هل سيولد الانهيار الأخلاقي في اليونان ارتباكا استراتيجيا في أوروبا
وفقا لمصدر موثوقة في كراكاس، عندما كان هوغو تشافيز على فراش الموت، دعا خليفته الذي كان قد اختاره سابقا مادورو، وقال له من بين أمور أخرى، وأصر عليه بشدة، أن يفعل كل ما في وسعه لمساعدة تسيبراس في اليونان. (كان هذا قبل وقت طويل من فوز تسيبراس في الانتخابات اليونانية).
هناك سياسي مختلف جدا عن تشافيز، هو رئيس الوزراء السابق لفرنسا دومينيك دو فيلبان، قارن تسيبراس بديغول عندما دعا هذا الزعيم اليوناني إلى استفتاء عام 2015.
كنت أفكر في تلك القصص بينما كنت أراقب الأحد الماضي، نواب الحزب "الراديكالي اليساري" سيريزا ونوابه، وزملاءهم "الوطنيين" من حزب "السيادة" اليميني، الذين يدعون إلى "استقلال اليونان" وهم يصوتون بكل انضباط عسكري دون أي شعور بالذنب على القانون الجديد المقترح من قبل الحكومة. كان الأمر فظيعا جدا. من بين أمور أخرى كثيرة، تم التصويت عليها في هذا القانون الذي يؤسس للتخفيض الثاني عشر للمعاشات التقاعدية في اليونان خلال ست سنوات وقطع الإنفاق الاجتماعي للفقراء جدا، كما يؤسس لضرائب باهظة جديدة (على أصحاب الحرف والمهندسين والمحامين، الذين سيضطرون لدفع أكثر من 75٪ من دخلهم كضرائب ورسوم تأمين). كما يؤسس هذا القانون أيضا لنقل جميع الممتلكات العامة اليونانية للدائنين. المذكرة الثالثة الوحيدة الموقعة من تسيبراس في العام 2015، هي بلا منازع مذكرة (نهب) الجمهور اليوناني، بما في ذلك الملكية الخاصة (من خلال الضرائب).
كل هذا كان يحدث في جو سريالي يمكن أن يجعل حتى اليونيسكو تتحمس. على سبيل المثال، احتل ضباط الشرطة الذين يرتدون الزي العسكري مكاتب سيريزا في أثينا، احتجاجا على خفض المستوى الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، أثبتت وحدات الشرطة الخاصة التابعة لتسيبراس أنها فعالة ضد المتظاهرين أكثر مما كانت عليه في ظل الحكومات السابقة، لأن الوحدات الخاصة "اليسارية" كانت قادرة على استخدام تكتيكات استفزاز قديمة وذلك باستخدام الغاز المسيل للدموع بكميات كبيرة في ساحة "الدستور"، إنهم كانوا قادرين على تفريق الحشود في بعض دقائق. حتى أنهم أرسلوا صوفيا بابادوغياني، العضو القديم لأمانة سر سيريزا، إلى المستشفى، والتي اختلفت مع تسيبراس بسبب الخيانة. ثم أصدر تسيبراس بعد ذلك تصريح إدانة لعنف الشرطة (الذين تحت إمرته) ضد المتظاهرين!
لكن هذه الهمجية الجديدة لم ترض ألمانيا وحكومات أوروبية أخرى، وصندوق النقد الدولي، فهم مثل أسماك القرش، كلما شربوا من الدماء أكثر كلما زاد عطشهم. في الحقيقية كل هذه الإجراءات المطبقة في اليونان لن تفعل أي شيء آخر سوى التسريع بانهيار الدولة اليونانية وحدوث أزمة جديدة في الاتحاد الأوروبي.
