بوتين ونتنياهو بعد ربع قرن
في كل مرة يزور فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو روسيا ويلتقي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تُثار الكثير من الأسئلة حول طبيعة العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية وحقيقة نتائج مثل تلك اللقاءات. وزيارة نتنياهو الأخيرة لموسكو ومباحثاته مع بوتين في الكرملين في 16 حزيران الجاري ليست استثناء في هذا السياق، خاصة أنها تأتي في إطار احتفال البلدين بمرور خمسة وعشرين عاماً على استئناف العلاقات بينهما، وفي ظل استمرار الانخراط العسكري الروسي في سوريا، وتعقُد الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والتنسيق الروسي ـ الإسرائيلي عسكرياً في السماء السورية.
يُضاف إلى ذلك تعقُد العلاقات الإسرائيلية ـ الأميركية، بدرجة ما، في ظل إدارة أوباما. ومن متابعة العلاقات بين موسكو وتل أبيب خلال ربع القرن الأخير، يمكن القول إن هذه العلاقات تتطور بشكل حثيث وإيجابي، فالسلع المدمُوغة بعبارة «صُنع في إسرائيل» تتزايد في السوق الروسية. وتشير المصادر الروسية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ أكثر من ثلاثة مليارات دولار. هذا بجانب التعاون بينهما في مجال الزراعة والتكنولوجيا الرفيعة في مجالات عدة من بينها المجال العسكري. ولكن هذا التعاون الأخير، في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، يظل طي الكتمان والسرية.
برغم هذه الإيجابية في ديناميكية العلاقات بين البلدين، فإن الأمر لم يخلُ من بعض التعقيدات. وكانت أبرز هذه التعقيدات الدعم الإسرائيلي لجورجيا خلال الحرب الروسية الجورجية في العام 2008. ولكن موسكو «تسامحت» مع هذا الأمر في حينه، بالحديث عن وعد إسرائيلي بوقف المساعدات العسكرية لتبليسي. ويبدو أن موسكو تحفظ لتل أبيب أيضاً أنها لم تنضم إلى العقوبات الأميركية الأوروبية ضدها بسبب الأزمة الأوكرانية والقرم. وتشير وسائل إعلام روسية إلى أنه في مستهل لقائه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، قيّم بوتين العلاقات بالقول: «نحن في روسيا نولي أهمية كبيرة لعلاقاتنا مع إسرائيل، ليس فقط لأن إسرائيل هي دولة من الدول المحورية بالنسبة للوضع في الشرق الأوسط، وإنما نظرًا للعلاقات التاريخية التي تربط بين بلدينا».
لقد حرص بوتين ونتنياهو خلال لقائهما التأكيد على تحالفهما في محاربة الإرهاب سواء في سوريا أو في المنطقة، حيث أعلن الرئيس الروسي عزم موسكو على تعزيز تعاونها مع إسرائيل في مكافحة الإرهاب. ومن المعروف أن تل أبيب تصنف حركة «حماس» و«حزب الله» كمنظمتين إرهابيتين، بينما موسكو لا ترى ذلك وتتواصل معهما، كما يؤكد الكثير من المسؤولين الروس. ويعتقد البعض أن هذا التحالف الروسي ـ الإسرائيلي في مواجهة الإرهاب وليد «انسجام» البلدين في تنسيقهما العسكري في سوريا، ولكن واقع الحال يقول إن التعاون والتحالف بينهما في هذا المجال سابق للوضع في سوريا. وفي ما يتعلق بهذا الوضع، فإن بوتين ونتنياهو أكدا على استمرار التنسيق العسكري بينهما في السماء السورية.
وفي لقاء بينه وبين حوالي مئة من قادة اللوبي اليهودي ورجال الأعمال في موسكو، هذا اللوبي يتمتع بتأثير كبير في روسيا بما في ذلك في وسائل الإعلام، أكد نتنياهو أن إسرائيل لا تتدخل في الحرب الاهلية السورية، ولكنها لن تسمح بإطلاق هجمات من سوريا باتجاه إسرائيل. وبشأن مستقبل علاقات إسرائيل مع الرئيس السوري، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إن بلاده «لا تتدخل بهذا الشأن»، بل تريد أن تضمن «ألا تتحول سوريا الى منصة اطلاق للهجمات ضد اسرائيل». ويتردد في موسكو أن الوجود العسكري الروسي في سوريا يضمن عملياً لإسرائيل هدوء جبهة الجولان وجبهة الجنوب اللبناني. ولكن موسكو الرسمية لا تؤكد ولا تنفي مثل هذا الأمر.
