الحب فى التراث العربى والإسلامى - (3/1)
نقطة يغفل اغلب الباحثين فى التراث والحضارة العربية والاسلامية عنها، غالبا، حيث يتم مناقشة الجوانب العسكرية والدينية والاقتصادية لهذه الحضارة وإغفال هذا المكون الرائع من التراث الإنسانى العربى الذى يتعلق بالحب والمحبة وقصص العشق التى خلدتها وتناقلتها كتب التراث العربى والاسلامى ، وسنحاول فى هذا المقال بأجزائه نقل ما وقعت ايدينا عليه من قصص المحبين والعشاق وسنورد فى البدء ما قيل عن العشق وتفسيراته واسبابه واعراضه ومسمياته واهم ما كتب عنه فى كتب الفقهاء والفلاسفة ورؤيتهم عن الحب والمحبة
يقول النبى محمد فى الحديث الشريف أن : "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها إئتلف، ما تنافر منها اختلف" والحديث هنا حين نتأمل دلالته الدقيقة عن المحبة، وعن كونها التقاء روحى يحدد عن طريق التعارف والتناكر، فالروح تعرف ذاتها فى وترى نفسها فى روح او أرواح اخرى تشاركها صفاتها فتكون الألفة، او تشعر بالغربة فى حالة الالتقاء مع الروح الاخرى فيكون الانكار والاختلاف ..
هذا الحديث هو الحديث الذى يستدل به دائما كل من تكلم عن العشق وماهيته ومحاولة شرح اسبابه فى من تكلم عنه من فلاسفة وفقهاء المسلمين مثل ابن حزم والديلمى وابن داود وغيرهم عن التفسير الميتافيزيقى للعشق ، وارتباط المحبة والعشق بتلاقى الارواح فلا تكاد تجد اثنين يتحابان الا وبينهما فى الاغلب مشاكلة واتفاق فى الصفات الطبيعية، وإن قل، وكلما كثرت الاشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة
يقول الامام ابن حزم فى كتاب طوق الحمامة الذى حاول فيه وصف الحب ومعانيه واسبابه واعراضه، ان الناس قد اختلفوا فى وصف ماهية الحب وقالوا واطالوا "والذى اذهب اليه انه اتصال بين اجزاء النفوس المقسومة فى هذه الخليقة فى اصل عنصرها الرفيع" – وهذا ما يؤكده الحديث النبوى الشريف – فالعشق هو استحسان روحانى وامتزاج نفسانى كما يقول ابن حزم "ونفس المحب متخلصة، عالمة بمكان ما كان يشركها فى المجاورة – قبل الخلق- طالبة له وقاصدة اليه وباحثة عنه ومشتهية لملاقاته، جاذبة له او امكنها كالمغناطيس والحديد" وقد أرجع تعريفه هذا إلى الآية الكريمة : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) وكان تعقيبه الرائع عليها، وهو قوله: "فجعل علة السكون أنها منه"
يكمل الفيلسوف ابن داود الظاهرى فى كتاب الزهرة هذه الرؤية الميتافيزيقية للحب واستشهاده بالحديث النبوى وتفسيره بما حدث قبل الخلق وتقسيم الله للارواح فى الاجساد ثم التقائها بعد نزولها فيقول انه قد زعم بعض الفلاسفة أن الله تعالى قد خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها ايضا، فجعل فى كل جسد نصفا وكل جسد لقى الجسد الذى فيه النصف الذى قطع من النصف الذى معه، كان بينهما عشق للمناسبة القديمة، وتتفاوت احوال الناس فى ذلك على حسب رقة طبائعهم، ويتشهد بقول الشاعر جميل بثينة فى ذلك لما قال :
تعلق روحى روحها قبل خلقنا .. ومن بعد ما كنا نطافا وفى المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا .. وليس اذا متنا بمنتقض لعهد
ولكنه باق على كل حالة .. وزائرنا فى ظلمة القبر واللحد
