ترامب يعتبر «النفوذ الإيراني» أخطر من الصعود الروسي!!
حدّد البيت الأبيض الأميركي الملفّات الأولى التي يعتبرها خطراً على «جيوبوليتيك» بلاده في «الشرق الأوسط» ومباشراً التحضير لمجابهتها بسلسلة خطوات عسكرية وسياسية قد تؤدّي إلى مزيد من الحروب والتدمير في المنطقة العربية.
إيران هي الملف الأساسي الذي تعمل واشنطن على تحطيم تفرّعاته في أربعة بلدان هي اليمن والعراق وسورية ولبنان.
وتعتبر أنّ تحجيم الحوثيّين في اليمن «أنصار الله» والحشد الشعبي في العراق ومعه تشكيلات شعبية عراقية تقاتل إلى جانب الدولة السورية وحزب الله الذي يتمتّع بنفوذ كبير في لبنان ويحارب بدور أساسي كامل في سورية، وله أدوار تقنيّة وسياسيّة متقدّمة في العراق واليمن والبحرين وأنحاء أخرى من «الشرق الأوسط»، لا سيّما في فلسطين.
أمّا لماذا آثرت واشنطن التصويب على طهران وتحييد روسيا حالياً مع إمكانية عقد تفاهمات متدحرجة وعميقة معها بدأت ملامحها في سورية نحو العراق وربما اليمن لاحقاً، فلأنّ موسكو لا تحظى بامتداد شعبي مرتبط بها في «الشرق الأوسط» كحال طهران التي تشبك مع قوى شعبية من آسيا الوسطى حتى البحر المتوسط.
وصحيح أنّ لروسيا علاقات مع أنظمة كثيرة، لكنّها تحاول بالتوازي نسج علاقات مع قوى شعبية. وهذا يحتاج إلى وقت طويل، لذلك فالبيت الأبيض يعتبر روسيا قوة أساسيّة عسكريّة في العالم يستحسن تحاشي الصدام بها أو التعامي عنها. ولتحجيمها، يجب إبعادها عن التحالف مع دول لها وضعيات اقتصادية قويّة كالصين، أو تنحو لتصبح قوة اقتصادية كبرى مثل إيران.
ويعرف الأميركيون أنّ روسيا بلد كبير لديه ثروات ضخمة لا يجيد استثمارها لأسباب تجمع بين غياب أسواق التصريف حالياً والحاجة إلى تقنيات حديثة للتعامل مع الموارد الأولية، لم تطوّرها روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في 1989.
بالاستنتاج، يبدو أنّ أميركا مستعدّة لقبول تفاهمات مع موسكو لا تؤثّر كثيراً على الجيوبوليتيك الخاص بها، ولا سيما أنّ سورية مصنّفة تاريخياً كصديقة لروسيا منذ نصف قرن تقريباً… أمّا فرص تقدّم روسيا في العراق فمرتبطة بالسماح الإيراني لها بذلك، لأنّ لطهران تأثيراً كبيراً في بغداد منذ سقوط الرئيس السابق صدام حسين.
ويذهب التقييم الأميركي للدور الروسي على المنوال نفسه في موضوع اليمن، لأنّ الحوثيّين القوة اليمنية الأولى هم أصدقاء وإيران كما تقول واشنطن، والدخول إليهم لا يتمّ إلّا من بوابة طهران. أمّا ما تبقّى من قوى يمنيّة فهي بمعظمها من الإخوان المسلمين والقاعدة وأصدقاء السعودية والإمارات، لذلك يعتبر الأميركيون أنّ التقدّم الروسي في «الشرق الأوسط» ليس قابلاً للنموّ إلا بالتحالف مع طهران، هذا باستثناء سورية التي يجنح نظامها إلى عقد تحالفات عميقة مع الروس تشكّل استمراراً للعلاقة التاريخية بين البلدين، التي أثبتت جدواها في المعارك العسكرية الدائرة منذ ست سنوات على الأرض السورية، وتحوّلت لمصلحة الدولة السورية بعد تحالف الجيش العربي مع القوات الجوية الروسية، من دون تجاهل الدور العسكري الكبير لإيران وحزب الله وتنظيمات شعبية عراقية ومتعدّدة.
هذه هي الأسباب العميقة التي تجعل واشنطن تصوِّب حركتها العدائيّة الأولى في «الشرق الأوسط» باتجاه طهران التي تمتلك كما يزعم الخبراء الأميركيون أيضاً نفوذاً لها في أفغانستان وباكستان على علاقة بأسباب اجتماعية وتاريخية، وبعض بلدان آسيا الوسطى وذلك بحكم التقاطعات السياسية مع بعض دول هذه المنطقة، والأصول العرقية الواحدة مع قسم آخر من شعوبها.
وترى مراكز البحث الأميركية أنّ إيران تهدّد الجيوبوليتيك الأميركي في شبه جزيرة العرب، لأنّ لها مؤيّدين في السعودية لم تحرّكهم حتى الآن، وكذلك الأمر في البحرين ودولة الإمارات وعمّان، بما يكشف أنّ واشنطن تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية أخطر لاعب سياسي ينافسها على النفوذ في المشرق العربي، فيما تحتاج موسكو إلى جهود زمنية طويلة لإعادة بناء مداها الحيوي «السوفياتي» في العالم العربي، خصوصاً وأنّ وضعها الاقتصادي الحالي «المتواضع» لا يتيح لها مثل هذا التوسّع السريع.
