الحرب الأهلية الأميركية الثانية و"القومية البيضاء"
يسبق كل الحروب الأهلية ظروف من عدم المساواة الاقتصادية والنزاعات الإقليمية وقمع الحريات المدنية، حيث يبدأ النظام القديم هبوطه. في حالة الإمكانية الفعلية للحرب الأهلية الأمريكية الثانية، لكل المهتمين في التاريخ الأميركي، يجب أن يفهموا تداعيات مثل هذه الحرب الأهلية بين الأشقاء وسفك دماء المواطنين الأميركيين، والتي سيكون لها تداعيات في جميع أنحاء العالم . لن يكون الامر مجرد خلاف أو صراع بين الحزبين الكبيرين وأنهما سيتحملان المسؤولية الكاملة لحرب مدنية حديثة، بل سيتعداه لقضايا خلافية رئيسية تتجاوز الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. كما قال لينين حول ذلك بصراحة وإيجاز "منذ حصول الزنوج على حريتهم، تتضاءل الفرق بين الحزبين ... ولم يعد لقتالهم أي أهمية خطيرة بالنسبة لجماهير الشعب. تم خداع الناس وحرفهم عن مصالحهم الحيوية عن طريق خلق مبارزات وهمية لا معنى لها بين الحزبين البرجوازيين ". ما كان يقوله لينين حول التلاعب في النظام السياسي الأميركي هو أن الاهتمام الرئيسي للحزبين هو كيفية النجاح في خلق المزيد من "مكافأة" الاقتصاد الرأسمالي التي من شأنها أن تتقدم نحو الأمام، وتحقيق قوة القطب الواحد العالمية المهيمنة.
يمكن القول إن ما يحدث الآن من انشقاقات سياسية في كلا الحزبين الرئيسيين هو جزء فقط من قضايا أوسع نطاقا تتصدر الواجهة في عام 2016 والتي يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية أخرى، أكثر شراسة من الحرب الأهلية الأمريكية التي حدثت من 1861 إلى 1865. ما أراه يحدث من انهيار للنظام الرأسمالي المتجانس في الولايات المتحدة هو تفكك البلاد إلى خمس أو ست دول إقليمية على أساس المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وخلافا لتفكك الاتحاد السوفياتي، سوف يكون الطلاق السياسي في الولايات المتحدة أكثر مرارة بسبب الانقسامات الطبقية التاريخية والتحيزات العرقية، بما في ذلك التعصب العنصري المكرس ضمن أسس التاريخ الأميركي. وانطلاقا من هذا الرأي أود أن أدرس القضية المركزية للقومية الأميركية البيضاء التي هي جزء من الأزمات التي ظهرت في أمريكا الحديثة. "القومية البيضاء" ليست ظاهرة فريدة من نوعها، يكفي أن ندرس القومية الألمانية التي كرست نفسها في الاشتراكية القومية تحت حكم الرايخ الثالث، لنرى أساسيات أو بذور انفجار مدمر. مثل هذه القومية العنصرية كالقومية البيضاء يمكن أن ينظر إليها على أنها شيء يشبه الزلزال الذي يثور وينهار سطح الأرض من بعده، ويدمر المعيشة والبنى التحتية، فضلا عن قتل الكثير من البشر.
ما يطلق العنان لمثل هذا الزلزال السياسي هم المتخلفون سياسيا في الولايات المتحدة، الذين تظهر عليهم السذاجة الاجتماعية، وهم الانتهازيون في الحزب الجمهوري والليبراليون الجدد الأنانيون في الحزب الديمقراطي الذين يتلاعبون على مصالح الشعب الأمريكي.
منذ فترة إعادة الإعمار بعد وفاة لينكولن الناجمة عن عملية الاغتيال، كان هناك صراع مستمر في الثقافة السائدة، والتي تعتبر ثقافة أنجلو-أمريكية، وكيفية دمج والعيش وديا مع الأميركيين الأفارقة وكذلك الأميركيين من المكسيك، والأمريكيين الأصل والأقليات القومية الأخرى. ما يجب أن يكون مفهوما أن المجموعات العرقية المختلفة أو الأعراق ليست "أشخاصا ملونين" ولكن الأقليات القومية التي تعيش داخل مركزية الدولة القومية من المفترض أن تعطي الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان لجميع السكان. إلا أن التاريخ والواقع يختلف، وهناك فرق بين ما هو مثالي في التاريخ، وما هو الواقع الفعلي الذي يعيشه السكان. وبعبارة أخرى، في وصف التاريخ أو الكتابة عن الأزمات التاريخية، يجب علينا أن نفهم أن وصف بداية الحرب الأهلية أو أي حرب هو ليس دوافع من الشعر أو القصص، إنما هو تفهم مع أدلة واقعية على ما حدث أو ماقد يحدث في أي حدث بشري. في هذا المعنى، عندما أكتب عن القومية البيضاء واحتمال نشوب حرب أهلية أميركية ثانية، أنا أعترف بالحاجة لدراسة القضايا ذات المظهر الهادئ، دون أن نكون ساذجين بأن إنفعالا معينا سيكون موجودا في المشهد.