وليست هذه الاسباب المتافيزيقية - إن صح التعبير-هى التعليل الوحيد لوجود العشق والمحبة، فهناك ايضا التفسير الفلكي، وقد ردد أكثر من دارس قديم للحب أن للنجوم في منازلها ومساواتها أثرا في إيجاد التوافق بين المحب والمحبوب، وكان ابن داود أول من نقل زعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة ضروب : إما لاتفاق الأرواح، فلا يجد المرء بدا من أن يحب صاحبه، وإما للمنفعة، وإما لحزن وفرح، وهو يقرن كل حالة من هذه الحالات الثلاث بوضع عدد للشمس مع القمر، وينتهي إلى أن المولودين يمكن أن يكونا مطبوعين على مودة كل منهما للآخر، أو تكون بكل منهما منفعة في صاحبه فتكون المنفعة سببا في الصداقة والمحبة، وقد تكون محبتهما من باب أنهما يفرحان لسبب واحد، أو يحزنان لسبب واحد، فيتوادان بذلك السبب.حيث يذكر بطليموس "فأما اتفاق الارواح فإنه يكون من كون الشمس والقمر فى المولدين فى برج واحد، ويتناظران من تثليث او تسديس نظر مودة، فإنه إذا كان كذلك، كان صاحبا المولدين مطبوعين على مودة كل واحد منهما لصاحبه "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبدأ الامام ابن حزم كتابه طوق الحمام عن صعوبة شرح مفهوم واضح للمحبة فيذكر فى باب الكلام فى ماهية الحب انه " واعلم اعزك الله ان الحب اوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها ان توصف، فلا تدرك حقيقتها الا بالمعاناة، وليس بمنكر فى الديانة او محظور فى الشريعة اذ القلوب بيد الله تعالى " وهو مفهوم مشابه لما ذكره الشيخ الاكبر فى التنزلات الموصلية لما قال " اعلم أنّ الحبّ معقول المعنى وإن كان لا يُحَد، فهو مُدْرَك بالذوق غير مجهول، ولكنه عزيز التصوّر، ولهذا قلنا:
الحبّ ذوقٌ ولا تُدرى حقيقتهُ .. أليس ذا عجـب والله والله
ويكمل ابن حزم " والحب، أعزك لله، داء عَيَاء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقامٌ مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يودُّ سليمُها البرءَ، ولا يتمنَّى عليلُها الإفاقة"
ثم يقول ابن حزم ان الصورة الحسنة قد تكون علة لوقوع المحبة فى قلب المحب لكنه يفرق بين المحبة الحقيقية القائمة على تلاقى الارواح وبين المحبة غير الحقيقية التى تحدث اذا لم تتجاوز الصورة فتكون عندئذ محض شهوة حيث " أن النفس تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئًا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة.
ويعدد الامام ابن حزم فى هذا الباب ضروب المحبة وانواعها فأفضلها " محبَّة المتحابِّين في لله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحلة والمذاهب، وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان" ومنها ايضا محبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابَّين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ثم يقول ابن حزم ان كل هذه الانواع مرتبطة بالعلل زائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها ومنقضية بزوالها، الا اعظمها جميعا وهى محبة العشق التى " لا علة لها الا ما ذكرنا من اتصال النفوس " فهى التى لا فناء لها الا بالموت
