هل تُطوى صفحة "البريكس"؟

27.04.2016

في العام 2001 توقّع، جيم أونيل من مصرف «غولدمان ساكس» أنْ تحتلّ أربعة بلدان ناشئة، هي البرازيل وروسيا والهند والصين، المشهد الاقتصادي العالمي في العقود القادمة. سُلطتْ الأضواء على تلك الاقتصاديات في العام 2008 عندما تفجرّتْ الأزمة المالية العالمية في الولايات المتحدة وضربتْ الاقتصاديات المتقدّمة. بالتزامن مع الأزمة اعتبرتْ الاقتصاديات الناشئة نموذجاً ينبغي للعالم النّامي اتّباعه. ولم يترددْ بعض الباحثين في طرح مفهوم «تفاهم بكين» كبديل لـ «تفاهم واشنطن» في توجيه عمليات التنمية.

بعد حوالي العقد على توقعات جيم أونيل، لم تعدْ تلك الاقتصاديات تزدهر. في العام 2013، خلصَ صندوق النقد الدولي في توقعه لآفاق الاقتصاد العالمي أنّ النّمو في إجمالي الناتج المحلي للبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا لنْ يتجاوز المعدّل العالمي حتى العام 2018، ورجّح أنْ لا يتجاوز النّمو في تلك البلدان معدّلات النّمو في البلدان المتقدمة. تظهر أرقام مصرف «غولد مان ساكس» تراجع نموّ بلدان «البريكس». في العام 2015، سجلتْ روسيا والبرازيل معدلات نموّ سلبية (3.2 لروسيا و3.5 للبرازيل)، ويتوقع أنْ لا يتجاوز النمو في الاقتصاد الروسي 1.5 العام 2016، و1.6 للبرازيل العام 2016. انخفض معدل النمو الصيني ووصل إلى 6.9 ويتوقع أنْ ينخفض إلى 6.5 العام 2016، أما الهند فسجّل معدل نموها 7.4 ويتوقع أنْ يصل إلى 7.8 العام 2016.

بدأتْ التقارير الاقتصادية تصف اقتصاديات بلدان «البريكس» بأنّها «اقتصاديّات هشّة». تعاني الهند وجنوب أفريقيا من عجز في الميزانية وارتفاع في معدلات التضخم، كما تعاني الصين، الهند والبرازيل من ارتفاع الدين العام بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي. قبل 2008، شعرت حكومات «البريكس» بالرضا عن سياساتها التنموية، لكن مع ارتفاع اسعار عملاتها بدأتْ تفقد القدرة التنافسية وبدأت مؤشرات النمو بالانخفاض. وبالرغم من الاحتياطات النقدية الهائلة التي تحتفظ فيها الصين ومعدلات الادخار العالية أيضاً، يهدّد الاقتراض المصرفي الواسع النطاق في الصين الاستقرار المالي ويساهم في إمكانية حدوث فقاعة مالية.

في الواقع، تمحورتْ قصة نجاح «البريكس» حول دولة واحدة هي الصين. كانت معدلات النموّ العالية التي عرفتها بلدان البريكس والاقتصاد العالمي بداية العقد الأول من القرن الحالي مدفوعة بشكل أساسي بالنموّ الصيني حيث الحاجة الهائلة إلى مواد البناء وعمليات التصنيع، ما أدّى إلى طلب هائل على الاستيراد من بلدان «البريكس» وباقي الدول. ارتبط جانب من الازدهار الصّيني بسياسات القروض الهشة والمتهوّرة لعدد من البنوك الإقليمية التي ازدادتْ أعدادها وتوسعتْ بفعل الفساد المواكب للازدهار الصيني. وعندما سعتْ الحكومة الصينية لإصلاح الأضرار، انخفض معدّل النمو، برغم بقائه مرتفعاً نسبياً.

نجحتْ صورة النمو المتماسك التي ميّزتْ صعود «البريكس» بإخفاء الواقع الاقتصادي الهشّ لتلك البلدان. فقد «ساعد التمويل الخارجي الرخيص، وتدفقات رأس المال الوفيرة وطفرات السلع الأساسية في إخفاء العديد من أوجه القصور والعيوب وتغذية خمس عشرة سنة من نمو الأسواق الناشئة». أي أنّ معدلات النمو المرتفعة لم تكن مدفوعة بتحوّل إنتاجيّ بل بالطلب المحلي، والذي كان يتغذى بدوره على طفرات مؤقتة في أسعار السلع الأساسية ومستويات غير مستدامة من الاقتراض العام، أو الخاصّ في أكثر الأحيان.

