هواجس روسيّة من الصين

18.11.2016

في الثامن من الشهر الجاري التقى رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف بنظيره الصيني لي تشيانغ في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، في سياق الاجتماع الدوري الحادي والعشرين لرئيسي وزراء البلدين. وتمخض الاجتماع عن تعهد الجانبين الروسي والصيني بتعزيز التعاون العملي بين بلديهما في جميع المجالات. ويعتبر فريق من المراقبين الروس أن العلاقات الروسية ـ الصينية باتت تعكس درجة عالية من التنسيق والتفاهم على الساحة الدولية، ولذلك فهم يصفُونها بالشراكة الاستراتيجية. فاستخدام موسكو وبكين لحق النقض «الفيتو» غير مرة بشأن سوريا يُعد مؤشرا مهما على مدى التقارب والتنسيق بينهما. كما تُعتبر بكين وموسكو المحركين الرئيسيين لـ «منظمة شنغهاي للتعاون» ومجموعة «بريكس». وقد لوحظ تقارب روسي ـ صيني مؤخرا في ما يتعلق بالدرع الصاروخية الأميركية. ومن المعروف أن روسيا والصين تنطلقان في علاقاتهما من ضرورة خلق عالم متعدد الأقطاب و «فرملة» مُحاولات الولايات المتحدة الأميركية للانفراد بالعالم.

إن أحد الجوانب الرئيسية في توثيق العلاقات الروسية الصينية على مدار السنوات الأخيرة يتمثل في التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين البلدين. فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما خلال الفترة 2000 ـ 2013 من 8 مليارات إلى 89 مليار دولار. لكنه تراجع بعد ذلك إلى 68 مليار دولار في 2015، بينما كان نحو 95 مليار دولار في 2014. وتشير التوقعات إلى أن حجم التبادل التجاري الروسي الصيني بنهاية العام الجاري سيكون عند مستوى 2015 تقريبا، خاصة أنه بلغ في الأشهر العشرة الأولى من 2016 حوالي 56 مليار دولار فقط بسبب تراجع أسعار الصادرات الروسية من النفط والغاز وتباطؤ النمو الاقتصادي في الصين مؤخرا. ولذلك، نجد فريقا من الخبراء الروس بدأ يدق ناقوس الخطر في ما يتعلق بالعلاقات التجارية بين الدولتين. ويربط هذا الفريق مخاوفه أيضا باستراتيجية التنمية التي أعلنتها بكين صيف 2016. فهذه الاستراتيجية تهدف إلى تحويل الصين إلى دولة عُظمى على المستوى العالمي في المجال العلمي ـــ التقني مع حلول منتصف القرن الحالي. وتحدد هذه الاستراتيجية جدولا زمنيا لهذا التحول، ففي العام 2020 يتعين على الصين الالتحاق بمصاف الدول المُعتمدة أساسا على النموذج الابتكاري في النمو والتطور، ثم تحتل موقعا رائدا في العالم في مجال الابتكارات التكنولوجية بحلول العام 2030. وهذا قد يعني انتهاء عصر «استنساخ» الصين للتقنيات والتكنولوجيات الغربية أو الروسية.

تشير تقارير روسية كذلك إلى أن قسما معتبرا من المنتجات الصينية سيعتمد خلال السنوات القادمة على تكنولوجيات صينية خالصة، لا تُوجد لدى الغرب أو لدى روسيا. وتتخوف هذه التقارير من حدوث تقليص للطلب الصيني على المواد الخام الروسية وخاصة النفط والأخشاب وبعض المعادن. لكن المسؤولين الرسميين الروس يُبشرون بزيادة حجم التجارة مع الصين إلى 200 مليار دولار بحلول 2020، ويؤكدون أن حجم الصادرات الروسية غير الخام وغير الأولية إلى الصين ستصل إلى نحو 50 مليار دولار في العام المذكور. وهنا يتساءل البعض كيف سيتم ذلك خلال السنوات الثلاث المتبقية؟ فحجم الصادرات الروسية إلى الصين حاليا يبلغ 33 مليار دولار، منها 61 في المئة صادرات النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي، و2 في المئة فقط حصة الصادرات من الآلات والمعدات (السلع التكنولوجية). غير أن موسكو الرسمية تعول في السنوات القادمة على زيادة الصادرات الروسية من السلع الغذائية والمنتجات الزراعية إلى الصين، كأحد العوامل الدافعة لزيادة التبادل التجاري بين البلدين. علما بأن مثل هذه الصادرات ارتفعت بالفعل في الفترة الأخيرة بنسب ضئيلة، لكن قيمتها خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري بلغت نحو مليار دولا فقط. وهذا لا يُقارن بقيمة الصادرات الروسية من النفط والغاز إلى الصين، التي تزيد بحوالي عشرين مرة مقارنة بقيمة الواردات الصينية من السلع الغذائية والزراعية الروسية.

خلال العشرين سنة الأخيرة، راهنت روسيا على شراء الصين للأسلحة والمعدات العسكرية الروسية كأحد روافد التعاون بينهما. ففي تسعينيات القرن الماضي احتلت الصين المرتبة الأولى في صادرات السلاح الروسي، حيث كانت تشتري نحو نصف هذه الصادرات. غير أن هذه الحصة تراجعت في السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا، ما جعل الصين تحتل حاليا المرتبة الرابعة في هذه الصادرات بمبلغ يقترب من الثلاثة مليارات دولار. وتعود أسباب تراجع حصة الصين في مبيعات السلاح الروسية إلى الكميات الكبيرة التي اشترتها بكين من هذه الأسلحة في السنوات السابقة، وحصولها على تراخيص لتصنيع بعض الأسلحة الروسية داخل الأراضي الصينية، بجانب تطور التصنيع العسكري الصيني نفسه.

إن التعاون الروسي الصيني، المُعتمد بدرجة كبيرة على تصدير روسيا للنفط والغاز والسلاح للصين وشراء السلع الصينية المُصنعة، يُواجهُ داخل روسيا ببعض التخوفات التي يطرحها قطاع من الخبراء الروس. فقد برز تيار روسي يحذر من بيع الأسلحة الروسية الحديثة إلى الصين، تحسبا لظهور مشكلات مستقبلية بين البلدين. ويعبر هؤلاء الخبراء أيضا عن مخاوفهم من تحول روسيا إلى مجرد بلد مصدر لمواد الطاقة الأولية إلى الصين، خاصة أن الاستثمارات المباشرة الصينية في الاقتصاد الروسي لا تزيد عن 3 في المئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في روسيا. ويرى هذا التيار أن العلاقات المتطورة والمتميزة بين البلدين تخفي في ما تخفي التنافس بينهما في آسيا الوسطى، وتخفي كذلك تناقضا محتملا للمصالح في منطقة الشرق الأقصى الروسي. ففي هذه المنطقة الشاسعة يعيش حوالي 6.5 ملايين نسمة فقط من مواطني روسيا، وهو ما دفع الصين خلال العشرين عاما الماضية إلى تشجيع هجرة مواطنيها إليها بأعداد كبيرة. وهذا بالطبع يمثل ضغطا ديموغرافيا على روسيا، ولا يُرضي الحركات الروسية القومية.

إن مُجمل المخاوف المشار إليها أعلاه، والمطُروحة من بعض الخبراء الروس، تعكس هواجس تيار روسي من تنامي القدرات الصينية الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. لكن الروس الرسميين يؤكدون أن التعاون الروسي الصيني صلب ويتطور ايجابيا، ويعتقدون أن الصين يصعُب عليها الاستغناء عن موارد الطاقة الروسية.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"