حرب المعلومات بين روسيا والغرب.. استنزاف وتوجيه خاطئ للموارد
مأساة روسيا والمجموعة الغربية هي أنهم يتبعون نهج حروب الماضي ضد بعضهم البعض.
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2013، بدأ استخدام مفهوم حرب المعلومات على نطاق واسع في روسيا وفي الغرب وبالطبع في أوكرانيا. ومع ذلك، المصطلح نفسه يقدم القليل جدا حول المشهد الذي يحدث في فضاء المعلومات، وخاصة حول الحرب الواسعة والغامضة والمعروفة باسم "الحرب الهجينة".
بالتعريف، تتميز الحرب أساسا بعمل عدائي يستهدف الدولة المعنية بالحرب تنفذه جماعات مركزية. وتتضمن تدفقات المعلومات كميات كبيرة من المحتويات المعادية والمنتجة عن عمد بشكل احترافي، والمشكلة هي أن وسائل الإعلام اليوم لا يمكنها أن تتطابق مع المعايير المركزية بشكل كامل. حتى في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، تكون العلاقة بين الجهة صاحبة التوجيه لخلق أجندة معادية وبين المحتوى علاقة متكلفة. إضافة لذلك فإن التطور الهائل في وسائل الإعلام الاجتماعي وصلت لدرجة حيث يمكن لكل مستخدم أن يعمل كمنبر إعلامي مع كل المحافظة على حقوقه الخاصة، والصلة بين الأجزاء الكلية الافتراضية والجنود الافتراضين في حرب المعلومات تصبح أقل وضوحا.
إذا لماذا تعتبر وسائل الإعلام المستقلة في كثير من الأحيان أكثر عدوانية بكثير من تلك الشبكات المملوكة للدولة؟ لماذا يتوق الناس لنشر الدعاية بمحض إرادتهم دون أي إكراه، مما قد ينتج عنه تأثير مضاعف؟
علم النفس وراء نشر الدعاية
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي أن ننظر في عمق وعينا الجماعي، وعميقا جدا ما وراء التطورات السياسية الجارية. الذات الداخلية التي نحن بحاجة إلى أن نراقبها يمكن ربطها مع ما سماه سيغموند فرويد وإريك فروم وفي وقت لاحق ديفيد ريزمان "بالضمير"، والذي يمثل مجموعة أفكار وقناعات عقلية تشكلت من خلال الثقافة والتعليم، وكأن نوعا من اللاوعي الجماعي زرع نظام قيم في اللاوعي الفردي. الأفراد ينظرون لهذه القيم باعتبارها قيمهم. نجاح الأخصائي في الدعاية يكمن في القدرة على تحديد هذه القناعات العقلية وإيصالها للناس مع الرسالة الإعلامية ذات الصلة. إذا تمت إصابة الهدف، فهذا سيقوي المجموعة العقلية الموجودة من قبل.
يرى السياسيون أن دورهم قد تغير من القدرة على التلاعب بالرأي العام ليصبحوا رهائن له. لقد وجدوا المهمة صعبة للغاية نتيجة لتغيير رسالتهم، ويجب أن يتكيفوا مع الشعاب المرجانية الموجودة، ولاسيما أن هذه "الشعاب" لديها تاريخ طويل جدا.
ومن الملفت للنظر أن نرى كيف أن تدفقات المعلومات ينظر إليها بطريقة مماثلة من كلا الطرفين. في الواقع كلا من روسيا والدول الغربية، ناهيك عن أوكرانيا، تعتبر نفسها ضحية حرب المعلومات. يصر كل طرف على أنه في موقف دفاعي من حيث السياسة الإعلامية، ويسعى فقط لمواجهة المعلومات المعادية. تميل كل الأطراف إلى المبالغة إلى حد كبير بإمكانيات خصومها من حيث حرب المعلومات ونتائجها. هم جميعا يحاولون خلق قضية سياسية من خلال التطورات مع التركيز على البعد السياسي أو من خلال التهويل.
