اغتيال السفير الروسي في تركيا: الخلفيات والإفرازات

20.12.2016

تعد عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا امتحانا حقيقيا للعلاقات التركية الروسية، فكلا الطرفين يدركان جيدا الخلفيات الحقيقية لهذا الاغتيال وخاصة الحكومة التركية. إن السياسة التركية بشكل عام وفي المنطقة بشكل خاص أصبحت تقلق كثيرا الدوائر الغربية (الأمريكية، الأوروبية وخاصة البريطانية، والإسرائيلية).

ولهذا فإن اغتيال السفير الروسي في تركيا تأتي في نفس السياق الذي حدثت فيه عمليه إسقاط الطائرة الروسية سابقا من طرف طيارين تركيين، وهي تأتي كذلك في نفس سياق التفجيرات المتتالية التي تشهدها تركيا، وهي تأتي كذلك بالتزامن مع الاجتماع الثلاثي الذي تستضيفه روسيا حول الأزمة السورية بمشاركة كل من إيران وتركيا إضافة إلى روسيا.

وكل هذه الأحداث الأخيرة هي من إفرازات الحركة الانقلابية الفاشلة التي تمت في 15 يوليو/تموز 2016 من جهة، ومن جهة أخرى لها علاقة مباشرة بما يحدث في المنطقة العربية من حروب وتدخلات دولية من طرف الأمريكيين والروسيين ولاسيما ما يحدث في سوريا منذ سنة 2011. وهنا تحظرني مقولة لـ "نجم الدين أربكان" قالها في بداية التسعينيات "إذا أصبحت سوريا في يوم من الأيام تشكل قضية فاعلموا أن المستهدف هو تركيا."

إن الدوائر الغربية أصبحت تخشى استقلالية القرار التركي من جهة، ومن جهة أخرى أصبحت تخشى التقارب التركي الروسي في ظل تنامي القوة التركية واستعادة روسيا لدورها كقطب فاعل في القضايا العالمية، فروسيا أصبح لها تواجد عسكري في بحر البلطيق وفي البحر الأسود وفي البحر المتوسط. والاهم من ذلك، فإن القوى العالمية (أمريكا، أوروبا، روسيا) تراقب بحذر شديد وتخوف نزعة الانتشار التي تولدت لدى الأتراك وسعيهم للتمدد في منطقة الشرق الأوسط، وفي ما يسمى بالعالم التركي (الدول التي لها علاقة عرقية أو لغوية مع تركيا)، ولهذا فإن الدوائر الغربية ستعمل كل ما في وسعها لإضعاف السياسة التركية.

وعلى هذا الأساس، فإن عملية اغتيال السفير الروسي تمثل فرصة أخرى لاختبار مدى متانة العلاقات التركية الروسية، وفي نفس الوقت تمثل فرصة لقياس مدى قدرة القيادة التركية في مواجهة الضغوطات والمساومات الخارجية لاسيما الغربية منها.

ولهذا، يبدو لي أن كلا من روسيا وتركيا سيتجاوزان هذه المرحلة الصعبة وسيحاولان الحفاظ على المصالح المشتركة بينهما، فروسيا تحتاج إلى تركيا وتركيا تحتاج إلى روسيا مع العلم أن هذا لا ينفي وجود اختلافات في وجهات النظر بين الطرفين. إن تركيا أصبحت تلعب دورا الموازن بين القوى العالمية (أمريكا وروسيا) وفي نفس الوقت دور الموازن بين القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط (إسرائيل، إيران، العالم العربي)، وبالتزامن مع ذلك تعد تركيا مجالا للتنافس بين القوى العالمية، فلا يمكن لأي قوة عالمية أن تتحكم في الشرق الأوسط دون الاعتماد على تركيا.

وهذا يعني أن كلا من روسيا وتركيا تدركان جيدا أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل كل ما في وسعها لإفساد التقارب الروسي التركي. وبالتالي فكلا من القيادة الروسية والقيادة التركية ستحاولان احتواء الوضع والمحافظة على استمرارية علاقاتهما دون الوصول إلى القطيعة، ويبدو أن كلاهما استخلص العبر من حادثة إسقاط الطائرة الروسية سابقا.

علاوة على ما سبق ذكره، فإنه على مستوى الداخل التركي أبانت عملية الاغتيال هذه عن وجود خلل في المنظومة الأمنية والاستخباراتية التركية، بحيث ستكون هذه العملية في صالح القيادة التركية التي ستوظف هذا الاغتيال للاستمرار في تطهر الأجهزة الأمنية والعسكرية من العملاء المتغلغلين في مؤسسات الدولة التركية، مع العلم أن هذا الأمر ليس بجديد وإنما هو موجود منذ الخمسينيات.

وأبرز مثال هنا هو تنظيم "الغلاديو" الذي أنشأه الحلف الأطلسي برعاية أمريكية للتغلغل في العديد من الدول وأهمها تركيا. وهذا يعني أن عملية الاغتيال سيستثمر فيها الرئيس التركي رجب أردوغان والذهاب نحو إصلاح شامل للمنظومة الأمنية والعسكرية التركية بالتزامن مع مواصلة الإصلاحات السياسية والدستورية والحفاظ على ديناميكية التنمية الاقتصادية، والتي تهدف في مجملها إلى بناء القوة التركية بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية تركيا (1923-2023).

المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا مسؤولية على هيئة التحرير)