هل بدأت الحرب الأهلية الأميركية؟
تتسارع الأحداث في المشهد السياسي الأميركي بشكل ينذر بتطوّرات خطيرة جدّا تهدّد استقرار الولايات المتحدة ومعها العالم أجمع. فإذا كان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 زلزالاً سياسياً في المشهد الأميركي وحتى العالمي فإنّ النخب التي كانت متحكّمة في مفاصل السلطة في الولايات المتحدة لم تقبل ولم تستسلم للواقع الجديد. وبات واضحاً من أول يوم بعد الانتخابات أن ما يُسمّى بالدولة العميقة ستجهد لجعل ولاية ترامب صعبة، هذا إذا ما كُتب لها البقاء. فهناك من يتكهّن أنها لن تتجاوز مئتي يوم حسب موقع «انرفورماشيون كليرينغ هاوس» الواسعة الانتشار. فالدولة العميقة أعلنت الحرب على ترامب لإسقاطه دون الانتظار أو حتى التفكير بترويضه. فعلى ما يبدو اعتبرت الدولة العميقة أنه غير قابل للتطويع وإنْ كان ميله الطبيعي عقد الصفقات. فلا صفقات معه والمعركة على ما يبدو ذاهبة إلى النهاية.
الدولة العميقة اليوم يتصدّرها مجمع مؤسسات الاستخبارات ضمن المجمع العسكري السياسي الأمني والمالي. واليوم يمكن إضافة السلطة الرابعة، أيّ الإعلام المهيمن إلى ذلك التحالف حيث أسقط الاعلام أي زعم بالمهنية وأخذ بتصنيع الأخبار الكاذبة حول ترامب. بالمقابل يعتبر ترامب أنّ «الإعلام هو العدو». ويجب الاعتراف أنّ ترامب سهّل ويسهّل إلى حدّ كبير مهمة خصومه بسبب تسرّعه في اتخاذ القرارات ثم التراجع عنها وكأنها ستكون دون أي تأثير. وهذا ما يجعل هدفه في «تجفيف المستنقع» مهمة في غاية الصعوبة لشراسة أرباب «المستنقع» وخفّة الرئيس الأميركي في اتخاذ القرارات.
وبالفعل، ارتكب الرئيس الجديد عدة أخطاء متتالية ساعدت الإعلام وأجهزة الاستخبارات على خوض حملة ناجحة ضدّه وكأنه عاجز عن الردّ حتى الآن. وليس في الأفق ما يدّل على إمكانية ردّ فعّال غير المكابرة في الكلام أو التراجع الموقت. أما الأخطاء التي ارتكبها عديدة: أولاً ما زال يعتبر نفسه في مرحلة الحملة الانتخابية ولم يستوعب أنه أصبح الآن في الحكم. فما زال يطلق مواقف لا تتجاوز مرحلة الشعارات، أيّ دون دراساتها بعمق وخاصة تداعياتها وسرعان ما يقوم بالتراجع عنها.
الخطأ الثاني هو عدم إعداده لفريق عمل متجانس يمكن الاتكال عليه. فالتسميات لمناصب عديدة أثارت العديد من الجدل خاصة في ما يتعلق بأمرين: أولاً التناقض مع شعاراته الانتخابية بأنه يمثّل الشعب وأنه سينقل السلطة إلى الشعب كما صرّح في خطاب القسم، وإذ يعيّن العديد من أصحاب المليارات في وزاراته. وثانياً، يفتقد العديد من هذه أصحاب هذه التعيينات الحدّ الأدنى من الكفاءة في علم إدارة الدولة أو الشأن العام، أو أنهم يمتلكون تصوّراً لما يمكنوا أن يقوموا به.
فوزيرة التربية بتسي ديفوس نالت على موافقة مجلس الشيوخ بشق الأنفس بسبب قلة خبرتها وحنكتها رغم أنها كانت رئيسة فرع الحزب الجمهوري في ولاية ميشيغان، وهي من أصحاب المليارات وشقيقة أريك برنس مؤسس إحدى أكبر الشركات الأمنية في العالم «بلاك واتر». الجدير بالذكر أنها لم تكن من أنصار ترامب واعتبرت أنه لا يمثّل الحزب الجمهوري فكيف تمّت تسميتها من قبل ترامب؟ أو هل هناك جهة أخرى داخل الفريق المقرّب من ترامب تقترح الأسماء دون التعمّق في خبرة المرشّحين وكأنها تريد إفشاله؟
المرشح الثاني الذي اضطر إلى الانسحاب هو المرشح لمنصب وزارة العمل اندرو بوزدر وذلك بسبب عدم كفاءته. مثل ثالث على عدم كفاءة فريق العمل داخل الإدارة تعيينه لشون سبايسر كناطق باسم البيت الأبيض الذي يتخبّط بالتناقضات والمعلومات الخاطئة أو الناقصة. ترافق كلّ ذلك أخبار وتسريبات عن صراعات داخل البيت الأبيض بين فئات متخاصمة تسعى للتأثير على الرئيس ما يزيد من البلبلة والغموض حول آليات العمل داخل الإدارة الجديدة في البيت الأبيض. هذه بعض الملاحظات حول فريق العمل الجديد ويمكن الاسترسال في الأمثال لتأكيد ما أوردناه.