ويقسم ابو الحسن الديلمى المحبة الى خمسة انواع ويرى أنها لخمسة أصناف وهى : نوع الهي لأهل التوحيد، ونوع عقلي لأهل المعرفة، ونوع روحاني لخواص الناس، ونوع طبيعي لعامة الناس، ونوع بهيمي لرذائل الناس، على أنه مع إيمانه بأهمية الترتيب التنازلي الذي حفظ به قيمة كل نوع، تدرجا من المحبة الإلهية إلى البهيمية، فانه يذكر ان اهمهم هو المحبة الطبيعية لانها مبتدأ النفوس الى حمل المحبة الالهية، فالنفوس التى لا تقبل المحبة الطبيعية لن تستطيع تقبل المرحلة الاكبر من المحبة وهى المحبة الالهية حيث يقول " واعلم إنا انما بدأنا بذكر المحبة الطبيعية، لأن منها يرتقى اهل المقامات، إلى ما هي اعلى منها، حتى ينتهى الى المحبة الطبيعية ؛ وقد وجدنا النفوس الحاملة لها إذا لم تتهيأ لقبول المحبة الطبيعية لا تحمل المحبة الإلهية، فإذا هيئت بلطف التركيب وصفاء الجوهر ورقة الطبيعة وأريحية النفس ونورانية الروح، قبلت المحبة الطبيعية، ثم ارتقت وطلبت كمالها والوصول إلى غايتها والارتقاء إلى معدنها، فنازعت أصحابها وهم المحبون، فأزعجتهم حتى ترتقي بهم إلى الإلهية درجة درجة، كلما قربت درجة ازدادت شوقا إلى ما فوقها حتى تتصل بالغاية القصوى"
ومن مفاهيم العشق والمحبة التى ذكرت هو ما وضعه إخوان الصفاء فى رسالة "في ماهية العشق"، وهي الرسالة السادسة من رسائلهم النفسانيات العقلياتان ان العشق هو افراط المحبة وشدة الميل الى نوع من الموجودات دون سائر الأنواع، والى شخص دون سائر الأشخاص، بكثرة الذكر له وشدة الاهتمام به اكثر مما ينبغى وشدة الشوق الى الاتحاد، فالعاشق لا يشبع فأى حال يكون عليها العاشق يتمنى حالا اقرب منها ولهذا قال الشاعر:
اعانقها والنفس بعد مشوقة .. اليها وهل بعد العناق تدانى؟
والثم فاها كى تزول صبابتى .. فيزداد ما القى من الهيمان
كأن فؤادى ليس يشفى غليله .. سوى ان يرى الروحان تمتزجان
وقد قالوا ايضا ان مبدأ العشق باستحسان الجمال والصورة انه أوله نظره او التفات نحو شخص من الاشخاص فيكون مثل حبة زرعت او غصن غرس او نطفة سقطت فى رحم بشر، وتكون باقى النظرات واللحظات بمنزلة مادة تنصب الى هناك، وتنشأ وتنمى على ممر الأيام، الى ان تصير شجرة او جنينا، وذلك أن همة العاشق ومناه هو الدنو والقرب من المحبوب فإذا اتفق له ذلك وسهل عليه تمنة الخلوة والمجاورة فإذا سهل عليه ذلك تمنى المعانقة فإذا سهل ذلك تمنة الالتزام بجميع الجوارح اكثر ما يمكن، ومع هذه كلها يكون الشوق على حاله لا ينقص شيئا بل يزداد كما قال ابن عربى " كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه" فالشوق الى المحبوب عند الشيخ الاكبر لا يسكن بلقاء المحبوب ولا بالاتحاد به فالمحب فى شوق دائم لمحبوبه وان بقى معه حتى يعودان روحا واحدة كما كانا فى اصل المجاورة قبل الخلق
على الرغم من أن الحب ظاهرة إنسانية، وعاطفة يمتزج فيها الشعور بالعقل والإرادة، وهذه خصائص بشرية صرف، فان الملاحظة الإنسانية، والخيال، والتأمل، راحت جميعها تربط وتقيس وتعمم، لتقول في النهاية إن الحب ظاهرة كونية، تتجاوز الإنسان إلى النبات والحيوان والأحجار، بل تتجاوز الحياة البشرية إلى الكون الواسع حتى نلحظها فيما بين الجن، و بين الجن والإنس و بين الكواكب، و بين السماء والأرض !! فالكون كله يتكون ويتحرك بالمحبة.
