ملخص تاريخ الجزائر السياسي لفهم واقعها الحالي
ملف خاص
الجزائر البلد الكبير بمواقفه، ومساحته التي تقدر بحوالي 2،381،741 كيلومتر مربع، وصاحب الثراء الشعبي، والعادات والتقاليد المميزة، الذي قدم شعبه التضحيات تلو التضحيات، ولا يكل ولا يمل من الجهاد، والسعي الدائم للتحرر سواء من القوى الخارجية، أو قوى الاستبداد الداخلية.
الجمعة الماضية كانت الجمعة الأربعون لخروج هذا الشعب بمنتهى التحضر والسلمية، مطالبا بحقوقه الشرعية في الحياة بشكل كريم، ونيله الحرية التي يستحقها، والتي ضحى لأجلها آباءه وأجداده على مر القرون والسنين، وعلى الرغم من أهمية هذا البلد الكبير، ودوره الحيوي في العمل العربي المشترك حال استعاد عافيته من جديد، إلا أنه مازال مجهولا للكثير من العرب، وهذا مع الأسف حال بلدان المغرب الكبير كله من ليبيا إلى موريتانيا.
وجدت من المناسب في هذه الأيام، وتحديدا قبيل الانتخابات الرئاسية المقرر إجراءها في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول من هذا العام، ولفضل هذا البلد الكبير على بلدي مصر، ودوره الذي لا يمكن إنكاره وإن تم تغييبه عن الكثير من المصريين عبر مواقفه النبيلة في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م. أن أتحدث عنه وعن تاريخه، وأضع للقراء الكرام خريطة طريق تساعدهم في فهمه، وفك شفرته، وإزالة حالة اللبس وسوء الفهم لدى الكثير من العرب عنه، ونظرا لأن الجزائر تاريخها كبير، ومليء بالأحداث التي تحتاج إلى مجلدات، سنراعي الاختصار والتركيز على المحطات الهامة في هذا التاريخ، والتي تخدم الهدف الذي أرجوه وهو فهم واقعه الحالي.
مختصر تاريخ الجزائر:
الجزائر فسيفساء بشرية شديدة الثراء، وتحتوي على العديد من العرقيات، وشهدت الكثير من الهجرات التي استقرت على أراضيها، أو هجرات عكسية ذهبت لبلدان أخرى وعلى رأسها مصر، ولعل البعض لا يعرف أن أكبر قبيلة مصرية على الإطلاق من حيث العدد، وهي قبيلة (الهوارة). الممتدة من جنوب الجيزة شمالا إلى أسوان أقصى الجنوب، ويصل عددها لمئات الآلاف، تعود أصولها إلى الجزائر، وهي قبيلة أمازيغية مستعربة، وموطنها الأصلي جبال الأوراس الجزائرية، ومن هذه القبيلة شيخ العرب همام. الذي أسس جمهورية شبه مستقلة في صعيد مصر عام 1767م. [1]
للجزائر تاريخ طويل منذ العصر الحجري القديم، لم تنشأ دولة بالحدود المتعارف عليها اليوم بالجزائر على مر التاريخ إلا متأخرا، حيث كانت المنطقة الممتدة من ليبيا إلى موريتانيا التي تسمى شمال أفريقيا، أو بلدان المغرب الكبير مقسمة إلى إمارات قبلية وفق نمط اجتماعي يسمى (العرش الأمازيغي). وهو تجمع لقبيلة واحدة أو مجموعة قبائل متحالفة، ولها نطاق جغرافي واحد يجمعها مكون من عدة قرى، ونظام اجتماعي أبوي يحكمها وفق الأعراف القبلية المتعارف عليها، وقد شكل هذا النظام أساس المجتمع الجزائري القديم، ومع الوقت خلق تراكم من العادات والتقاليد، التي تحولت لثقافة ذات جذور قديمة ضارب في عمق الشخصية الجزائرية حتى الأن، وتبناها كل من وفد على الجزائر وأضاف لها، وتحول هذا المزيج لثقافة جزائرية شكلت هوية هذا المجتمع.
الأمازيغ هم سكان الجزائر الأوائل المعروفون بالتاريخ، ولا شك أن هناك العديد من الأقوام قد سكنت المنطقة قبلهم، ولكنهم كانوا المادة الخام والأرضية الصلبة للوجود البشري، والعادات والتقاليد والثقافة المحلية الجزائرية، وذلك منذ أكثر من ألفين سنة قبل الميلاد، وكلمة أمازيغي تعني بلغتهم (الحر النبيل). وكل من عرفهم وقرأ تاريخهم، وتعامل معهم عن قرب سيدرك بشكل واضح أنه اسم على مسمى، وأنهم لم يتسموا به إلا عن جدارة واستحقاق، فهم أحرار شهد لهم كل من قام بغزو أو فتح أراضيهم، ونبلاء في معاملتهم للأخرين وكرمهم اللامحدود، والأمازيغ يسميهم البعض "البربر" وهي كلمة مأخوذة من الكلمة اليونانية "بارباروس" حيث أطلق اليونانيين بالحقبة الهلينية هذه التسمية على كل الشعوب الغير يونانية، وأخذها الرومان فيما بعد ووصفوا بها الشعوب التي لم تقبل قيمهم وقوانينهم وأنظمتهم، وعلى الرغم من أن التسمية المقصود بها التقليل من شأن الأمازيغ، إلا أنها تدل على مدى تمسكهم بحريتهم. فهم منفتحون على كل ثقافة، ولديهم الاستعداد لتبني ثقافات أخرى حال كانت مفيدة، ومتسامحون في قبول الأخر والاندماج معه، إلا أنهم شديدي العنف والعناد والصلابة حال حاول البعض فرض ثقافته عليهم قسرا، أو عدم احترام مشاعرهم، أو الانتقاص من ثقافتهم، وهذه الحرية وفق هذا المفهوم أصبحت ثقافة حاضرة حتى اليوم لدى كل الجزائريين، وهو ما لا يفهمه عنهم الكثيرين، ويتخيل أنهم شعب عصبي أو عنيف، ولا يدرك هذا البعد التاريخي للشخصية الجزائرية فهي أكرم شخصية قد تراها بالوجود، خصوصا لم يحترمهم ويقدر ثقافتهم، ويعاملهم بصدق وهذا اهم شيء عندهم، فهم لا يعرفون الكذب ويمقتونه، كما أنهم شديدي العنف تجاه من لا يحترمهم.
الأمازيغ خلافا لما يروجه بعض دعاة الفكر "القومي الأمازيغي" المتطرف وهم قلة، ليسوا عرقية واحدة، فالأمازيغ وأن كانوا أول من سكن الجزائر وكل هذه المنطقة عندما بدأ تدوين تاريخها، إلا أن الأمازيغية تحولت مع الوقت لثقافة وإرث وعادات وتقاليد، وتركت بصمتها على كل الوافدين على الجزائر والمنطقة، وحولتهم إلى أمازيغ بغض النظر عن عرقيتهم.
شكل الأمازيغ النواة الصلبة، والقاعدة السكانية للجزائر وكل المنطقة، ووفدت عليهم شعوب عديدة واختلطت بهم، واستوطنت في أراضيهم واندمجوا داخل قبائلهم، من الفينيقيين، وقبائل الوندال الجرمانية في منتصف القرن الخامس الميلادي، الذين وصل عددهم لما يقارب المليون نسمة عندما سقطت دولتهم عام 534م. واختلط بهم الرومان، والروم البيزنطيين، والقبائل الجرمانية القوطية الغربية، والعرب، والإسبان والبرتغاليين المسلمين القادمين من الأندلس بعد طردهم منها، والترك، والأفارقة، وقد تزاوجت كل هذه العرقيات مع الأمازيغ، وانصهرت كل هذه الفسيفساء العرقية مع بعضها البعض، وكذلك ثقافتهم مع الثقافة الأمازيغية فأنتجت ثقافة وعادات وتقاليد جزائرية، مادتها الخام الإرث الأمازيغي العريق، ولغتها الجامعة وليست الوحيدة هي العربية، نظرا لوجود لغات ولهجات عدة حتى داخل الأمازيغ أنفسهم، لكن العربية أصبحت اللغة التي يتقنها الجميع، وقد تأثرت بالأمازيغية، وتأثرت الأمازيغية بها، وأصبحت اليوم هي الدارجة "العامية" الجزائرية.
