة ترويجية قوية تهدف إلى محاكاة الرأي العام الأوروبي. وعلى هذه الخلفية والظروف التي خلفتها المواجهة النووية الخطيرة، أصبحت الحاجة إلى استئناف المفاوضات أكبر وأكثر وضوحا.
بعد توقف دام أكثر من عام، تجددت المفاوضات في عام 1985.
في أكتوبر عام 1986، عقد اجتماع في "ريكيافيك" بين ميخائيل غورباتشوف والرئيس الأمريكي رونالد ريغان. انتهى هذا الاجتماع دون تحقيق النتائج التي كان الاتحاد السوفيتي يعول عليها. ومع ذلك، فإن السوفييت  خلقوا وضعا جديدا نوعيا أحدث قفزة في المفاوضات.
في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1986، في المفاوضات في جنيف، طرح الوفد السوفياتي مجموعة من المقترحات على أساس ما تم مناقشته في قمة "ريكيافيك". اقترح الاتحاد السوفياتي تصفية كل منصات الصواريخ السوفيتية والأمريكية في أوروبا بشرط أنه يمكن للاتحاد السوفياتي أن يبقي هذه المنصات في الجزء الآسيوي التابع له وتقوم الولايات المتحدة بتنصيب ما يصل الى 100 صاروخ من هذه الصواريخ المحملة رأس حربي على أراضيها. مع هذا البرنامج، فإن الاتحاد السوفياتي يمكنه وضع 33 صاروخ "بايونير" في الجزء الآسيوي من البلاد، والولايات المتحدة يمكن أن تضع 100 صاروخ أحادي الكتلة "بيرشين 2" على أراضيها. وفي الوقت نفسه، اقترح الجانب السوفياتي وضع حدود متساوية من عمليات تنصيب الصواريخ في ظل حالة من حظر انتشارها في أوروبا. وامتنع الاتحاد السوفييتي عن أخذ صواريخ بريطانيا العظمى وفرنسا في الاعتبار، وتم تأجيل اتخاذ أي قرار بشأن الطيران النووي متوسط المدى.
في أبريل 1987، قالت وزير الخارجية الامريكية  جورج شولتز للرئيس ميخائيل غورباتشوف في اجتماع عقد في موسكو إن الولايات المتحدة مستعدة للالتزام من حيث المبدأ بهذا الخيار ومناقشته في مفاوضات جنيف.
ومع ذلك، ونتيجة لخيار أكثر راديكالية من القيود، يسمى "الصفر العالمي المزدوج" تم التنسيق حوله أخيرا، نص على إزالة ليس فقط الصواريخ الأمريكية والسوفيتية متوسطة المدى (أكثر من 1000 حتي 5500 كم)، ولكن أيضا كل الصواريخ قصيرة المدى (500-1000 كم). كما تم اعتماد هذا الخيار قانونيا بموجب  معاهدة القوات النووية متوسطة المدى
وهكذا، فإن نتائج مفاوضات معاهدة القوات النووية متوسطة المدى لا تزال ترسم تقييما طموحا في مجتمع الخبراء.
هناك رأي واسع الانتشار بأن الاتحاد السوفياتي (في عهد غورباتشوف) قدم تنازلات غير مبررة لواشنطن خلال المرحلة الأخيرة من مفاوضات معاهدة القوات النووية متوسطة المدى.
في الواقع، في ذلك الوقت صدر بيان عن قيادة الاتحاد السوفياتي حول "القيم الإنسانية المشتركة" تعارض مع مفاوضات نزع السلاح ودفع المصالح الوطنية للبلاد مرة أخرى إلى الظلام. حيث ذكر في البيان أن "الحلول من النوع العسكري والتقني لا يمكن أن تعوض عن نقص الإرادة السياسية في تطلع البشرية إلى ترك الحلقة المفرغة من جهود التصعيد العسكري" . مما لا شك فيه مثل فإن هذه المواقف أثرت سلبا على موقف ومصالح البلاد الاتحاد السوفييتي.
ونتيجة لإبرام معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، اضطر الاتحاد السوفياتي لتصفية ضعف عدد الصواريخ التي أزالتها الولايات المتحدة (على التوالي 1846 و 846).
ثمة انتقاد كبير يطرح نفسه هو أن الاتحاد السوفياتي اضطر لتصفية الصاروخ الفعال التكتيكي "أوكا" في إطار اتفاقية معاهدة القوات النووية متوسطة المدى. هذه الصواريخ، كان مداها أقل من 500 كم ولم تكن مشمولة في الاتفاق. تم قبول قرار التصفية الإجبارية لهذا الصاروخ من قبل أعلى القيادات السياسية في البلاد، على الرغم من كل الاعتراضات من الخبراء العسكريين، وقدم كخطوة سياسية على ما يبدو لحث خطى الاتفاق.
ومع ذلك، فمن الضروري أن ندرك أن الاتحاد السوفياتي كان مهتما للغاية في إنهاء وجود الصواريخ الأمريكية في أوروبا، وهو ما يمثل التهديد النووي الاستراتيجي للاتحاد السوفييتي. وكان هذا هو الدافع لإبرام  معاهدة القوات النووية متوسطة المدى والنتيجة الرئيسية لتحقيقها.
أصبحت  معاهدة القوات النووية متوسطة المدى أول معاهدة دولية في مجال نزع السلاح النووي. ونتيجة لتحقيقها، تم استبعاد الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 و 5500 كم تماما من الترسانات النووية الأميركية والسوفيتية.
إزالة الصواريخ المتوسطة المدى والقصيرة  خفف أساسا من مستوى المواجهة العسكرية. وكان عنصرا هاما في تطبيع الوضع العسكري والسياسي في أوروبا وفي العالم ككل. وقد عجلت النتائج العملية الإيجابية لتنفيذ معاهدة القوات النووية متوسطة المدى في عملية التفاوض في مجال الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية وغيرها من جوانب نزع السلاح. وسوف ينعكس هذا في الاتفاقات اللاحقة.