وتشير صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» الروسية، في عددها الصادر في الثامن من الشهر الحالي، إلى أن نتنياهو بحث مع الرئيس بوتين ضرورة عدم وصول أسلحة حديثة إلى «حزب الله»، وضمان عدم توجيه الصواريخ الإيرانية إلى إسرائيل. وبحسب الصحيفة الروسية، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي أكد للرئيس الروسي على ضرورة عدم السماح بتحوّل سوريا إلى رأس جسر إيراني للعدوان والإرهاب ضد إسرائيل. ولكن ماذا قال بوتين لنتنياهو بهذا الشأن؟ هنا تصمُت وسائل الإعلام الروسية تماماً ولا تجيب على هذا السؤال. ونعتقد أن الإجابة قد تتضح من خلال تطورات الوضع في سوريا وتبعاته المستقبلية.
من الموضوعات المهمة التي بحثها بوتين ونتنياهو كانت التسوية الإسرائيلية الفلسطينية، فالرئيس الروسي أكد استعداد بلاده للإسهام بقسطها في إيجاد تسوية عادلة وشاملة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. ولكنه أكد أيضاً أن الوضع يتطلّب اليوم «جهودًا نشطة مشتركة، بما في ذلك في إطار الرباعية الدولية بشأن الشرق الأوسط، وأن موسكو مستعدة للمشاركة في هذا العمل». ويرى مراقبون روس أن نتنياهو ليست لديه حساسية من قيام بوتين شخصياً بالوساطة في هذه القضية، لكن تل أبيب لا تزال تُصرّ على مباحثات ثنائية بينها وبين الفلسطينيين وترفض أي مؤتمرات دولية لهذا الغرض. والمثال الساطع على ذلك، هو رفضها مؤتمر باريس الأخير.
ويتعين علينا أن نفهم جيداً أن موسكو، مثلها مثل واشنطن، تؤكد على ضرورة ضمان أمن ووجود إسرائيل. وهذا يتردد على لسان مسؤولين روس رفيعي المستوى. ولكن الموقف الروسي يختلف نوعاً ما عن الموقف الأميركي. فموسكو تشدد على ضرورة تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية تعيش في أمان وسلام مع إسرائيل، ولكنها، أي روسيا، ليست «نشطة» بالقدر اللازم في هذا الموضوع.
مع كل زيارة لنتنياهو، يتردّد في موسكو كذلك أن روسيا تسعى إلى تعزيز العلاقات مع إسرائيل والأوساط اليهودية في العالم، على اعتبار أن هذا مفتاح مهم للتأثير على الغرب بشأن رفع أو تخفيف العقوبات المفروضة عليها وضخ الاستثمارات في الاقتصاد الروسي، الذي يُعاني من أزمة غير بسيطة. ويدلل أصحاب هذا الرأي على ذلك، بلقاءات الرئيس الروسي المتكررة مع نتنياهو في الفترة الأخيرة، واستقباله لرئيس المؤتمر اليهودي العالمي في الكرملين في نيسان الحالي. في هذا اللقاء، أكد الرئيس الروسي أن المنظمات اليهودية تساهم بشكل كبير في إحلال الاستقرار السياسي في روسيا، مشيرًا إلى اللقاءات المكثفة التي تجري بين المنظمات اليهودية الروسية ونظيراتها الأوروبية.
وفي هذا السياق، تقول مصادر إعلامية روسية أن الكرملين يدعو يهود إسرائيل ويهود العالم للاستثمار بسخاء في القرم على سبيل المثال. وأخيراً، يمكن القول إن النتائج الفعلية لزيارة نتنياهو إلى موسكو سوف تتجلّى، بدرجة أساسية، على أرض الواقع من خلال متابعة التطورات المستقبلية للمشهد السوري. ولا يتعيّن، في الوقت ذاته، أن تغيب عنا سياسة موسكو الرامية إلى تطوير العلاقات أيضاً مع الدول العربية وإيران.
جريدة "السفير"