الأمازيغ يقسمون في الجزائر لثلاث مجموعات رئيسية. أمازيغ المناطق القبلية أو القبائل التي تسمى بالأمازيغية (ثامورث ايذورار). في شمال شرق الجزائر، ويتواجدون من حوالي عشر ولايات أشهرهم ولاية تيزي وزو، وولاية بجاية، ويتحدثون الأمازيغية القبائلية. المجموعة الثانية الأمازيغ الشاوية أو (شَّاوِيَة). بالأمازيغية، وهم سكان شرق الجزائر، وأشهر ولاياتهم باتنة، وخنشلة، وهم أكثر الأمازيغ عددا، ولغتهم الأمازيغية الشاوية ويتقنون العربية بطلاقة. المجموعة الثالثة الأمازيغ المزابيون أو بالأمازيغية المزابية (آت مزاب). يسكنون شمال الصحراء الجزائرية جنوب العاصمة بمنطقة وادي مزاب، وأشهر ولاياتهم غرداية.
جميع الأمازيغ في الجزائر مسلمون، باستثناء قلة في منطقة القبائل تحولوا حديثا للمسيحية، ولهذا التحول ظروفه السياسية والاجتماعية التي سنشرحها فيما بعد، وجميع الأمازيغ المسلمين هم مالكية بالفروع أشعرية بالأصول، ويغلب عليهم التصوف في السلوك، باستثناء المزابيين فأغلبيتهم إباضية، وهناك أمازيغ بكلا التجمعات الثلاث حنابلة سلفية ولكنهم قلة.
تاريخيا تعددت ديانات الأمازيغ، وكانت ديانتهم تنتمي في الغالب الأعم للسائد بالمنطقة والعالم المحيط بهم، ولم يكن لهم ديانة خاصة بالمعنى التقليدي للكلمة، وكانت ديانتهم قريبة للغاية من ديانات المصريين القدماء، ويقدسون مثلهم إيزيس وغيرها من المعبودات، وهذا ليس بغريب لوجود علاقات تاريخية نشأت منذ القدم بين المصريين والأمازيغ، والملك المصري شيشنق الأول. الذي تولى حكم مصر منذ 943 ق.م أمازيغي الأصل، وكذلك كل ملوك الأسرة المصرية الثانية والثالثة والعشرين أمازيغ، وحكموا مصر عبر (16). ملك ذو أصل أمازيغي، ويحتفل الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية التي تمثل شهورها نفس الشهور المصرية القديمة المستخدمة في تحديد مواسم الزراعة، ورأس السنة الأمازيغية تبدأ يوم جلوس شيشنق الأول. على عرش مصر في 12 يناير/كانون الثاني، وهذا العام 2019م. هو العام 2969 أمازيغي.
اعتنق العديد من الأمازيغ اليهودية، وعندما ظهرت المسيحية اعتنقوها، وخرج منهم كبار المبشرين، ورسل المسيح الأثنى عشر، والكنيسة المصرية رسولها ومؤسسها مرقس الرسول أمازيغي، وكذلك آريوس، والقديس أغسطينوس المولود في سوق أهراس الجزائرية عام 354م. وكان الأمازيغ في الجزائر مؤسسي الحركة الدوناتية [2] على يد رجل الدين الأمازيغي دوناتوس بالقرن الرابع الميلادي، والتي تمردت على المسيحية الرومانية وأرادت المسيحية بقيم العدل والمساواة التي عرفتها، وأخيرا اعتنق الأمازيغ الإسلام بعد حوالي قرنين من الزمان من دخول العرب أراضيهم أول مرة عام 643م. وفي هذه الحلقة تفصيل أكثر عن أديان الأمازيغ قبل الإسلام [3]
لم يؤسس الأمازيغ قبل الإسلام دولة أو إمبراطورية كبرى، باستثناء مملكة نوميديا. التي شهدت عصرها الذهبي في عهد الملك الأمازيغي ماسينا. عام 202 ق.م وسقطت عام 46 ق.م وكانت تشمل أغلب أراضي الجزائر الحالية وفي هذا الوثائقي للمهتمين بدراستها سيجدون معلومات بشكل مفصل عنها [4]
أطلت في الحديث عن الأمازيغ لكن لا يمكن المرور على تاريخ الجزائر دون ذكرهم، خصوصا وأنهم قد تعرضوا لظلم تاريخي كبير، وسوء فهم منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها العرب إلى أراضيهم، وسوء معاملة في الكثير من الأحيان، والأمازيغ أكثر من خدموا اللغة العربية، والإسلام وعلومه كدين، وكانت لهم مساهمات سياسية كبرى فيه، وهم مؤسسي الإمبراطورية المرابطية والموحدية، التي حافظت على الأندلس وأجلت سقوطها قرن من الزمان على الأقل، ومن الواجب علينا رد الاعتبار لهم ولتاريخهم، وإزالة سوء الفهم معهم، حيث لا وجود لتناقض حقيقي بين العروبة والأمازيغ حال تم فهمهم بشكل جيد، وسنفصل فيما بعد مقالات وربما حلقات مصورة على اليوتيوب عنهم.
تأسيس الدولة الجزائرية:
يعود الفضل لتشكيل الجزائر بشكل الحالي إلى الدولة العثمانية بنسبة 90% حيث عانت قبلهم حالة من فوضى استغلها ملوك إسبانيا، وأرسلوا جيشا كبيرا قام بغزوها عام 1504م. بقيادة الكاردينال الكاثوليكي المتعصب، وأحد جزاري محاكم التفتيش فرانثيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس. وكان مشروعه تحويل الجزائريين بالقوة إلى المسيحية، وفي هذه الأثناء استنجد أهلها بالأخوين عروج وخير الدين باربروس، الذين تمكنا من تحريرها من الإسبان، والاتصال بالعثمانيين ووضعها تحت حمايتهم، وتحولت الجزائر لقاعدة للجهاد البحري ضد الإسبان، وهذه الفترة حاضرة في أذهان الجزائريين جميعا حتى الأن، وتحولت قصصها لتراث شعبي، وأغاني يتداولونها حتى الأن، ومن أشهرها أغنية (قرصاني غنم) [5] للمطرب الجزائري الكبير الهاشمي القروابي.
ينظر الجزائريين بالعموم لحقبة الحكم العثماني نظرة إيجابية، وهو ما يختلف عن نظرة المشرقيين، حيث كان لهم الفضل في حمايتهم من غزوات الإسبان، وهجمات فرسان القديس يوحنا الكاثوليك المتعصبين في مالطا، كما تميزت فترة الحكم العثماني بالهدوء، وتوحيد أراضي البلاد بعد فوضى وفرقة، وتوسيعهم لهذه الأراضي لتصبح بهذا الحجم الكبير الذي هي عليه اليوم، وفهم هذه الخلفية التاريخية يوضح لنا لماذا العلاقات الجزائرية – التركية متميزة للغاية، ولا يوجد حولها الكثير من الجدل شعبيا كما هو الحال في مصر والخليج، والشركات التركية اليوم هي أكبر الشركات العاملة في الجزائر، وكذلك المطاعم، والدراما التركية هي الأكثر شعبية، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 5 مليارات دولار، ويميل الميزان التجاري بشكل كبير جدا لصالح تركيا، وهذا الأمر قد بدأ ينزعج منه الكثير من رجال الاقتصاد والسياسة الجزائريين بالآونة الأخيرة.
العشرة بالمائة المتبقية من تشكيل الحدود الجزائرية الحالية يعود لحقبة الاحتلال الفرنسي، والذي سعى لتوسيع الجزائر على حساب الأراضي التي كانت تحت سيطرة ملوك المغرب العلويين الفيلاليين، وذلك لكون فرنسا كانت تعتبر وجودها بالجزائر وجود دائم، وليس احتلال مؤقت، ومن خلال الحقبتين العثمانية والفرنسية تشكلت حدود الدولة الجزائرية بوضعها الحالي.