لم ينخدع تشافيز وفيلبان. بل كانوا عكس ما ذهب إليه تسيبراس، وكان تشافيز رجلا خطيرا جدا، كان "ثوريا" حقيقيا و"متعاطفا" مع شعبه ويعي اللحظة التاريخية، ما جعله من القادة العظام. في أفضل التقاليد البوليفارية، كان "وطنيا" و"قوميا"، وأيضا "أمميا"، وقد فهم تماما البعد الإقليمي والعالمي للمشاكل التي تواجها بلاده. رجل عسكري حاول إيجاد السبل لتحقيق أهدافه (وأذكر أنه قال مرة في عام 2008 لمجموعة من المندوبين الأجانب في أحد المؤتمرات: الجنرال يهاجم عدوه في أقوى نقطة وليس في أضعف نقطة)، لكنه كان أيضا "مثقفا" من نوع خاص وكان دائما يجد الوقت للدراسة من أجل العثور على أسلحة لنضاله. وقال انه ربما سيدفع حياته ثمنا للتفاني في سبيل أمته وأفكاره.
أما بالنسبة لفيلبان فقد أصبح لسان حال كل إنسان ذي كرامة في جميع أنحاء العالم من خلال خطابه التاريخي في العام 2003، أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، عندما أدان بشدة الغزو المخطط له ضد العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا. هو والرئيس شيراك كانا آخر الديغوليين في فرنسا، حيث جاء بعدهما ساركوزي لهدم التقاليد الديغولية مدعيا أنه ديغولي أيضا. (تسيبراس ليس سوى حالة شاذة للأسف، ممن يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر، وهو القاعدة في السياسة الأوروبية وليس الاستثناء).
الناس مثل فيلبان أو تشافيز لا يمكن أن يتصوروا أن زعيما يمكن أن يتصرف كما تصرف تسيبراس بعد استفتاء يوليو/تموز 2015. تستطيع المخابرات فقط تحليل شخصية الزعيم اليوناني وبيئته عن كثب، ويمكنها أن تتوقع هذا التطور وحدوث مثل هذا الانعطاف. نحن نذكر هذا المثال عن تشافيز ودو فيلبان لإظهار أي نوع من الآمال والتوقعات خلق صعود سيريزا في اليونان، ليس فقط في أوروبا ولكن في جميع أنحاء العالم، من الثورة السلمية للشعب اليوناني ضد النظام النيوليبرالي الأوروبي وضد استعباد اليونان، هذه الدولة الأوروبية الصغيرة وصاحبة التاريخ المميز. لقد فكر بعض اليساريين في إيطاليا حتى بعرض "قائمة تسيبراس" في الانتخابات الأوروبية عام 2014!
تعرضت هذه الثورة اليونانية للخيانة بشدة من قبل قادتها. وهي خيانة تعتبر، وقبل كل شيء ، من أخطر الهزائم الأخلاقية في تاريخ اليسار الدولي. آثارها على اليسار، بالنسبة لليونان وأوروبا لا تزال غير محسوسة وغير مفهومة. بالنسبة لليسار اليوناني نفسه هذه هزيمة أخلاقية هي أكثر فظاعة حتى من الهزيمة العسكرية خلال الحرب الأهلية اليونانية (1943-1949)، لأنها على المدى البعيد ستكون سبب تدميره.
على المدى القصير، ألحق ذلك ضربة نفسية ومعنوية فادحة بالشعب اليوناني، فقد خسر احترام الذات والثقة بالنفس. من تستطيع أن تصدق؟ ماذا يمكنك فعله إذا كان قادتك الذين وثقت بهم قد خانوك؟ يمكنك أن تتجاهل كل الضغوط وتصوت لشيء تريده ووعدتك به قيادتك ومن ثم تفعل قيادتك العكس. العام الماضي انشقت القاعدة الاجتماعية الداعمة لتسيبراس (80٪ من السكان خلال المفاوضات، 60٪ في الاستفتاء). كثير من الناس يعتقدون، أن أفضل شيء يمكن القيام به الآن، وربما الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به، هو محاولة البقاء على قيد الحياة.
وصل سيريزا إلى السلطة واعدا بوقف السياسة الاستعمارية الجديدة بنهب وتدمير اليونان من قبل الشركاء الأوروبيين المفترضين ومن قبل صندوق النقد الدولي (مع ضوء أخضر غير معلن ولكنه حقيقي جدا من واشنطن، نظرا للتأثير الهائل من الولايات المتحدة الأمريكية على البنوك في أوروبا وعلى صندوق النقد الدولي). الآن هي تطبق البرنامج الذي وعدت بإيقافه، وهو ما يمثل سياسة أسوأ بكثير من أي نوع من الليبرالية الجديدة.