بالطبع، لابد من دراسة هذا من منظور أوسع على أنه مزيج من جهود متعمدة لتعزيز أجندة سياسية ومظهر من مظاهر اللاوعي الجماعي. بقدر ما تكون السياسة معنية، لكن الأشياء يجب أن تأخذ بعين الاعتبار بعض القضايا التي لم تحل بين روسيا والغرب في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. لا تزال المنافسة تميز هذه العلاقة، لعبة محصلتها صفر ومعضلتها الأمن. التطورات في فضاء المعلومات تذكرنا بالقضايا المتعلقة ببنية الأمن الأوروبي. أما بالنسبة بما يخص اللاوعي الجماعي، فمن المهم أن نضع في اعتبارنا الصدامات الخطيرة بين روسيا وجيرانها في أوروبا الشرقية والوسطى، وكذلك في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي.
في حالة أوروبا الشرقية والوسطى، جميع البلدان تقريبا في اتجاه واحد في علاقتها مع روسيا أو الاتحاد السوفيتي. حقيقة أن النخبة السياسية المحلية تحاول التعامل مع هذه الخبرات وتنشيط الأساطير لا يعني أنها غير موجودة. هذا يزيد من تعقيد سياسة الاتحاد الأوروبي وتواصلها مع الهويات الحساسة والهشة من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية. بالإضافة إلى وجود عقلية الضحية في جورجيا وأوكرانيا.
بل لعله أكثر أهمية أن نفهم أن روسيا أيضا عاشت صدمات وخبرات مؤلمة أيضا، إن لم تكن أكثر من ذلك. مع الاحترام لجيرانها في أوروبا الشرقية، الذين كانوا ضحية في المخطط الكبير من قبل اللاعبين الرئيسيين، حيث اقتصر دورهم ليشكلوا منطقة عازلة تفصل الغرب عن روسيا. أما في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فقد تحولت هذه الفكرة باقتدار إلى محرك التوحيد الوطني داخل هذه البلدان.
ألم روسيا ذو طبيعة مختلفة. أولا، هو يتعلق بالجراح العميقة الناتجة عن القمع وعن حالات أخرى من التجاوز الخانق من قبل الدولة، ما أدى إلى شعور عميق الجذور بانعدام الثقة تجاه نظام الدولة في روسيا نفسها. والنقطة الثانية هي سقوط الطاغوت والحنين لعظمته، جنبا إلى جنب مع فقدان أي نقاط مرجعية واضحة لمحاولات العثور عليه مرة أخرى. كل ذلك يخلق مزيجا من الفطرة التي تحث الناس على حب وطنهم الأم، وتصويره على أنه نوع من المثالية التي تصل إلى أبعد من البعد المؤسساتي للدولة مما يجعل عملية إنعاش روسيا من أصعب الحالات الممكنة. ومع ذلك، لا يزال هناك طريق طويل قبل التخلص من هذه الصدمات ومن الألم الذي سينتهي بالتأكيد في المستقبل.
في الواقع يمكن لنبضات المعلومات الواردة من داخل روسيا ومن خارجها أن تؤدي إلى نتائج لا يمكن التنبؤ بها.
ماذا تحاول روسيا وأوروبا الغربية قوله؟
على هذه الخلفية، من المثير للاهتمام التمعن في الهيكل العام للرسالة القادمة من روسيا ومن ما يمكن تسميته "أوروبا". مفهوم حرب المعلومات يعني أن هذا الهيكل يجب أن يكون متماثلا وأن أطراف الصراع ترسل رسائل أيديولوجية تهدف إلى كسب تأييد أكبر عدد من الناس. ولكن هذا ليس هو الحال. فالرسائل القادمة سواء الرسالة الروسية أو رسالة أوروبا الغربية مختلفة جدا من حيث بنيتها.
