آسيا الوسطى.. خارطة الصراع الدولي ونقاط الشراكة والتناقض

14.09.2016

أسفر تفكك الاتحاد السوفييتي عن ظهور ست جمهوريات في آسيا الوسطى، هي تركمانستان، أوزبكستان، طاجيكستان، قرغيزيا، كازاخستان وآذربيجان. ومن الناحية اللغوية تتحدث تلك الدول بلغة قريبة من التركية باستثناء طاجيكستان التي تستخدم اللغة الفارسية وغالبية السكان فيها يدينون بالاسلام، ويعتبر تراث دول آسيا الوسطى امتداداً لتراث الشرق الأوسط والتراث التركي والفارسي، ونظراً للموقع الجغرافي المهم الذي تحتله حيث تقع بين روسيا وإيران والصين وأفغانستان، كان من المتوقع أن تكون المنطقة محط اهتمام الدول الكبرى القريبة والبعيدة، ونبرز هنا أهم الدول المعنية بالصراع:

روسيا: وهي أكثر القوى الخارجية نفوذاً في المنطقة، لأنها كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يضم دول آسيا الوسطى أيضاً، وتتمحور السياسة الروسية نحو تقوية العلاقات مع دول آسيا الوسطى خشية تنامي النفوذ الامريكي فيها بعد انتهاء الحرب في أفغانستان وتشكيل حكومة انتقالية فيها وما سيترتب عليها من اصطفافات دولية جديدة، ونجحت روسيا نوعاً ما في كسب تلك الدول للانضمام الى رابطة الدول المستقلة، التي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي للتقليل من امكانية اختراقها من قبل الدول الاخرى كأمريكا وتركيا وايران، لاعتبارات سياسية واقتصادية ودينية وعرقية.

وكان ولا يزال العامل الاقتصادي والعسكري أحد أهم الاسباب التي دعت روسيا للاهتمام بتلك الدول، فاقتصادياً يرتبط اقتصاد دول آسيا الوسطى بالاقتصاد الروسي بشكل كبير، حيث تحتل الواردات والصادرات الروسية مكانة كبيرة في اقتصاديات دول آسيا الوسطى، والهدف العسكري يتركز أساساً في العمل على تجريد دول آسيا الوسطى من السلاح النووي المتبقي من الترسانة النووية السوفييتية خاصة في كازاخستان، ومنع تسرب الخبرة والمواد النووية الى الدول الاخرى، حيث أدى انهيار الاتحاد السوفييتي الى توزع القوة النووية على اربع جمهوريات هي روسيا وروسيا البيضاء واوكرانيا وكازاخستان ومع اتساع عدد الدول القادرة على انتاج السلاح النووي واحتمال وقوع تلك القدرات الفتاكة في متناول بعض الانظمة المغامرة أو بأيدي حركات ارهابية، ما يجعل المسألة تحتاج الى احتراز دقيق وقيود تمنع استخدامها.

وترى موسكو أن العمليات الارهابية في 11 سبتمبر/ايلول 2001، والاستعدادات الامريكية لمواصلة الحرب ضد الارهاب الدولي بعد افغانستان وحرب العراق قد حسم عملية انسحاب واشنطن من معاهدة الحد من الصواريخ (أي بي أم) الموقعة عام 1972، والشروع في بناء شبكة الدفاع الصاروخية والتي توشك على الإطاحة بالتوازن الاستراتيجي الهش بين موسكو وواشنطن. هذا سيشجع بعض الدول للدخول في سباق التسلح النووي، ويفتح الطريق أمام انتشار اسلحة الدمار الشامل باعتبار الانسحاب الامريكي هو مقدمة لانهيار المنظومة القانونية التي تحرم انتشار أسلحة الدمار الشامل.

الولايات المتحدة: أما عن الدور الأمريكي، فالوضع يختلف حالياً، ففي الوقت الذي كانت فيه أمريكا الممول الأكبر للحركات الاسلامية التي كانت تقاوم التدخل السوفييتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي ودعمت حركة التمرد الشيشانية اعلامياً ومعنوياً، أصبحت فيما بعد تتعامل بطريقة مختلفة بعد الهجمات الارهابية على واشنطن ونيويورك، وبدأت تنسق مع روسيا ودول اخرى من أجل كبح جماح الحركات الاصولية المسلحة في العالم، أما الآنـ فقد عادت واشنطن لدعم الحركات المتطرفة، وإن سرا، بهدف إثارة توترات إقليمية، وإطلاق ثورات ملونة، وإدارة حروب هجينة، بما يساعدها في حربها الباردة الجديدة، مع روسيا.