الجزائر من الثورة إلى الدولة:
عانت الجزائر من أسوء ظاهرة استعمارية شهدتها المنطقة العربية، ولا يمكن مقارنتها بأي ظاهرة استعمارية أخرى، ولا يوجد أشد قسوة منها سوى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولذلك الشعور الشعبي الجزائري رغم بعد المسافة بينه وبين فلسطين عالي المستوى في دعمه لها ولقضيتها، لأنه يدرك جيدا معنى الاحتلال الاستيطاني، في قصة شهيرة تسمى (حادثة المروحة). [6] مفادها مطالبة الداي حسين "والي الجزائر العثمانية" لقنصل فرنسا بيار دوفال دفع مبلغ 24 مليون فرنك فرنسي، كانت الجزائر قد أقرضتها لفرنسا، فكان رد القنصل بطريقة فيها تعالي وسوء أدب، فرد الداي بضربه بمروحة يده، وهو ما اعتبرته فرنسا إهانة لها تستوجب احتلال الجزائر، وطبعا الموضوع برمته كان ذريعة لا أكثر، بدأ هذا الاحتلال يوم 5 يوليو/تموز 1830م. واستمر حتى 1962م. أي حوالي 132 سنة.
سعى الاحتلال الفرنسي بكل ما أوتي من قوة لمحو الهوية الجزائرية العربية، والأمازيغية، والدينية الإسلامية، فجعل من الفرنسية لغة رسمية بجميع مؤسساته الاستعمارية والتعليمية، واستفز مشاعر الجزائريين الدينية بأبشع الصور، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر حادثة (جامع كتشاوة) [7] وهو مسجد عثماني تم بناءه عام 1794م. وكان أحد أكبر مساجد الجزائر، فأمر الدوق الفرنسي دو روفيغو بتحويله لكاتدرائية كاثوليكية، وعندما اعتصم فيه الجزائريين رفضا لهذا القرار قام بقتل حوالي 4000 جزائري، وحرق جميع المصاحف والكتب الدينية، وتحويله لإسطبل خيول، ثم حوله لكاتدرائية، وأقيمت فيه صلاة القداس الأولى ليلة عيد الميلاد 24 ديسمبر/كانون الأول 1832م. لذلك عندما خرج الفرنسيين من الجزائر أنشد الشعب في الشوارع (يا محمد مبروك عليك الجزائر رجعت ليك). لقد شعر الجزائريين أنهم مستهدفون في دينهم، وليس فقط نهب خيراتهم ومحو ثقافتهم.
نسمع كثيرا عن بلد المليون ونصف المليون شهيد، ولكننا لا ندرك أن عدد ضحايا الاحتلال الفرنسي للجزائر بلغ 5 مليون شهيد خلال فترة حكمه لها، والتي ثار فيها الجزائريون أكثر من مرة، حتى بدأت الثورة الجزائرية نتيجة أحداث يطول شرحها تفاصيلها في هذه الحلقات الثلاث لمن يود معرفة المزيد [8] شكلت مصر السند الأكبر للثورة الجزائرية وثوارها، تم إعلان البيان الأول لها عبر أثير إذاعة صوت العرب من القاهرة بالأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954م. [9] وقدمت مصر كل الدعم الممكن لهذه الثورة العظيمة، وفي هذا الكتاب لضابط الاستخبارات المصرية فتحي الديب تفاصيل كاملة عن تلك الحقبة العظيمة [10] حرضت إسرائيل فرنسا على مصر لشن العدوان الثلاثي 1956م. عندما قال بن جوريون للفرنسيين عليكم بضرب رأس الأفعى بالقاهرة، ورد الجزائريين الجميل أضعاف مضاعفة لمصر وشعبها.
انتصرت الثورة أخيرا عام 1962م. وخرج المستوطنين الفرنسيين ومعهم جنودهم، وعملاءه من تلك القلة الجزائرية التي خانت شعبها وعملت لصالحه ويسمون في الجزائر (الحركيون). وهؤلاء كرمهم الرئيس الفرنسي ماكرون العام الماضي، وأعتبرهم أبطال ضحوا لأجل فرنسا، ومنح بعضهم رتبة فارس في جوقة الشرف [11]
إشكاليات الجمهورية الوليدة:
على أنغام الفنان محمد العنقة أنشد الجزائريين (الحمد لله مابقي استعمار في بلادنا) [12] وبكلمات شاعر الثورة الجزائري مفدي زكريا، الأمازيغي المزابي الإباضي الذي كتب بالعربية أجمل وأعذب الكلمات، وبلحن الفنان العربي المصري محمد فوزي المهيب خرج إلى النور النشيد الوطني الجزائري [13] الأجمل عربيا بلا منازع، لم يكن كل هذا بغريب على ثورة، وكفاح، وعمل، ووحدة داخلية وعربية، ويقين بالنصر وإخلاص بالعمل.
لم تستمر مع الأسف هذه الصورة المشرقة الجميلة، وعانت الجمهورية الوليدة التي تولى رئاستها الشاب المناضل الأمازيغي الأصل، العروبي التوجه أحمد بن بلة، الذي انقلب عليه رفيقه بالكفاح وزير الدفاع هواري بومدين عام 1965م. ووضعه قيد الإقامة الجبرية، وله شهادة هامة عن فترة الثورة وبناء الدولة [14] وبدأت إشكالية الدولة تظهر بعد هذا الشرخ الذي أصاب قادة الثورة.
أزمة التحول الديمقراطي:
وعدت الثورة الجزائرية، شأنها شأن كل الثورات بتحقيق الديمقراطية، ولا يمكن قياس الديمقراطية في الستينات من القرن الماضي بالديمقراطية المعروفة اليوم، والتي لم تستقر على هذا الشكل سوى بعد انهيار سور برلين عام 1989م. وتعاني الأن من أزمات بنوية، كانت جميع دول الاستقلال الوطني ما بعد الاستعمار باستثناء الهند التي تشكل حالة خاصة، قائمة على سلطة الحزب الواحد، والزعامة والكريزما هي المهيمنة على العمل السياسي في العالم كله بتلك الفترة، إلا أن مشكلة الجزائر هي ذاتها مشكلة مصر وجميع الجمهوريات العربية، في عدم قدرتها على التحول بعد مرحلة التأسيس، وبناءها لأنظمة حكم فشلت في التحول لدولة مؤسسات حقيقية، كان هواري بومدين ولا شك زعيم له جاذبيته، وشعبيته الكبرى داخل الجزائر وخارجها، ومن الواضح إخلاصه وإيمانه بمشروعه لبناء دولة حديثة، ولكن كما قال الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري "الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة" فقد صنع بومدين نظام سياسي، ومن خصائص هذا النظام حكم الفرد، والزعيم الأوحد ليتخلص من تعدد السلطات بين الثوار، وحتى لا يعاني من الجدل وتعدد الآراء، وكان من خصائص هذا النظام أن البقاء فيه للأضعف، ولذلك تحولت الجمهورية لطارد تلقائي لكل الكفاءات الوطنية، والمناضلين القدامى إما تم تدجينهم بمناصب غير ذات قيمة، أو وضعهم بالسجن والإقامة الجبرية، أو خروجهم من البلد الذي ضحوا لأجله ليعيشوا لاجئين بالبلد الذي حاربوه فرنسا، وهكذا هي سخرية الأقدار العربية، ولعبتها الكبرى القادرة دوما على صنع التراجيدية، وكان من تداعيات هذا النظام الذي أسسه انهيار كل المكتسبات تقريبا التي حققها في أثناء فترة حكمه بعد وفاته عام 1978م.