فيذهب اخوان الصفا الى ان المحبة صفة لازمة فى الكون حيث يربطون بين الحب وبين نشاة الكون وعلاقة الخالق به حيث ان الله تعالى هو المحرك لهذا الكون بالمحبة وان كل تلك المحاسن الموجودة بالكون ومنها المحبة والفضائل هى من فيض الله واشراق نوره على هذا الكون " وان الله هو المعشوق الاول وان كل الموجودات فى الكون تشتاق اليه تعالى ونحوه تقصد لان به وجودها وبقاؤها ودوامها وكمالها لان الله هو الموجود المحض، وله البقاء والسرمد والتمام والكمال المؤيد"
وتتفق هذه الرؤية مع رؤية اخرى مشابهة لها وهى رؤية ابن القيم عن تأثير المحبة فى الكون نفسه وجعلها سبب من اسباب نشأة الكون وقد افرد ابن القيم بابا فى كتاب روضة المحبين ونزهة المشاقين تحت عنوان : "في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها، وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب" وفي هذا الباب، قسم كل ما في العالم من حركة تحت ثلاثة أنواع: اختيارية وقسرية وطبيعية، ثم يقول:
"والحركة الاختيارية أصلها الإرادة، والقسرية والطبيعية تابعتان لها، فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية، فجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة، وبها تحرك العالم ولأجلها، فهي العلة الفاعلية والغائية، بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم، فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها، بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه، فالمحبة حركة بلا سكون، وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب"
وهو ما يتفق ايضا مع نظرة الشيخ الاكبر محى الدين ابن عربى للحب والمحبة وتأثيراتهم فى الكون فيقول فى كتاب التنزلات الموصلية " ان الحب أصل سبب وجود العالم، والسماع سبب كونه، وبهذا الحب وقع التنفس، وأظهر العالَمُ نَفَس الرحمن ... فالمحبة مقامها شريف، وهي أصل الوجود"
وفى التراث ما يورده السراج القارى البغدادى فى مصارع العشاق عن الخليفة المأمون يروى فيها أن المأمون كان فى مجلسه مع الفقيه الشافعى يحيى ابن اكثم والمعتزلى ثمامة بن اشرس يتحاوران عن ماهية العشق فسأل المأمون يحي بن اكثم عن العشق، ما هو ؟ فقال يحيى بن اكثم : هو سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه، وتؤثرها نفسه .. فقال له ثمامة بن اشرس : اسكت يا يحيى ! إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو في محرم صاد ظبيا أو قتل نملة، فأما هذه فمسائلنا نحن.
فقال له المأمون: قل يا ثمامة، ما العشق ؟ فقال ثمامة : العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وتعطي عنان طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وعمى في القلوب مسلكه.
وقد ورد فى التراث ايضا رواية عن علي بن الحسين عليه السلام لما سأل أمرأة : وما الحب ؟
فقالت: أجل والله من أن يُرى ، وأبيَنُ مِن أن يخفى ، كمونه في الحشاء ككمون النار في الحَجَر ، إن قدحته أورى وإن تركته توارى
ثم أنشدت :
إنَّ المحبينَ في شغلٍ لسيِّدهم
كَفِتيَة الكهفِ لا يدرون كم لبثوا
يقول الدكتور محمد حسن عبد الله ان هذه العبارة على إيجازها و بساطتها يمكن أن تعطى بالتأمل دلالات عميقة، لعل هذه الأعرابية اﻟﻤﺠهولة لم تقصد إليها قصدا، ولكن إدراكها الباطن قد انطوى عليها بوعي أو بغير وعي، فتأمل مثلا وصف العشق بالجلالة، التي تعطي إحساسا بالضخامة، ثم الوصف بما يناقض ذلك، فهو لا يُرى، لكنه لا يُرى لجلاله لا لهوانه، ومن هنا كان تقديم القسم بالله أمام موضوع يسبق إلى الخاطر أنه على تنافر معه ووصفه بالخفاء مع قيامه في الصدور،وتقريب هذا الوصف المتناقض ظاهريا بالنار الكامنة في الحجر، وهو تشبيه فلسفي في صميمه، قال به المتكلمون والفلاسفة توضيحا لعلاقة الروح بالجسد
ونختم بما قاله ابن القيم عن قصص المحبة والعشق : "ويكفي أن يكون الإعرابي الذي لا يُذكر مع الملوك، ولا مع الشجعان الأبطال، يعشق ويشتهر بالعشق، فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء ومن دونهم، وتدون أخباره، وتروى أشعاره، ويبقى له العشق ذكراً مخلداً، ولولا العشق لم يذكر له اسم، ولم يرفع له رأس".