تتمثل مصالح واشنطن في آسيا الوسطى انطلاقاً من عدة نقاط، أهمها منع روسيا من بسط نفوذها في تلك المنطقة وتمثل روسيا احدى اولويات اهتمام السياسة الامريكية نظراً لكون روسيا تمتلك قدرات عسكرية وبشرية واقتصادية كبيرة، وتحرص موسكو على منع قيام أية انقسامات عرقية في آسيا الوسطى خوفاً من انتقال عدواها الى روسيا نفسها، وتسرب التطرف إلى جمهوريات أخرى مسلمة في المنطقة، ومن ثم إلى القوقاز. وترى أيضاً أن من مصلحتها التزام جمهوريات آسيا الوسطى بمعاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية وعدم انتقال الخبرة والتكنولوجيا النووية الى دول معادية,

من الناحية الاقتصادية لدى أمريكا مصالحها الخاصة لا سيما في كازاخستان وتركمانستان بسبب مخزونهما من النفط والغاز، وسيكون من نتائج تواجد النفوذ الامريكي في المنطقة تهيئة كافة الاطراف المعنية للتعامل مع واقع جديد يغلب عليه عنصر المساومة الذي سينتج عنه تحالفات جديدة وانقلاب كافة الموازين والحسابات.

من الدول المهمة التي لديها نفوذ في آسيا الوسطى، تركيا وايران والصين، وتعود أهمية تركيا الى العامل الثقافي المشترك بينها وبين معظم تلك الدول وكان استقلال جمهوريات آسيا الوسطى قد أعاد الى تركيا مكانتها الاستراتيجية بعد أن فقدت تلك الأهمية مع انهيار الاتحاد السوفيتي وبرزت مكانتها لدى أمريكا والغرب بعد الحادي عشر من أيلول بسبب علاقاتها التأريخية واللغوية والدينية مع دول آسيا الوسطى وامكانية استخدامها للترويج للنموذج الغربي القائم على الإسلام العلماني، في دولة غالبيتها العظمى من المسلمين، وتتبنى نظام الاقتصاد الحر والديمقراطية، ويواجه التحرك التركي اعتراضاً من روسيا وتحاول تركيا تبرير ذلك من خلال توظيفها للنموذج العلماني في مواجهة الاصولية الدينية التي تخشى منها روسيا، ويهدف النشاط الاقليمي التركي نحو آسيا الوسطى باعتبار أن نجاح تركيا في هذا المسعى سيمثل لها انتصاراً معنوياً يعوض عن فشلها منذ فترة طويلة للدخول الى السوق الاوروبية المشتركة، فضلاً عن أهميته لانعاش اقتصادها المتدهور.

أما عن الدور الايراني، فتحاول هي الاخرى إيجاد مناطق نفوذ لها وخاصة في طاجيكستان التي يتحدث معظم سكانها إحدى اللهجات القريبة من اللغة الفارسية، حيث تتنافس مع تركيا في بسط نفوذها. وأهم العقبات التي تواجهها إيران هي الاختلافات المذهبية واللغوية باعتبار أن معظم شعوب آسيا الوسطى هم من الطائفة السنية ويتحدثون بلغة قريبة من التركية، إضافة الى محاولة أمريكا والغرب للحد من النفوذ الايراني الذي ينظر اليه باعتباره يشجع الاصولية الدينية.

وكانت إيران قد حققت نجاحاً على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي وعززت دورها الاقليمي والآسيوي عندما نجحت في بناء طريق الحرير في عام 1996، وهو خط سكة حديد يربط السواحل الايرانية المقابلة للعديد من بلدان مجلس التعاون الخليجي بالشبكة العامة لسكك الحديد الايرانية والتي تربط إيران بدول آسيا الوسطى عبر أراضي تركمانستان، وبذلك حصلت جمهوريات آسيا الوسطى على منفذاً على المياه الدافئة في الخليج العربي.