إشكالية الجيش والسلطة:
يمكن القول بلا أي مبالغة أن الجمهورية الجزائرية بنت الجيش الجزائري، شكل جيش التحرير الوطني الجزائري الذي تأسس عام 1954م. نواة الجيش الجزائري، حيث كان هذا الجيش هو الذراع العسكري لجبهة التحرير الوطني، وكان قائما على تجنيد المتطوعين الجزائريين المؤمنين بالثورة وضرورة الكفاح المسلح، ولم يكن هؤلاء المتطوعين مؤهلين عسكريا للقيام بهذه المهمة، وتلقوا تدريبا عسكريا من الجيش المصري، وبعض الخبراء السوفييت، وهم من قادوا العمليات العسكرية ضد الجيش الفرنسي وعملاءه المحليين، وبعد قيام الجمهورية كان المؤسسة الوحيدة لهذه الجمهورية بعد خروج مستعمر استمر لمدة 132 سنة، وواجه هذا الجيش أول تحدي له في تأمين الداخل، وضبط الحدود وحماية الشعب، فلم يكن هناك جهاز شرطة، ولا أجهزة أمنية، ولا وزارات أو أي مؤسسات حكومية، كان في البدء الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي عبرها تم خلق جميع المؤسسات الأخرى، وكان لهذا التكوين دوره الذي منح الجيش قوة، وجعله المؤسسة المهيمنة على كافة شئون البلاد منذ اللحظة الأولى، وقد تعزز دوره عندما قاد انقلابا عسكريا بعد قيام الجمهورية بثلاثة أعوام فقط، ووصول قائده وزير الدفاع هواري بومدين للسلطة، والذي لم يكن يثق في أحد سواهم، ومكنهم من كافة مفاصل الدولة.
جنرالات فرنسا:
بعد عام واحد من قيام الجمهورية الجزائرية، رأى الحسن الثاني ملك المغرب أن الفرصة مناسبة ليقضم بعض الأراضي الجزائرية، مستغلا ضعف الدولة الجزائرية مقارنة بوضعية المغرب التي كانت فيها الدولة أقدم وأكثر استقرارا من الجزائر، وبدأت ما تسمى حرب الرمال في أكتوبر/تشرين الأول 1963م. وبدعم فرنسي وأمريكي للمغرب، مقابل دعم مصري للجزائر، وقم تم أسر الطيار محمد حسني مبارك في تلك الحرب، وذلك عندما نزلت طائرته الحربية في مدينة وجدة المغربية على الحدود مع الجزائر عن طريق الخطأ [15] في هذه الفترة كان وزير الدفاع هواري بومدين، وأدرك ضعف قدرات مقاتلي الجيش الجزائري على القيام بحرب تقليدية، وأنه ينقصهم الكثير ليتدربوا، والمخاطر بالداخل والخارج تتزايد، وهنا بدأ يستعين ببعض الضباط الجزائريين الذين كانوا يخدموا في جيش المحتل الفرنسي، وذلك لما يتمتعوا به من خبرة تدريب عالي المستوى، ومشاركة بعضهم بالحربين العالميتين الأولى والثانية، وتلقي البعض الأخر تدريبا في أكاديميات فرنسية عسكرية كبرى.
هناك عدة نظريات تجاه هؤلاء الضباط، وقصتهم بدأت بالنصف الثاني من الثورة الجزائرية، وعندما بدا واضحا أن فرنسا لن تتمكن من هزيمة الثوار، فر العديد من الضباط من الجيش الفرنسي وأدعوا أن تجنيدهم قد تم رغما عنهم، وأنهم مؤيدين للثورة، وبمجرد ما وجدوا الفرصة للهرب ليلتحقوا بجيشها لم يترددوا لحظة، والتمسوا طلب قبولهم بجيش التحرير الوطني، وقد تم قبولهم ولكن تعامل معهم قادة الثورة بحذر شديد، ولم يكونوا يثقون بهم، ووضعوهم في مهام ثانوية، أو بالمواجهة مع الجيش الفرنسي للتأكد من ولاءهم، وفي نفس الوقت حتى لا يكون لهم دور كبير في الجيش، وعندما أعلنت الجمهورية، وتم تحويل جيش التحرير لجيش نظامي للدولة، ظلوا داخل الجيش برتب متدنية، وبلا صلاحيات أو سلطات كبيرة نظرا للشكوك التي تحوم حولهم.
منبع تلك الشكوك كان اعتقاد البعض أنه قد تم الدفع بهم من الاستخبارات العسكرية الفرنسية، وذلك لاختراق الثورة من داخلها، وحال فشلت سيعودون للجيش الفرنسي، وحال نجحت فيكونوا عيون فرنسا داخل الدولة الجديدة، والبعض الأخر ينفي عنهم ذلك، ويرى أنها دعاية موجهة ضدهم نتيجة للصراعات السياسية التي تورط فيها هذا الجيل تحديدا، وذلك عندما تولى القيادة خالد نزار الذي قاد الانقلاب العسكري عام 1992م. وأجبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة.
تكمن المشكلة في أن هواري بومدين عندما تولى الرئاسة، ونظرا لعدم ثقته في أحد، فقد سحب كبار الضباط الذين كانوا فيما تسمى (مجموعة وجدة). وهي المجموعة التي كانت مخلصة له داخل الجيش وقادت الانقلاب معه، وكان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة أحد أعضائها، وعندما سحب هؤلاء الضباط، تمكن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي من تولي مناصب عليا داخل الجيش الجزائري، وصولا لقيادته بالكامل في فترة العشرية السوداء، وهي تلك المرحلة التي استمرت من 1992م إلى 2002م. وراح ضحيتها ما بين 200 إلى 300 ألف جزائري، وهناك دراسات جديرة بالإطلاع عليها لمن يود فهم طبيعة الجيش الجزائري إحداها للطاهر سعود [16] والأخرى للدكتور رياض الصيداوي [17]
أزمات الاقتصاد:
نتيجة للاحتلال الفرنسي الاستيطاني طويل الأمد في الجزائر، واحتكاره لكافة المشاريع الاقتصادية، وتصميمه لكل الأنشطة الصناعية والخدمية بما يخدم مصالحه، وقطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة كان بيد المستوطنين الفرنسيين واليهود، وهؤلاء يسمون في الجزائر (الأقدام السوداء - Pieds-Noirs). والشعب الجزائري كان محروم من ممارسة أي نشاط اقتصادي، وكان يقتصر دوره على قطاع الحرف اليدوية البدائية البسيطة، والنشاط الفلاحي التقليدي، وبالتالي واجهت الجمهورية الوليدة أزمة كبرى، فهذه الصناعات لا يمكن تشغيلها إلا في ظل وجود الدولة الفرنسية والمستوطنين، وهذا طبعا كان أمرا مرفوضا مجتمعيا نتيجة إرث العداء مع الاحتلال ومفهوم، والجزائريين غير قادرين على إدارة هذه الأنشطة، ولا وجود لطبقة كبار ملاك أو برجوازيين جزائريين، وبالتالي فقد خلف الاحتلال للجزائريين دولة من العصور الوسطى اقتصاديا.
الثورة على جانب أخر كانت بحاجة لتثبيت مشروعيتها، والتحول لدولة عبر تقديم الخدمات لمواطنيها، وقد كانت الحالة الشعبية الجزائرية شديدة السوء، والجهل متفشي في كل أنحاء البلاد، والخدمات الصحية شبه معدومة، ويعاني الكثيرين من مشاكل صحية نتيجة التجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، وعدد سكان قليل مقارنة بالمساحة نتيجة لفقدان البلد خيرة شبابها بالصراع مع المحتل، وهنا لجأت الجمهورية لاستغلال موارد الغاز والنفط، واعتبار أن هذا الأمر مؤقت، ويهدف للحصول على أموال لبناء اقتصاد البلد من نقطة الصفر، ورفع هواري بومدين شعار تحويل الجزائر إلى "يابان أفريقيا".