الرسالة الغربية لم تتغير كثيرا منذ الحرب الباردة: الديمقراطية والدولة القومية الكاملة والسوق وسيادة القانون والحرية والمساواة أمام القانون، وغيرها مثل التسامح والتنقل عبر الحدود التي تمت إضافتها مؤخرا إلى هذا المزيج. وعموما هذا فكر متحرر. لكن بلدان أوروبا الشرقية والوسطى تظهر حماسا أكثر لهذه الرؤية من الولايات المتحدة وأوروبا القديمة في أعقاب الحرب الباردة. وتبدو هذه الرسالة مختلفة في كل بلد حسب الممارسة العملية من التعايش التحرري مع درجة أقل من الحرية الفردية ومراقبة أقوى من جانب الدولة. وقد شكلت هذه الرؤية عاملا رئيسيا لدول ما بعد الاتحاد السوفيتي.
ومن المثير للاهتمام أن روسيا على عكس الاتحاد السوفيتي لم تقدم بديلا (ومع الدراسة الأعمق نجد أن التجربة السوفيتية في جوهرها غربية أيضا، لأنها تروج للتحرر والتنوير). في الواقع تفتقر روسيا إلى تقاليد ديمقراطية ناضجة، لأن القاعدة الراسخة أن القانون هو الشرط الأساسي لتطوير اقتصاد السوق. وروسيا لم تتنصل من القيم المستوحاة من الغرب. حتى القيم الوطنية التي تعتبر الآن وبشكل رسمي أساس للهوية الروسية هي من القيم الغربية المتجذرة في الفكر الغربي حول وجود الدولة القومية والأمة كمجتمع سياسي، وليس العرق كأساس.
ويبدو أن الرسالة الروسية تدور حول فكرة الغرب أساسا لكن الغرب يلعب بشكل غير عادل من خلال نشر الفوضى في الوقت الذي يدعو فيه إلى النظام. هذه الفكرة تنطبق على الأزمات الأوكرانية والسورية. وتماما كما فعل الاتحاد السوفيتي ، روسيا تتهم الغرب بأنه يتصرف بسوء النية ولكنها لا تشكل تهديدا وجوديا للغرب.
من ناحية أخرى ظهرت قوة قادرة على تقديم البديل الذي يختلف جذريا عن المشروع الغربي ويتحداه علنا. الإسلام الراديكالي يعزز الرؤية المختلفة للعدالة والدولة والحرية والقيم الأساسية الأخرى. وهذا يشكل مأساة بالنسبة لروسيا والغرب معا وخاصة عندما يستمران في حروب الماضي ضد بعضهم البعض، ما يعزز القوة الإيديولوجية للإسلام الراديكالي.
هذا الصراع بين روسيا والغرب هو الوهم الذي لن يقود إلى أي مكان. لكن هذا الوهم يمكن أن يكون له تأثير خطير على السياسة الواقعية. ومن المرجح أن يظل "التهديد الروسي" هو القوة التي توحد أوكرانيا وجورجيا والعديد من البلدان الأخرى في أوروبا الوسطى والشرقية لسنوات قادمة. وسوف تواصل روسيا نظرتها لهذه الدول كدمى موظفة من "المركز" الغربي حيث تنشأ المؤامرات المعادية لروسيا. كل هذا يضمن المزيد من الأصوات للسياسيين ويشد الجماهير بشكل اكبر وبدرجات أعلى لوسائل الإعلام.
مفارقة أخرى تجب ملاحظتها أن التفاعل الحالي على الجبهة الإعلامية هو أمر رأسمالي بطبيعته. حتى وسائل الإعلام المملوكة للدولة لا تتحرك بأوامر سياسية أو توجيهات قادمة من المستوى الأعلى، ولكنها تتحرك لضرب وتر حساس لدى النخبة السياسية ولدى الجمهور. التغييرات من حيث العرض والطلب يمكن أن تضع حدا لهذه "الحرب الزائفة" للمعلومات. كما أنها يمكن أن تعني نهاية الرأسمالية.