أما الصين، فهي تسعى لتوسيع نفوذها الإقتصادي في المنطقة، وتسعى لإنشاء طريق الحرير الجديد عبر المنطقة، ليكون خط وصلها بأوروبا. لدى الصين وروسيا بعض التناقضات، إلا أن المصالح المشتركة تلتقي في عددكبيرمن النقاط، غير أن الصين لا توافق على سياسات واشنطن في المنطقة، والتي تسعى لإصارة الفوضى والقلاقل، من أجل زعزعة أمن روسيا وإلهائها عن الأزمات الدولية بصراع إقليمي قرب حدودها، بالإضافة إلى مساعي واشنطن للحد من النفوذ الإقتصادي الصيني، والذي تواجهه في عدد من المناطق بالعالم، أهمها بحر الصين الحنوبي.

السناريوهات الأسوأ
وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، شَكَّلت أملًا جديدًا لتمدد متطرفي آسيا الوسطى، كما سنحت للعناصر المتطرفة في خارج البلاد، خاصةً في سوريا والعراق فرصة العودة مرة أخرى لموطنهم الأصلي، وإمكانية الانتشار والتمدد فيه؛ وذلك لتركيبة البلاد القبلية والإثنية المتنوعة، وما تحظى به من أهمية استراتيجية بسبب رقعتها الجغرافية المترامية الأطراف من آسيا؛ حيث تقع في قلب آسيا الوسطي، وعلى حدود الصين وروسيا وإيران وأفغانستان.

تسعى الزولايات المتحدة لكسب ود النظام الأوزبكي الجديد، غير أن هذه المساعي يبدو أنها باءت بالفشل، ومن المتوقع أن تنطلقواشنطن للعمل على زعزعة الإستقرار في المنطقة، عبر استخدام العناصر الإرهابية. فحسب العديد الإحصاءات، التحق حوالي 7 إلى 10 آلاف من مواطني آسيا الوسطى والقوقاز بـ"داعش" وتنظيمات متطرفة أخرى، مما يعني أن أي خلل أمني في هذه البلدان من شأنه أن يخلق حاضنة ملائمة للمتطرفين في المنطقة، وبإمكان الإرهابيين فتح جبهة جديدة هناك، وستكون أفغانستان بوابة هذا التدفق، خاصة أنه من الصعوبة بمكان التحكم بالحدود بين أفغانستان وهذه البلدان الحبيسة في جغرافيتها البرية حيث لا شواطئ لها على البحار المفتوحة.

وتفيد التقارير أن عناصر من آسيا الوسطى يقاتلون حالياً في صفوف طالبان في أفغانستان وباكستان، وفي صفوف "داعش" في مناطق فارياب وبادغيس وجوزان، بالإضافة إلى انه في أكتوبر/تشرين الأول 2014، كانت “حركة أوزبكستان الإسلامية” قد أعلنت أنها في نفس الصف الذي يقف فيه "داعش" دون أن تعلن البيعة بشكل واضح وعلني للزعيم الداعشي أبوبكر البغدادي. وهذه الحركة لها نشاط ملحوظ في المناطق القبلية في باكستان، وكانت على علاقة بتنظيم "القاعدة" من قبل، وأصدر زعيمها عثمان غازي بيانًا قال فيه: "باسم كل أعضاء حركتنا ووفاء بواجباتنا، أعلن أننا في نفس الصف مع “داعش” في هذه الحرب بين الإسلام والكفار".

وفي الوقت الذي رحب غازي بإلغاء الحدود بين الدول الإسلامية، وشملت “ولاية خراسان” المعلنة من جانب داعش مساحات واسعة من دول آسيا الوسطى بما فيها أوزبكستان، أعرب هذا الزعيم الأوزبكي المتطرف عن أمله في أن تتم السيطرة قريبًا على كافة الأراضي الإسلامية.

الحركة التي تأسست في تسعينيات القرن العشرين، وصنفتها الولايات المتحدة الأمريكية كمنظمة إرهابية سبق وإن احتل قادتها مراتب رفيعة في صفوف القاعدة، وشارك عدد من مقاتليها في هجوم عام 2014 على مطار كراتشي في باكستان، قد تكون حليف واشنطن الجديد في المنطقة، لإشعال الفتن وتحويل خاصرة روسيا إلى ساحة مناوشات تفتح لها الطريق للتغلغل في المنطقة، تحت راية مكافحة الإرهاب ونشر قواعدها وجنودها في المنطقة.