اتجه النظام الجزائري بقيادة بومدين للتوسع في تقديم الخدمات الصحية، وفي ظل عدم وجود كوادر جزائرية تم الاستعانة بكوادر مصرية، وسوفيتية، وأوروبية، وكوبية، وانفاق أموال طائلة لتصل الخدمات الصحية لكل قرية، وتوسع في مشاريع البنى التحتية، والتعليم المجاني بكل مراحله، وتقديم الدعم العيني والسلعي للمواطنين، وتوفير المساكن، ترافق هذا كله مع هيمنة الدولة على الاقتصاد، وبناء مصانع عملاقة للصناعات الثقيلة، وعدم إسناد مهمة قيام أنشطة صناعية صغيرة ومتوسطة ومتناهية الصغر للقطاع الخاص الوطني، لتنشأ رأسمالية وطنية قادرة على النهوض بالبلد، ومساعدة القطاع العام، وأمام هذا القدر الهائل من الإنفاق، والسعي لتحديث البلد بشكل متسرع يحرق المراحل، واحتكار الدولة للنشاط الاقتصادي بالكامل، ودعم المواطن مقابل قبوله بالتخلي عن حقوقه السياسية، أدت هذه الخطوات المتسرعة لإرهاق خزينة الدولة، ووقعها أسيرة للاعتماد على النفط والغاز والثروات الطبيعية وبيعها كمواد خام أولية.
عندما توفى بومدين دخل العالم العربي بعد اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية مرحلة التصدع، وتراجع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية التي اعتمدت الجزائر عليها في تصدير منتجاتها، وتراجع أسعار النفط في النصف الثاني من الثمانينيات، ومع ضعف الكفاءة الإدارية والاقتصادية بكافة مؤسسات الدولة، وتربص أطراف عدة بالقطاع العام وسعيها لتصفيته، قرر الرئيس الشاذلي بن جديد تصفية القطاع العام، وقيادة عملية تحول اقتصادي رأسمالي متهورة، وبلا أي خطة.
لم تكن المشكلة في إجراء تحول اقتصادي من الاشتراكية للرأسمالية أو العكس، تكمن المشكلة في كيفية إدارة هذا التحول، فما تم في الجزائر كان عملية تحول فوضوي، اختلط فيه الرغبة بالانتقام من هذا القطاع وحقبة بومدين، والجهل في التطبيق، فأصبح تحولا كارثيا فاقم المشكلات الاقتصادية بشكل أشد عمقا، ومع عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، شكلت كل هذه العوامل انفجار شعبي تجلى في تظاهرات الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988م. [18]
أمام عجز النظام عن مواجهة التظاهرات، أضطر لتقديم حلول سياسية من حين أن التظاهرات كانت مطلبية اقتصادية، وفتح النظام أيضا بشكل غوغائي غير منظم البلد باتجاه الحرية السياسية، وفي ظل هذا الجو من الفقر والتهميش، وتنامي مشكلة منطقة القبائل الأمازيغية التي سنتحدث عنها بالجزء التالي، وتبني الشاذلي بن جديد لمفهوم دولة الإيمان، وتشجيع القيم الدينية مقابل القيم الغربية، فكان من الطبيعي أن يجد التيار الإسلامي تربة خصبة يعمل فيها، وجماهير ثائرة بحاجة لخطاب شعبوي بسيط، يقدم لها حلول تبدو منطقية لكل أزماتها، ويغيبها عن الوعي ويخرجها من الواقع وآلامه ليحلق بها عاليا باتجاه الغيب وأوهامه، وكانت الانتخابات البلدية التي أكتسح التيار الإسلامي مثلة في (جبهة الإنقاذ الإسلامية).
كان هواري بومدين هو الضامن لعدم تغول الجيش بالعملية السياسية، ولكن بعد وفاته المفاجأة، وفقدان نظامه للمؤسسات، واعتماده على القيادات الضعيفة، وحالة الانهيار الاقتصادي التي شلت البلاد، وغياب القيادة التي يخشاها الجيش، وهيمنة ما يُطلق عليهم جنرالات فرنسا على مقاليد الأمور، وضعف شخصية الرئيس الشاذلي بن جديد، وتوغل التيار الإسلامي وسطرته على الشارع، ورفع قادة جبهة الإنقاذ الإسلامية لشعار "لا ميثاق ولا دستور بل قال الله وقال الرسول" مما أدى لتخوف العديد من المواطنين على مستقبلهم، فكانت كل هذه الظروف في صالح الجيش، بجانب حصوله على دعم إقليمي ودولي، فتمكن من الهيمنة المباشرة على القرار السياسي بالبلاد وتحول لمؤسسة صنع الرؤساء.
الأزمة الأمازيغية:
لم تعاني الجزائر من أزمة هوية، وذلك بعدما ثبت الإسلام في قلوب الأمازيغ، واختلطوا بالعرب وانتهت الصراعات فيما بينهم، وأصبح الإسلام يجمع الجميع تحت مظلته، واللغة العربية يحترمها ويقدرها ويتحدث بها ويتقنها الكل، مع احتفاظ الأمازيغ بلغتهم والتحدث بها في منازلهم، إلا أن فترة الاستعمار الفرنسي وما خلقته من محو لكل الهويات، وتحديدا العربية – الإسلامية، وقبل خروجه سعى لتنمية المشاعر القومية الأمازيغية، وذلك بغية فصل الأمازيغ عن العرب، وتقسيم الشعب الجزائري ليُفشل الثورة، ولكن هذا الخيار لم ينجح، وقد ساهم الأمازيغ الشاوية بالسهم الأكبر في دعم الثورة، وتقديم الحماية بمنطقة جبال الأوراس لقادتها، وكذلك أمازيغ وادي مزاب في الصحراء الجزائرية، وكما أسلفنا كان منهم مفدي زكريا شاعر الثورة، وكذلك أمازيغ منطقة القبائل، وأن لم يكن بنفس درجة الحماس الكاملة، وذلك ليس طعنا في انتماءهم، ولكن بحكم أنهم تعرضوا أكثر من غيرهم لضغوط تاريخية، وكان لديهم خشية دائمة من القضاء الكامل عليهم.
كان حسين آيت أحمد. ابن ولاية تيزي وزو. أحد أهم قيادات الثورة الجزائرية، وبعدما قامت الجمهورية حدثت بينه وبين الرئيس أحمد بن بلة خلافات سياسية، أسس على إثرها قوة عسكرية لمواجهته، وتحصن وسط حاضنته الشعبية بمنطقة القبائل، وبعد شد وجذب، ومفاوضات ووساطات بين الطرفين تمكنا من الوصول لتسوية، إلا أن الانقلاب الذي قاده هواري بومدين أوقف هذا المسار، وكان بومدين يتهم دوما آيت أحمد بأن له علاقات خارجية مع ملك المغرب، ثم هرب من الجزائر إلى منفاه في سويسرا، في هذا الوقت استعان بومدين بأمازيغ الشاوية، وشكلوا العماد الرئيسي للجيش والأجهزة الأمنية، فلم يكن بومدين لديه مشكلة قومية مع الأمازيغ، ولكنها مشكلة سياسية وفقدان للثقة بأمازيغ القبائل تحديدا نظرا لدعمهم وتأييدهم لغريمه آيت أحمد، وحتى يؤكد على ذلك فقد استعان بأمازيغ الشاوية، وقد خلق هذا الأمر إشكالا داخليا وتنافسا بين الأمازيغ بمنطقة القبائل والشاوية حتى اليوم.
شعر الأمازيغ بمنطقة القبائل مع هروب آيت أحمد للخارج، وعدم تولي قيادات منهم مناصب ذات قيمة بالدولة، وتبني العربية واعتبارها هوية وطنية للدولة الجزائرية، مع ما زرعته فرنسا قبل خروجها من أفكار قومية داخلهم مفادها أن العربية التي تتحدثون بها هي لغة المحتلين العرب، وكأن الفرنسية لغة الأحرار، والأهم شعور الأمازيغ بتلك الأماكن أن الدولة لا تحترمهم، وتهين كرامتهم، وهذه نقطة شديدة الحساسية لديهم، فتظافرت كل هذه العوامل مع الأزمة الاقتصادية، لصعود تيار قومي يصل حد الفاشية داخل بعض القيادات السياسية القبائلية الأمازيغية، ودعوة بعضهم للاستقلال، والبعض الأخر للانفتاح على إسرائيل، والترويج لثقافة احتقار العرب، وإعادة قراءة التاريخ بشكل جديد يخلط فيه بين العرب والإسلام، ويرى بعضهم أنه لم يكن دين بقدر ما هو أيديولوجية استعمارية، وإسقاط مصطلحات لم تظهر سوى بالعصر الحديث على تلك الحقب الزمنية البعيدة، وتناسي أن حكم العرب للمنطقة لم يدوم سوى 100 سنة فقط، وكل حكام المنطقة كانوا أمازيغ، وأن الأمازيغ لم يستقلوا ببلدانهم منذ سقوط مملكة نوميديا ويوحدوا كل المغرب من أدناه إلى أقصاه، بل ويتحولوا لإمبراطوريات عظمى تحكم شعوب شتى سوى بعد تبنيهم الإسلام.