لذلك يتعدّى مأزق اقتصاديات «البريكس» تفوّق الاقتصاد الصيني على باقي المجموعة، إذ تظهر بعض الدراسات الحديثة بأنّ نمو الاقتصاديات الناشئة في الحقبة من 2000 إلى 2012 لم يكنْ مستداماً أو قابلاً للبقاء. أما الأسباب التي تقيّد النمو فتتسم بالطابع البنيوي، أبرزها: وصول استراتيجية اللحاق إلى مداها الأقصى، أزمة الائتمان العالمية وانخــفاض الطلب على السلع، تباطؤ الإصلاحات الاقتصادية، الفساد والمحسوبية في رأسمالية الدولة المطبقة (الاكتفاء برأسمالية الدولة دون تطوير السياسات الاقتصادية لتتلائم مع توسّع الاقتصاد).

تكشف نسبة معدلات الاستثمار من إجمالي الناتج المحلي عن خلل رئيسيّ في التجربة التنموية لبلدان «البريكس». تتطلب التنمية الناجحة أنْ يكون معدّل الاستثمار بين 30 و35 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي. حققتْ الهند معدلاً كافياً من الاستثمار، استطاعت الصين تجاوز هذا المعدل إذ بلغ معدل الاستثمار 35 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العام 2000 وارتفع إلى 48 في المائة عام 2009 و47 بالمائة العام 2012. بالمقابل، تراوحتْ معدلات الاستثمار بين 18 و21 بالمائة في روسيا، البرازيل وجنوب افريقيا. يؤدي انخفاض معدلات الاستثمار إلى عواقب وخيمة على الاقتصاديات الناشئة، ما يقلّل قدرتها على تطوير الاقتصاد، ويقلص هامش الحركة، لذا، من المحتمل أنْ يساهم بانخفاض معدلات النمو في العقد القادم.

نجحتْ تلك البلدان في الادّخار، لكنها فشلتْ في الاستثمار وتطوير الأعمال. ومع ارتفاع أسعار الفائدة عالمياً، من غير المرجّح أنْ تنجح في زيادة نسبة الاستثمار في العقد القادم. برغم «الوجود الكبير للشركات العالمية في الأسواق الناشئة وتوسّع الطبقة المتوسطة بشكل كبير، إلا أنّ نسبة ضئيلة من العمل في هذه الاقتصادات يتمّ توظيفها في مؤسسات إنتاجية، في حين تمتصّ شركات غير رسمية وغير منتجة البقية»، فضلاّ عن الديون الهائلة المُتراكِمَة على الشركات المملوكة للدول (خاصة الشركات الصينية).

وبرغم انخفاض معدّل العمالة في قطاع الصناعة وتدنّي مستوى الدّخل الفردي، تعمل بلدان «البريكس» على تفكيك التصنيع قبل أنْ يبلغ حدوده القصوى لمصلحة الخدمات، بشكل يناقض التجارب التاريخية للاقتصاديات المتقدمة، حيث ينبغي أنْ يكون التفكيك بطيئاً وتدريجياً ويقترن بمستويات دخل مرتفعة وتحسّن كبير في التعليم والمهارات والمؤسسات، وهو ما تفتقد اليه بلدان «البريكس»، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض في معدلات النمو بدلاً من ارتفاعها مجدداً ويزيد من إمكانية حدوث أزمة اقتصادية في السنوات القادمة.

في مواجهة هذه الأزمة البنيوية، تحاول كلّ من الصين وروسيا إحياء «أوراسيا» كمجال تنموي مستقبلي، عبر مشروع «طريق الحرير الجديد» الذي أطلقه الرئيس الصيني العام 2013، أو «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» الذي تأمل منه موسكو إعادة إحياء الحدود السوفياتية القديمة على شكل اتّحاد اقتصادي. بالمقابل، يطالب «مجمَّع الأعمال البرازيلي» بسياسة أقلّ إيديولوجية تجاه البلدان الناشئة وأكثر استراتيجية تجاه الاقتصاديات المتقدمة حيث يرى مصالحه الحقــــيقية. وفيما تتوجّس الهند من التوسّع الاقتصــــادي الصيني، ترى دراسات لحالة جنوب أفريقيا أنّ الفوائد التي تعود على اقتصاد جنــــوب أفريقــــيا «مـــــتواضعة نسبياً» في إطار تجمّع «البريكس» مــقارنة مع الفرص الإقليــــمية الأخرى.

هكذا، لا يعبّر صعود «البريكس» عن تحولات في بنية النظام الدولي بقدر ما يُعتبر انعكاساً لأزمة النظام الدولي. وإذا لم تنجح بلدان «البريكس» في تخطي أزمتها الاقتصادية البنيوية في السنوات القادمة، من المرجّح أنْ تُطوى صفحتها بالسّرعة ذاتها التي برزتْ فيها.

جريدة "السفير"