وتعد منطقة “وادي فرغانة” التي تحدها قرغيزستان شرقاً، وتضم محافظات قرغيزية من قبيل أوش وجلال آباد وباتكين وتجاورها طاجيكستان جنوبا، وتضم محافظة سغد الطاجيكية، أما أوزبكستان فتقع غربي الوادي الذي يضم محافظات فرغانة ونمنجان وأنديجان منبع وبؤرة الحركة المتطرفة.

هذا التلاقي الحدودي المعقد بين الدول الثلاث وصعوبة التحكم بالحدود المتداخلة بين هذه البلدان في وادي فرغانة، سيمهد الظروف الجغرافية والاجتماعية لنمو الحركات الإسلاموية المتطرفة في قلب آسيا الوسطى، وكانت أفغانستان دائمًا هي المنفذ، خاصة عبر مدينتي ترمذ وطراز الأوزبكيتين، والانتقال إلى وادي فرغانة البعيد عن عواصم البلدان الثلاثة إلى حد ما والمحاصر بجبال شاهقة ووعرة، وهو الأمر الذي تريده أي مجموعة تتبنى حرب العصابات بغض النظر عن الأيديولوجية التي تحملها.

ولعل هذا التخوف هو الذي يجمع بين الصين وروسيا، حتى لو اختلف الطرفان حول التفاصيل، فآسيا الوسطى تشكل العمق الاستراتيجي للصين، التي تضم في مقاطعاتها القريبة من المنطقة، شعبا شقيقا لشعوب هذه المنطقة، وهو الشعب الأيغوري الذي يقطن في ولاية تركستان الشرقية التي تطلق عليها بكين اسم “سين كيانغ”.

وبما أن الحركات المتحالفة مع داعش لا تشكل خطرًا على أمن أوزبكستان فحسب، بل على أمن كافة الدول الخمس في آسيا الوسطى وعلى مصالح كل من موسكو وبكين، فإن من خليفة كريموف، ميرزيايف، سيضطر للسير على نفس النهج الذي رسمه كريموف، والذي يوافق مصلحة الدولة الأوزبكية في التعاون مع روسيا والصينـ التان تنظران بحذر إلى هذه المنطقة بالغة الدقة والحساسية؛ وهو بالتأكيد سيحاول الحفاظ على الوضع الراهن وفقا لسياسة براجماتية تخدم الاستقرار في بلاده، وسوف تستخدم طشقند الحاجة الدولية لاستقرارها بصفتها أكبر دولة من ناحية عدد السكان لتقمع أي احتجاج داخلي، والتصدي لأي صراع قبلي في بلد سمته التعددية القبلية.

من جانبه، ذكر جهاز الأمن القومي الأوزبكستاني أن هناك 5 آلاف من أعضاء “حركة أوزبكستان المتشددة”، الممنوعة في دول عدة بما فيها روسيا والولايات المتحدة، يقاتلون في الوقت الراهن إلى جانب تنظيم "داعش"، مشيرًا إلى أن “نصفهم من أوزبكستان” كما يقول خبراء عسكريون إن لدى "داعش" كتائب من أوزبكستان والشيشان، وهم من أخطر الإرهابيين تم تجنيدهم في مناطق مثل وادي فرغانة الواقع بين أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان على حدود أفغانستان، وهناك أيضًا داغستان وهي على حدود الشيشان، وأنهم ينتقلون إلى الإرهاب بعد سجل من الجرائم، ولديهم خبرة بالإتجار بالأسلحة والناس والنقود عبر الحدود.

مما سبق نستطيع التأكيد على أن وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف ستشكل أملًا جديدًا لتمدد دواعش آسيا الوسطى، كما ستمنح الفرصة للعناصر المتطرفة في خارج البلاد وخاصة في سوريا والعراق بالعودة مرة أخرى إلى موطنهم الأصلي وإمكانية النمو والتمدد فيه؛ وذلك لتركيبة البلاد القبلية والإثنية المتنوعة، وهو الأمر الذي قد يشكل مستقبلًا مزدهرًا لدواعش آسيا الوسطى، خاصة إذا قدمت الولايات المتحدة لهم العون والسند.