أدت العشرية السوداء وفقدان الدولة قدرتها على السيطرة، ودخولها بحالة فوضى لتنامي ظاهرة الحركات التبشيرية المسيحية، وتحديدا البروتستانتية الإنجيلية، والمعروف علاقتها الوثيقة بالحركة الصهيونية، وتأييدها الأعمى لإسرائيل، واستغلت اللعب على الوتر القومي، وتزييف التاريخ وجهل الكثير من الشباب به، وغياب الدولة، والأزمات الاقتصادية، وحالات القتل الوحشي التي تقوم بها بعض الحركات الإسلامية مثل (الجماعة السلفية للدعوة والقتال). للترويج بأن الإسلام دين دموي، وما ترونه الأن من قتل وذبح هو نفسه ما حدث لأجدادكم وأنتم بالأصل كنتم مسيحيين، فكيف تقبلون بمثل هكذا دين.
تحدثت المصادر المسيحية عن عدد 8 إلى 10 جزائريين يتحولون يوميا بفترة التسعينات إلى المسيحية في منطقة القبائل، وعن تحول قرى وعائلات بأكملها تقدر بالآلاف للمسيحية سنويا [19] فما حقيقة هذا الأمر؟!
المتتبع لتاريخ الأمازيغ يدرك مدى عنادهم، وصلابتهم في المواجهة عندما يتم استفزازهم، ونتيجة للأحداث السابقة يمكن للقارئ أن يفهم البعد التاريخي لهذه الشخصية، والبعد التاريخي لأزمة أمازيغ منطقة القبائل تحديدا، هذه المنطقة الإسلام فيها عميق للغاية، والغالبية العظمى من عمليات التحول تجاه المسيحية لم تكن نابعة من إيمان، بقدر ما هي نابعة من رغبة في العناد وإثبات الذات، وتاريخيا تبنى سكان هذه المنطقة زمن الخلافة الأموية، وتحديدا في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان مذهب الخوارج الصفرية [20] ومذهب الإباضية [21] ومذهب الشيعة الإسماعيلية الفاطمية [22] ثم تبنوا في عهد القائد الأمازيغي المعز بن باديس [23] المذهب السني المالكي، وكل هذه التحولات ما كانت إلا عنادا لظلم السلطة، وقد فعلوا الشيء نفسه عندما كانوا على المسيحية وأسسوا الحركة الدوناتية، وكل هذه التحولات ذات أبعاد سياسية لا إيمانية.
الحركات التبشيرية التي قامت في منطقة القبائل لم تكن بريئة، ولم تكن تهدف لنشر الدين والعقيدة، وعلى المستوى الشخصي أنا مؤمن إيمانا تاما بحرية العقيدة، وحق أي فراد بالانتقال من مذهب أو دين إلى أخر، هذا حق إنساني أصيل، وبعيدا حتى عن الإيمان به عمليا لا يمكن في هذا الزمن إجبار الناس بالقوة على عقيدة يرفضونها، لكننا نتحدث عن تبشير سياسي يهدف لعزل منطقة الساحل شمال شرق الجزائر، وفصلها بالمستقبل عن الدولة الجزائرية، وذلك عبر خلق وضع ديني جديد بجانب الوضع القومي، والقول هؤلاء مجموعة بشرية لهم دين وثقافة ولغة مغايرة، ومن حقهم تقرير مصيرهم، ولذلك تنبهت السلطة فيما بعد لهذا المخطط، واتخذت إجراءات ضد كافة هذه الكنائس التي لم تكن أصلا مرخصة [24] والملاحظ أن هذه الكنائس التي أغلقت منذ أكثر من شهر عددها حوالي 18 كنيسة جميعها في منطقة القبائل، وكلها بروتستانتية، ولم تغلق الدولة أي كنيسة أرثوذكسية أو كاثوليكية.
لم يعترض إلا عدد قليلة على غلق هذه الكنائس، وفعليا بدأ يحدث ترميم للعلاقة مع سكان القبائل، والنسبة الأكبر من هؤلاء الشباب عادوا إلى الإسلام من جديد، فكما أسلفنا الأمر كله عناد ولعبة سياسية، ولا ننكر أن هناك البعض قد يكون آمن عن قناعة وهذا حقه، تتجلى أيضا أزمة العناد أن أمازيغ الشاوية وكذلك المزابيين متصالحين مع العربية ولغتهم الأمازيغية، ولا مشكلة لديهم في هذا الأمر، بينما كانت المطالب دائما بوضع مادة في الدستور تعتبر الأمازيغية لغة رسمية تصدر من منطقة القبائل، وتبناها فنانين ومثقفين، ومنهم الفنان الشهير معتوب لوناس. واللافت أن التظاهرات التي كانت تخرج للمطالبة بالاعتراف الأمازيغية تكتب بالفرنسية! وبعدما أقرت الدولة الأمازيغية لغة رسمية من يذهب لمنطقة القبائل سيجد أن سكانها لا يتحدثون سوى بالفرنسية أو العربية!
مشكلة القبائل أحد أهم المشكلات التي ينبغي للحراك الجزائري وشبابه الواعي، والنخبة المثقفة الوطنية أن تضعها على جدول أعمالها، وتنهي هذه الأزمة التاريخية القائمة على سوء فهم لا أكثر، وترمم العلاقة مع أمازيغ الميزاب التي تضررت بفعل بعض الأفعال الطائفية بين المالكية والإباضية هناك، وهذا الملف تحديدا أحد أهم ملفات تعزيز السلم الأهلي، والتماسك المجتمعي، وضمان وحدة الجزائر.
حقبة بوتفليقة:
تولى عبد العزيز بوتفليقة حكم الجزائر في مرحلة شديدة الصعوبة، وهو من أمازيغ الشاوية، وكان قبله الرئيس ذو الشعبية اليمين زروال أيضا من أمازيغ الشاوية، وهذا الأمر يشير إلى أن "الأزمة الأمازيغية" محصورة بمنطقة محددة، وقائمة على سوء فهم لا أكثر، سبق زروال للرئاسة محمد بوضياف الذي اغتيل في احدى الاجتماعات وهو يلقي كلمة على الهواء مباشرة [25] حيث يعتقد أن جنرالات الجيش هم من تخلصوا منه.
حكم بوتفليقة الجزائر منذ عام 1999م. كالعادة بصفقة مع الجيش، الذي أصبح صانعا للرؤساء منذ وفاة بومدين، وأول ما فعله كان إقرار قانون للمصالحة والعفو العام، وإعادة الهدوء إلى البلاد بعد عشرية سوداء دمرتها، ثم عزل بشكل تدريجي كافة من يُطلق عليهم "جنرالات فرنسا" وصعد مكانهم جنرالات وقادة جدد، وغالبيتهم من أمازيغ الشاوية، وقد اتسمت هذه العملية بالبطيء والدقة الشديدة، وكان عام 2015م. عام تصفيتهم النهائي بعزل أخر قائد متبقي منهم الجنرال حسان الملقب بـ "سيد مكافحة الإرهاب" وقوى قبل ذلك من مركز المخابرات بقيادة محمد مدين المعروف بالجنرال "توفيق" وشكل نظاما جديدا قائم على سيادة موقع الرئاسة، واستعادتها لدورها القيادي المفقود منذ وفاة بومدين. وتولي المخابرات الجزائرية ملف الأمن والأحزاب السياسية والإعلام، وخلق طبقة أوليجارشية من رجال الأعمال من أبرزها علي حداد، ويسعد ربراب، وعبر هذه المجموعة المرتبطة بشقيقه سعيد بوتفليقة يؤمنوا هيمنتهم على الوضع الاقتصادي، وتراجع دور الجيش في الحياة العامة، وكان قائده أحمد قايد صالح الأمازيغي الشاوي، يمتلك من الذكاء والفطنة ما مكنه من الاحتفاظ بمنصبه، وعدم إثارة الشكوك في ولاءه، والصبر على هذا الوضع القائم.