في اليونان تعمل أوروبا على الانتقال من الليبرالية الجديدة إلى نوع من "الرأسمالية المتوحشة". البرامج المفروضة على أثينا ليست فقط لتغيير الهياكل الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية داخل الدولة والأمة اليونانية، بل هو تدمير للأمة والدولة. (أو على الأقل تدمير للوظائف الاجتماعية والوطنية والديمقراطية في الأمة، بشكل أكثر دقة) وأيضا الشروط الأساسية لإعادة التشكيل الاجتماعي في اليونان. إنه ليس من قبيل الصدفة – أن هذه "التجربة" هي تجربة شمولية. (وبالنسبة لأولئك الذين يحبون القياس، فهي تجربة تعادل "الدمار الأوروبي الإمبريالي" المالي في الشرق الأوسط، حيث تدخلت القوى الغربية، خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، ليس للسيطرة و/أو للقهر فقط، ولكن لتدمير البنية الأساسية للدول العربية!).
أن يطبق الآن حزب "اليسار الراديكالي" هذه السياسة هو انتصار لمعظم الأشكال المتطرفة من الرأسمالية المتأخرة، وقلة قليلة من الناس فقط يمكن أن تتوقع شيئا كهذا. المثال الوحيد الذي يمكن للمرء مقارنته بهذه الحالة هو تحول القيادة السوفيتية إلى أفكار المشجعين كريغان وتاتشر، وهو التحول الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى زوال الاتحاد السوفيتي.
كما قلنا سابقا، إن الآثار الناجمة عن كارثة سيريزا بدأت بالظهور في اليونان وأوروبا. بشكل غير مباشر ولكن بعمق تؤثر هذه الكارثة على اليسار الأوروبي (على سبيل المثال في إسبانيا أو أيرلندا)، وعلى الوضع الأوروبي بأكمله، وعلى النضال من الدول الأوروبية ضد "الإمبراطورية المالية"، التي يرغب في فرضها تحالف برلين والذي يمثل بالفعل دكتاتورية الأسواق على القارة الأوروبية.
لأن هذه الأزمة في اليونان فإن دكتاتورية القوى غير المرئية والتي تتحكم بـ"الأسواق" تحاول خلق نموذج من أجل حل مسألة الديون في أوروبا وفي العالم. الديون المتراكمة في الاقتصاد العالمي ليست فقط واحدة من المشاكل الاقتصادية الخطيرة، بل أنها أصبحت السلاح الأخطر من "إمبراطورية العولمة" (نخبة رؤوس المال) الذي يستخدم لتدمير الديمقراطية والرعاية الاجتماعية في دول أوروبا.
المقاومة اليونانية يمكن أن تكون بمثابة نقطة محورية لبناء بديل جدي لـ"الليبرالية الأوروبية". وبطبيعة الحال، هناك الآن حركات الاحتجاج الوطنية في أوروبا ضد اليورو وضد الاتحاد الأوروبي والحركات الاجتماعية ضد سياسات التقشف. لكننا لا نزال نفتقر إلى بديل أوروبي حقيقي، وحتى إلى حالات وطنية مرضية. الفكرة الوحيدة "المتداولة" الآن حول ذلك هي العودة إلى الدول القومية. ربما مع تطور الأمور فإن تفكيك منطقة اليورو و/أو الاتحاد الأوروبي يمكن أن يصبح أمرا لا مفر منه في مرحلة ما.
ومع ذلك يتساءل المرء فيما إذا كانت كل هذه الدول القومية الصغيرة والمتوسطة تملك أي درجة من الاستقلالية والقدرة على مقاومة قدرة "التمويل الدولية" والعولمة والولايات المتحدة. لا ينبغي لنا أن ننسى أيضا أنه خلال القرن الماضي كانت الطريقة التي تهيمن من خلالها واشنطن على أنحاء أوروبا هي فكرة العداء والحروب بين دول أوروبا (وهذا ما فعلته لندن أيضا من أجل السيطرة على قارة أوروبا خلال القرن السابق). والشيء نفسه يمكن أن يكون صحيحا من خلال "الحروب الدينية" بين الأوروبيين,