هذه هي القراءة الأميركية المتجدّدة لأوضاع «الشرق الأوسط»، والتي تثبت أنّ العداء الأميركي لطهران لا يرتبط بالملف النووي الذي سبق للرئيس السابق أوباما أن حسمه معها، بل يتركّز على نفوذها السياسي الذي ينافس فعلاً الجيوبوليتيك الأميركي في الشرق الأوسط، ويهدّد بكشف هيمنتها الاقتصادية على كلّ مصادر الثروة والاستهلاك فيه.
لقد تبنّت إدارة ترامب هذه القراءة، التي وافق عليها أيضاً مركز القرار الأميركي الذي يجمع بين إمكانات الأمن القومي الأميركي المستند إلى مراكز دراسات كبرى، داخلية وخارجية، والمكاتب الدبلوماسية والسياسية العاملة في الداخل والخارج وجهود المخابرات. هؤلاء يضعون ثمار استنتاجاتهم لدى «البنتاغون» الذي ينسج الخطط العسكرية للإطاحة بهذا النفوذ.
ما هي الخطط الأميركية لنسف النفوذ الإيراني؟
هناك ثلاثة مستويات: الأوّل سياسي ويتعلّق بزلزلة البنيان السياسي والاجتماعي للنفوذ الإيراني… إثارة خلافات جهويّة ومذهبية في اليمن، وهذا ما يحصل حالياً من اتهامات للشمال اليمني بأنّه يريد التهام الجنوب، واعتبار أنصار الله مجرّد أداة شيعية إيرانية للانتقام من العرب الشافعيين السنة.
وللكشف عن مدى تأثير هذه الاتهامات، يكفي القول إنّ «ناصريّي» اليمن أصبحوا موالين للسعودية، وكذلك أنصار علي سالم البيض الذي كان متحالفاً مع طهران وأصبح مؤيداً للرياض.
وترعى واشنطن إعادة تجميع القوى العراقية المعادية لإيران من خلال الرعاية التركية والسعودية التي تمسك بمجموعات عراقية متطرّفة، كما تحاول ربط «تحرير» لواء الموصل بإنشاء كانتون فدرالي كحال إقليم كردستان، يتّسم بالصبغة السنّية التي تحرص واشنطن على أن تكون شديدة العداء لطهران.
أمّا في سورية، فتبدو واشنطن حريصة على الربط بين إرهاب «داعش» و«النصرة»، وبين ما تسمّيه زوراً الإرهاب الإيراني. ولأنّ حلفاءها الأكراد لا يتّسمون بقوة كافية للسيطرة على وسط سورية وشرقها، فقد بدأت بتنفيذ غزو عسكري مباشر في محاولة لحصار الصعود الإيراني فيها.
ويبدو أنها أعطت توجيهات لحلفائها في لبنان بتسليط هجوم سياسي مركّز على سلاح حزب الله وانتهاكه للدستور اللبناني بذهابه للقتال في سورية، وشملت التعليمات قوى سياسية ودينية فلسطينية ولبنانية، تذكّرت كلّها وفي هذه المرحلة بالذات أنّ الحزب لا يتمتّع بالشرعية القانونية للقتال في سورية. وتناست أنّ هذا الحزب هو الذي جابه المنظمات التكفيرية ومنعها من الاستفراد بالمسيحيّين والمسلمين شرق البلاد.
على المستوى السياسي أيضاً، لا يمكن اعتبار التوقيت المتزامن في الهجوم على الدور الإيراني من قِبل عشرات السياسيّين والدبلوماسيّين الأميركيين في الأمم المتحدة والهيئات الدبلوماسية في السعودية والعالم العربي ووزراء في فرنسا وبريطانيا وكندا.. هؤلاء كلّهم أجمعوا في الأسبوع الماضي على ضرورة ضرب إرهاب «داعش» والإرهاب الإيراني معاً، وبذلك يضرب الحوثيّين والحشد الشعبي وحزب الله.
وتسعى واشنطن لعقد مؤتمر يضمّ 67 دولة تحت عنوان «القضاء على إرهاب داعش وإرهاب إيران وميليشياتها»، والمطالبة تنحصر بسحب «ميليشيات إيران» من سورية.
أمّا عسكرياً، فالخطة الأميركية مصمّمة على الربط بين الموصل ودير الزور والرقة في مستطيل يستهدف أيضاً الدور الإيراني، لكن تطبيق هذا المخطط سياسياً وعسكرياً يحتاج إلى موافقة روسية أو «غضّ طرف» منها على الأقلّ.
ولا يبدو أنّ موسكو تجنح للقبول بالعروض الأميركية، لأنّها تعرف الأهداف الحقيقية لواشنطن.. هذه الأهداف التي تنتقي أولاً الأكثر خطورة، تمهيداً للوصول إلى الأهداف الأخرى، وهي بكلّ تأكيد موسكو وبكين.
لذلك، تجمع الإدارة الأميركية إذاً في خطّتها الجديدة بين الوسائل السياسية الأميركية عبر استنهاض حلفائها الإقليميّين في وجه الدور الإيراني وحلفائها في العالم للأهداف نفسها، وتنحو إلى استعمال أساليب عسكرية حيث تستطيع مع التركيز على الفتن المذهبية والقومية.
ويعتقد الخبراء الأكاديميّون أنّ تصاعد الخطر الأميركي من شأنه الدفع التدريجي نحو ولادة تحالف روسي إيراني صيني مع سورية والعراق.
وهذا سيؤدّي إلى تجمّع عناصر القوة في هذا الحلف الذي يصبح قوة أساسية تجمع بين القوّتين العسكرية والاقتصادية، ما يضع حدّاً لغطرسة الحلف الأميركي السعودي الإسرائيلي، وعندئذ لن تقع إيران وروسيا فريسة للخداع الأميركي الذي ينجح كعادته في أدواره المسمومة.
البناء