الجيش والشعب تقاطع مصالح واحدة:
استقر نظام بوتفليقة على ثلاثية (الرئاسة – المخابرات – رجال الأعمال). وقد خلقت هذه المعادلة هدوء نسبي بالبلد، ولكن مع ضعف بوتفليقة بالخمس سنوات الأخيرة، وتزايد نفوذ أخيه سعيد بوتفليقة القادم لعالم السياسة من خلال أخيه، ولم يتمرس فيها مثله، وشعور مجموعة رجال الأعمال التي كانت تعتبره وكيلها بالرئاسة بنشوة النصر، واعتقادهم بأن الجيش قد انتهى أمره، والرئاسة في جيبهم، وهم أصحاب مركز القوى الكبرى، ولا يعكر صفو حياتهم، ولا استحواذهم على كامل السلطة والثروة سوى المخابرات، وهذا الجهاز بيد الجنرال توفيق، فلو تم إقصاءه، والتخلص من فريقه وتصفيته، ستغدو الجزائر كلها غنيمة لنا وحدنا، ونحدد من سيكون الرئيس القادم، وعبره نحكم البلاد، وهو ما تحقق لهم بعزل الجنرال توفيق عام 2015م.
شكل عزل الجنرال توفيق، والحالة الصحية المتراجعة للرئيس وصولا لعجزه الكامل، والفجور الذي مارسته طبقة رجال الأعمال استفزازا للشارع الجزائري، زاد من حدته الحديث عن ترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، وهو ما جعل الشعب الجزائري يشعر بالإهانة، وفي هذه المرحلة تحالفت الأحزاب التي كانت قريبة من الجنرال توفيق، مع الجنرال ورجاله الذين خرجوا من الخدمة، وبعض الشخصيات التي مازالت داخل النظام وتدين له بالولاء، بينما حافظ الجيش على حذره، ولكنه ظهر بموقف المحايد وحياده تم تفسيره بشكل تلقائي كحياد إيجابي لصالح الشعب، مع شعور الجزائريين أن البلاد قد باتت آمنة من خطر الإرهاب، فخلقت كل هذه العوامل الظروف المناسبة للخروج الجماهيري الذي بدء في 22 شباط/فبراير 2019م. ومازال مستمرا حتى الأن.
انحاز الجيش لرغبات الشعب، وأقصى بوتفليقة دون أن يتورط في انقلاب مباشر عليه، وكذلك تخلص من رجال الأعمال الذين كرههم الشارع وحقق بذلك مطالبه ورغبته في آن واحد، وكذلك الجنرال توفيق ورجاله، وسعيد بوتفليقة، وبعض القيادات الحزبية الموالية للجنرال توفيق وعلى رأسها لويزة حنون رئيسة حزب العمال، وأصبحت معادلة القوى الجزائرية الشارع ممثلا بالحراك الجماهيري والجيش ولا أحد أخر سواهما، وعبر هذه الإجراءات نال رضا الشارع الذي يثق فيه أكثر من غيره، ويرى بالمؤسسة العسكرية صمام أمان لوحدة البلاد وأمنها، وأقل مؤسسات الدولة فسادا وأكثرها تنظيما، ولكنه لا يعطيها شيكا على بياض، ودليل ذلك نزوله المتكرر وبشكل منظم لمدة أربعون أسبوع متواصلة بلا انقطاع.
استغل الجيش فترة تراجع سلطته ونفوذه السياسي، وحسن من وضعيته العسكرية، وتحول لجيش احترافي بالمعنى الحقيقي، وأعاد هيكلة قواته، وعقد الكثير من صفقات التسليح التي جدد بها ترسانته العسكرية المعتمدة بالأساس على السلاح الروسي، وكذلك توسع بالصناعات العسكرية المحلية، ودخل على خط المشاريع الاقتصادية، وهنا تقرير مفصل عن أنشطة الاقتصادية نشرته مجلة (Le maghreb emergent). الجزائرية مترجم من الفرنسية للعربية [26]
الإسلاميين في الجزائر:
من المشكلات الكبرى في التحليل السياسي، وخصوصا في مصر هو رؤيتنا للعالم من خلال تجاربنا، واعتقاد أن ما جرى عندنا بالضرورة سيجري لدى غيرنا، الحالة الإسلامية في الجزائر تختلف بشكل كبير عن نظيرتها المصرية، الإسلام في الجزائر جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وذلك نتيجة لطبيعة الاحتلال الفرنسي الاستيطاني، والذي سعى لطمس تاريخ الجزائر بالكلية، والثورة في الأساس كان أحد أهم شعاراتها استعادة الهوية الإسلامية للشعب الجزائري.
التيار الإسلامي في الجزائر محلي أكثر منه أممي، الجزائريين بطبيعتهم لديهم شعور قد يصل حد التطرف في مسألة الاستقلال الوطني، وحساسية شديدة للغاية تجاه من يتدخل في شئونهم، وذلك نتيجة لميراث التدخلات الخارجية، وشعورهم بالاستهداف الدائم، والحركات الإسلامية ليست بمعزل عن هذه الحالة، وأتذكر عندما كنت ناشطا في فترة التسعينات بالحركات الإسلامية، وهي فترة أعتز بها رغم انفصالي عنها، ونقدها ذاتيا، إلا أنها مثلت بالنسبة لي خبرات لا يمكن إنكارها، والشاهد أن وضع الجزائر كان حاضرا بشكل دائم في حوارات الإسلاميين في مصر والمشرق، وكل محاولات التدخل فيها أو الوساطة كانت تقابل من الإسلاميين الجزائريين قبل السلطة بالرفض، حتى قالوا في إحدى المرات لو وجدتمونا نُقتل فردا فردا فلا تتدخلوا ولا تناصرونا، وهذه قضيتنا ونحن لنا خصوصيتنا التي لا يفهمها أحد سوانا، لذلك طيلة الحرب الأهلية في الجزائر لم يتدخل فيها مقاتل واحد من أي بلد عربي أو إسلامي.
يمثل التيار الإسلامي في الجزائر إطار عام للهوية، والحضارة العربية الإسلامية، وعلاقته الأممية بالتيارات الإسلامية الأخرى تقتصر على التعاون في القضايا الكبرى، والاتفاق حول المبادئ العامة الجامعة، دون السماح بأي تدخلات خارجية، جماعة الإخوان المسلمين وجودها عموما ببلدان المغرب حديث نسبيا، ونظرا لخصوصية هذه البلدان فهو لا يشبه الحالة المصرية أو المشرقية، ومن المهم فهم هذه الحالة الخاصة قبل التورط في إطلاق أحكام مبنية على تجاربنا لا تجارب غيرنا.
يمثل الإخوان المسلمين في الجزائر حزب حركة مجتمع السلم، وهو حزب سياسي مرخص وشرعي، وكان شريكا للسلطة بالحكم حتى 2011م. وعارض كل أشكال العنف والإرهاب وحمل السلاح ضد الدولة، ويرأس الحزب عبد العزيز المقري، والحزب الثاني هو جبهة العدالة والتنمية الذي يرأسه الشخصية البارزة عبد الله جاب الله، وكلا الحزبين علاقتهم بالإخوان مجرد خط فكري متلاقي في الإطار العام لا أكثر.
الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت في انتخابات عام 1991م. حركة سلفية بالاعتقاد، وحركية سياسية، وليس لها أي انتماءات مع تنظيمات خارجية، وكان يرأسها عباس مدني، وعلي بلحاج، والأول كان من المشاركين بالثورة الجزائرية، هناك الكثير من الأقوال حول هذه الحركة، بينما يتهمها النظام بحمل السلاح ضد الدولة، وهذا أمر حدث ولا شك فيه، ولكن هناك خلاف حول حجم أعمال العنف التي نسبت إليها، وحديث الكثير من الشخصيات العامة، وضباط جيش ومخابرات، ودبلوماسيين منشقين أن جزء من العنف قامت به حركات إسلامية أخرى، كانت مخترقة من النظام بهدف تشويه الحركة، حتى شاع سؤال في نهاية التسعينات بالحوارات السياسية "من قتل من بالجزائر" في العموم الحركة كانت تعتمد على برنامج ثوري، ومشروع اقتصادي في إطاره العام يمكن وصفه باليسار الشعبوي، ولم يكن لديها أي خبرة بالحكم، ولا كوادر مؤهلة، استغلت مرحلة تخبط فكري بالجزائر تزامنت مع الانتخابات ففازت بها، ولو رغم أنها ليست كلمة موضعية بالتاريخ والسياسة، إلا أن الأكيد حال حكمت لما تمكنت من الفوز بأي انتخابات فيما بعد، والحركة محظورة من ممارسة العمل السياسي ولم يعد لديها كوادر كما بالماضي قادرة على الحشد حتى لو تم السماح لها بدخول الانتخابات.
الحراك الجماهير وغموض المستقبل:
تكمن أزمة الحراك الشعبي الجزائري في أنه وبالرغم من تحقيقه لأهدافه العاجلة، والتي كما أسلفنا كانت متقاطعة مع رغبات المؤسسة العسكرية، إلا أن الجيش لا يريد مرحلة انتقالية غير دستورية، ولا مرحلة انتقالية يديرها بنفسه، وقرر بالفعل إجراء انتخابات رئاسية وحدد موعدها، وتقدم لها خمس مرشحين بملفاتهم رغم رفض الحراك لها.
على الرغم من مرور أربعون أسبوع، لم يتمكن الحراك من تشكيل هيئة تنسيقية تعبر عن مطالبه، وتنال تأييد الجماهير بإحدى الجمع الدورية للتظاهر، وتتفاوض نيابة عنه مع الجيش على غرار قوى الحرية والتغيير في السودان، أو الاتحاد التونسي للشغل، كما لم يتحالف الحراك مع مجموعة مؤلفة من سياسيين، وتكنوقراط، ورجال قانون، وبعض الشخصيات العامة بالمهجر ليمنحهم شرعية الشارع، ويمكنهم من مفاوضة الجيش لتحقيق ما يمكن تحقيقه من المطالب، كذلك لم يحسم أمره في اختيار مرشح، وعقد صفقة معه على مطالبه على أن يكون دوره رئيس يدير مرحلة انتقالية، ويشكل هيئة تأسيسية لدستور جديد، وليس رئيس حاكم بأدوات الماضي، قيل أن هناك مفاوضات مع مصطفى بوشاشي، وهو رجل قانون، ومناضل سياسي كبير، ونائب برلماني سابق، وأمازيغي ينتمي لمنطقة القبائل، ويفهم سكانها بشكل جيد، ومقبول من فئات شعبية وشبابية واسعة، إلا أن هذه الأنباء لم تتأكد أو تخرج عن نطاق الأحاديت المتداولة.
حال لم يتمكن الحراك من الرهان على مرشح من الأن، بنسبة كبيرة ستجرى الانتخابات، والتعويل على تدني نسب التصويت أعتقد أنه تعويل في غير محله، وذلك لأن هناك العديد من الأحزاب ستحشد قواعدها، وكذلك حزب السلطة التقليدي جبهة التحرير الوطني، والكثير من القوى الصامتة، والقوى التقليدية التي تخشى الفوضى، وقوى أخرى تعتقد أن ما تحقق من مكاسب مفيد ولابد من تدعيمه، فلو لم يكن هناك ضمانة من الحراك أن الانتخابات ستفشل فمقاطعتها وعدم الدفع بمرشح مخاطرة كبرى.
حال فرضنا فشلت الانتخابات، في هذه الحالة سيكون وضع البلاد دخل في إطار مرحلة لا دستورية، وهذا يستدعي أن يكون لدى الحراك فريق عمل قادر ولديه مشروع ليتولى قيادة المرحلة الانتقالية مع الجيش، وكل التجارب تؤكد أن الجيوش لا يمكن أن تقود بمفردها عملية تحول ديمقراطي، واقصى ما يمكن أن تفعله حال صدقت النوايا أن ترحب بتحول ديمقراطي، وتساهم فيه من خلال دعم القيادة السياسية التي تتولى إدارته، والخشية الحقيقية حال فشلت الانتخابات أن يصبح الجيش قائدا للمرحلة الانتقالية، أو أن تنجح الانتخابات فيأتي رئيس قريب من الجيش ويتحكم فيه عن بعد مما يؤدي لخسارة الحراك لمجهوداته، أو دخول البلد في مرحلة صراع جديد وفوضى.
هناك أمر هام لابد من الالتفات إليه، ألا وهو الوضع الاقتصادي الكارثي بالجزائر، وانسحاب كبريات شركات النفط والغاز منه، وتراجع مخزوناته من الثروات الباطنية، واعتماد البلد بشكل شبه كامل عليها في اقتصادها، فالاقتصاد الجزائري ريعي من الطراز الأول، وهنا يُطرح السؤال حول ما مدى قدرة الاقتصاد والشعب على تحمل أعباء فترة انتقالية طويلة؟!
سيناريوهات عديدة للوضع في الجزائر، نتمنى أن يتحقق للشعب مراده، وبأقل كلفة ممكنة، والجزائر بلد كبير وهام، ونهوضه يعني الكثير للمنطقة، وبجواره ليبيا وما يحدث فيها من فوضى، والشباب بحاجة لإيجاد معادلة بديلة عن معادلة احتقار العمل السياسي المنظم، ورفضه ورفض جميع وجوهه بالكلية، ومحاولة التمتع بقدر أكبر من الديناميكية، الثورة إما أن تمتلك القوة والقدرة، والتنظيم والمشروع فتنتصر بالضربة القاضية، أو عبر النقاط وتراكم المكاسب، إلا أن تلك النظرة الحدية من الحراك تثير القلق حول جدواها وقدرتها على خلق واقع جديد مستقر.
أميل للاعتقاد بشكل كبير أن المنافسة غالبا ستنحصر بين المرشحين عبد المجيد تبون، وعلي بن فليس، وكلاهما من المعروفين بالنسبة للجيش ويثق فيهما، ووصول أي منهما للرئاسة سيشكل بالنسبة للجيش عامل استقرار، وضمانة بالانتقال الدستوري، ووجود سلطة شرعية منتخبة، إلا أنها ستكون ضعيفة وبحاجة لدعم من المؤسسة العسكرية حال كانت نسبة التصويت متدنية، وهدوء الشارع سيكون مرهون بقدرة الرئيس القادم على إدارة حوار وطني، والتوافق مع الحراك على الشكل الجديد للجمهورية، وهذا ما يسعى الجيش غالبا له بأن يتولى عملية التغيير رئيس منتخب، وأن يراقب هذه العملية من بعيد، دون أن ينخرط فيها بشكل مباشر.
نتمنى أن يتمكن الحراك من حسم قراره، وإن كنت أرى أن اختيار مرشح للحراك يخوض انتخابات الرئاسة هو أنسب الحلول المتاحة، وبالنهاية يعود القرار للشعب، ونتمنى السلام والأمان والأزدهار للجزائر، وكافة الأقطار العربية، وأن أكون وفقت في وضع قدمي القارئ على أول الطريق لفهم الحالة الجزائرية بشكل أكثر عمقا، وأن تولي الجماعات السياسية الشابة تحديدا اهتماما أكبر بدراسة علوم الاجتماع السياسي، وتطبيقاته على واقعنا لفهمه بشكل حقيقي.
[2] https://www.amazon.nl/%E2%80%AB%D8%AF%D9%88%D9%86%D8%A7%D8%AA%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AB%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-ebook/dp/B07K2YRK1C
[20] https://www.dorar.net/firq/952/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%84%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AF%D8%B3:-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%A9
[22] https://www.yabiladi.ma/articles/details/59443/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7.html
[23]http://www.mawsouaa.tn/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B2_%D8%A8%D9%86_%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%B3
[24] https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D9%80-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%8F%D8%B3%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%83%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%88%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86%D8%AA/a-50889218