ومن الهفوات القاتلة في التعيينات تعيين مايك فلين كمستشار الأمن القومي الذي أربك الرئيس الأميركي ونائبه مايك سبانس بسبب معلومات ناقصة لم يفصح عن كاملها ما أفقده ثقتيهما به. وقضية فلين تنذر بإعادة سيناريو إسقاط نيكسون في السبعينات من القرن الماضي حيث بادر بعض النوّاب والشيوخ في الكونغرس إلى طرح ضرورة تحقيق من قبل محقّق مستقلّ لمعرفة ما كان يعلم ترامب من محادثات بين فلين والروس. لسنا متأكدين أنّ هذه الحملة قد تنجح بإطاحة ترامب ولكنها قد تضرب مصداقيته على الصعيد الدولي. وقد تجلّى ذلك من النتائج المحدودة للزيارة الأولى لوزير الخارجية الجديد ريكس تيللرسون ولقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف.
لكن رغم كلّ ذلك فما زال ترامب يتمتع بشعبية كبيرة تقارب أكثر من خمسين بالمائة ما يغيظ خصومه. فمعهد رساموسن لاستطلاع الرأي العام، والمعروف بجدّية ودقّة استطلاعاته، نشر استطلاعاً الأسبوع الفائت يدلّ على مدى موافقة الجمهور الأميركي على سياسات ترامب. والأهمّ من ذلك، جاء في ذلك الاستطلاع أنّ الجمهور الأميركي يثق أكثر بترامب مما يثق بأخبار الإعلام المهيمن، أيّ بمعنى آخر أنّ مصداقية ذلك الإعلام لدى الجمهور الأميركي مشكوك بأمرها. كما أكّد ذلك الاستطلاع عدم رغبة الجمهور الأميركي بالتورّط في قضايا خلافية خارجية. من جهة أخرى فإنّ استطلاعاً آخر قام به موقع يوغوف YouGov حول التهديدات الخارجية كما ينظر إليها الجمهور الأميركي أبرَزَ أنّ روسيا تأتي في المرتبة السادسة 22 بالمائة ، وراء كلّ من كوريا الشمالية 57 بالمائة في المرتبة الأولى، ويليها كلّ من إيران 41 بالمائة ، وسورية 31 بالمائة ، والعراق 29 بالمائة وأفغانستان 23 بالمائة . لكن جميع هذه الاستطلاعات، باستثناء الخطر الكوري الشمالي تفيد أنّ التهديد لا يتجاوز الخمسين بالمائة عند الجمهور الأميركي. فكلّ الكلام الإعلامي ولرموز الاستخبارات أنّ روسيا هي الخطر الأول يتعارض مع رأي الأميركيين.
لكن بات واضحاً أنّ الانفصام بين النخب والجمهور العام الأميركي يتزايد. لذلك نرى «التقدّميين الليبراليين» في الولايات المتحدة يدعون إلى ابتكار الوسائل الفاشية كعدم السماح لإعطاء رأي مخالف لرأيهم. كما أنّ هذه الجوقة من «التقدميين الليبراليين» يدعون إلى تصعيد المواجهة مع روسيا والصين. فسخرية القدر هو تبدّل المواقع بين المحافظين التقليديين والذين كانوا من «الصقور» وبين الليبراليين الذين كانوا يبدون اعتراضهم على المغامرات الخارجية الأميركية. فمنذ ولاية كلينتون أصبحت النخب الأميركية بمختلف تشكيلاتها تؤيّد التدخّل الخارجي واليوم متحالفة مع صقور الأمس من الجمهوريين في إعادة أجواء الحرب الباردة. وما يؤكد ذلك هو استطلاع آخر أجرته مركز المصلحة الوطنية بالاشتراك مع مؤسسة كوخ حيث تبيّن أنّ 69 بالمائة من الأميركيين أن المصلحة الوطنية هي التي يجب أن تحرّك السياسة الخارجية وليس المواقف العقائدية تجاه الصين أو روسيا. كما أنّ نشر الديمقراطية في العالم عبر القوة العسكرية كما يتمنّاه المحافظون الجدد والمتدخّلون الليبراليون لم يحظ على 24 بالمائة من التأييد بينما الأكثرية خالفت ذلك التوجه.
تحالف مراكز الاستخبارات الأميركية مع الإعلام الأميركي أطاح بمايكل فلين. ولكن هل يستطيع ذلك التحالف في الاستمرار في هجومه على الرئيس الأميركي للوصول إلى إما تنحّي الرئيس أو إسقاطه في الكونغرس؟ وماذا ستكون ردّة الفعل الشعبية؟ الانقسام الحادّ بين الأميركيين من جهة وبين النخب الأميركية وجمهور ترامب يساهم في ضرب تماسك النسيج الاجتماعي خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية.
من الواضح أنّ النخب لا تكترث لحال المواطن الأميركي العادي وتريد أن تصوّر وتتصوّر أنّ معظم الأميركيين يؤيّدونها في صراعها مع ترامب. من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية يكتشف مدى حدّة الانقسام الذي يحاول أن يخفيه الإعلام المهيمن. والاستمرار بالصراع المفتوح ودون ضوابط ينذر بالتحوّل إلى مجابهة شعبية مع أنصار ترامب الذين لا يقلّ عددهم عن نصف الناخبين. لم نصل إلى تلك المرحلة ولكن هناك العديد في الولايات المتحدة من يعتبر أنّ احتمال حرب أهلية أصبح وارداً.
أجواء الحرب الباردة ضرورة حيوية للمجمع العسكري الصناعي. ففي عصر التراجع الاقتصادي تزداد الضغوط على الحكومة لخفض النفقات العامة. ولكن ما لا يمكن تخفيضه بالنسبة للمجمع العسكري الأمني الصناعي هو نفقات الدفاع والأمن الذي يحظى بتأييد الجميع. يبقى تخفيض نفقات الخدمات الاجتماعية وهذا يمسّ مباشرة مصالح الجمهور الأميركي. فأصحاب المليارات الذي يتولّون مناصب في إدارة ترامب مهمتهم تخفيض نفقات الإدارة وخاصة في البرامج الاجتماعية والتربوية والبيئية والصحية ولكن دون المسّ بالدفاع والأمن.
وفقاً لهذه المعطيات فإنّ إدارة ترامب مقبلة على اتخاذ قرارات تمسّ برفاهية المواطن الأميركي. هناك أحاديث حول إعادة هيكلة الضمان الصحي للمتقاعدين. كما أنّ الحديث عن إبطال قانون التغطية الصحية الذي أوجده الرئيس أوباما والمعروف «بأوباماكير» يتفاعل في الكونغرس رغم الصعوبات في إبطاله. الأوليغارشية الأميركية أصبحت تحكم بشكل مباشر الولايات المتحدة بينما كانت توظّف سياسيين لذلك الغرض. الغريب أنّ الهجوم على ترامب لا يتناول بشكل ملموس الأجندة الداخلية التي قد تكون في الحدّ الأدنى مطابقة للنيوليبرالية التي بدأت في الولايات المتحدة في عهد ريغان وتصاعدت في عهد كلينتون لتصل إلى ذروتها في عهد أوباما. الخلاف هو حول الأجندة الخارجية حيث ترامب أعلن في حملته الانتخابية عن رغبة في «تحسين العلاقات» مع روسيا وعدم التورّط في حروب لا تخدم المصلحة الأميركية كما يفهمها هو.
فما هو مستقبل سياسة ترامب، على الأقلّ بالنسبة للشعارات التي رفعها؟ من الواضح أنّ المجمّع العسكري الصناعي ومعه الإعلام المهيمن ربح جولة كبيرة في إبعاد مايكل فلين ولكن هل كانت حاسمة؟ النتيجة الأولية هي إضعاف مصداقية الولايات المتحدة في المحافل الخارجية. المؤتمر الأمني الأخير الذي عقد في ميونيخ الأسبوع الماضي تحدّت عن الخطر الروسي الذي يهدّد كلّ من الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. الجدير بالذكر أنّ نفقات وزارة الدفاع الروسية في حدود 66 مليار دولار بينما نفقات بلاد الحرمين وصلت إلى 88 مليار دولار. معظم الدول الأوروبية تنفق أكثر من روسيا على الدفاع فكيف تحوّلت روسيا إلى تهديد حيوي لأوروبا؟ هذا التهديد هو ما شدّد عليه الشيخ الأميركي جون ماك كين على هامش المؤتمر مخالفاً بالتالي موقف ترامب. صحيح أنّ وزيري الخارجية والدفاع الأميركي تكلّما عن تهديد روسي ولكن بشكل غير مقنع. فأين يقين الموقف الأميركي؟ الأسابيع المقبلة ستحمل بعض الأجوبة ولكن في اعتقادنا فإنّ إدارة ترامب ومعها الولايات المتحدة دخلت مرحلة لا توازن ولا استقرار وحالة ضعف خطيرة قد تطول طالما لم تستوعب النخب مدى عمق التغيير الحاصل في المجتمع وضرورة الانصياع إلى ذلك الواقع الجديد.
نسرت للمرة الأولى في "البناء"