في الأعمال المؤثرة، العمل الكلاسيكي "صعود وسقوط الرايخ الثالث" الذي كتبه وليام شايرر، يصف الصحفي كيف رأى هتلر الأزمات الألمانية التي نشأت بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكيف دمر "الكساد العظيم" الشعب الألماني، وخاصة الطبقة العاملة الألمانية، وكيف أثر عليهم. شيرر علق حول رد فعل هتلر في تلك الفترة بالقول:
"بالنسبة له الإمبراطورية كانت تغرق في "مستنقع كريه". ويمكن إنقاذه فقط في حال كانت الأمة ذات عرق ألماني صاف ومتميز، وفرض الألمان سلطتهم القديمة. العرق غير الألماني، خصوصا " العرق السلافي" وقبل كل شيء "التشيكي"، كانوا بنظره شعوبا أدنى. وكان يعتمد على الألمان في الحكم بيد من حديد ... "
شيرر كان يشرح كيف أنه أثناء التدهور أو الأزمات الاقتصادية والثقافية للبلد تبدأ الجماعات السياسية المختلفة أو الأفراد بالبحث عن كبش فداء لإعطاء مصداقية لعنصريتهم وأمراضهم الاجتماعية وافتقارهم إلى الثقة بالنفس. في صحيفة نيويورك تايمز (الجمعة 22 يوليو/ تموز، 2016) كتب الصحفيون حول ترامب كمرشح الحزب الجمهوري "في الكلام، الذي يعتبر جزءا منه الحملة التي أطلقت بعد ظهر يوم الخميس، تطرق بشكل خاص على موضوع المهاجرين غير الشرعيين والأميركيين غير القانونيين، قائلا إنهم خطر على الأمن القومي مثل "داعش" واللاجئين ". وتناولت مقالة الأخبار فقرات من خطاب القبول لترامب، الفائز بترشيح الحزب الجمهوري، الذي أكد عبارته السياسية "أمريكا أولا"، كموضوع يتعلق بالسياسة الخارجية، والذي قال فيه "لقد حان الوقت لنظهر للعالم أجمع أن أمريكا ستعود أكبر، وأفضل وأقوى من أي وقت مضى ". هذا الشوفينية القومية تلعب على وتر مخاوف الناخبين من الطبقة العاملة البيضاء الذين يشعرون اجتماعيا وسياسيا بالتهميش. وهكذا، يمكننا أن نرى أن هناك من يرى أن خطاب ترامب فريد من نوعه في تطرقه بشأن العنصرية والقومية.
أي نوع من الكلام يشير إلى ما يسمى عظمة الموضوع الأمريكي يؤثر بشكل ايجابي على الملايين من الأميركيين الذين يرون أنفسهم بالفعل بأنهم "استثناء"، وهذا ما تم تغذيته خلال الإدارات الرئاسية السابقة، بما في ذلك إدارة أوباما. وتم إحياء القومية البيضاء بالتالي ليس من قبل ترامب ولكن من جانب مختلف القوى السياسية التي جاءت قبله. أوباما على وجه الخصوص، المتردد في القضايا الطبقية والعرقية في الولايات المتحدة، مسؤول أيضا عن ارتفاع التوترات العرقية. أوباما يسوغ أن الشعب الأمريكي شعب موحد، وهذا ما يعتبر أوهاما سياسية في حزبه.
عندما أتحدث عن حرب أهلية أميركية جديدة، أنا لا أركز فقط على جوانب العنف والاقتتال بين الأطراف أو أبناء الشعب الواحد، أو أن مثل هذه الفوضى ظهرت فجأة بيننا الآن. ما أقصد هو الظهور الجدلي أو اللامفاجئ الذي يحدث في أي دولة قومية بسبب الكراهية المدمرة الناجمة عن الأحقاد الطبقية والتعصب العنصري والعداء الفردي تجاه المجتمع العام. لذلك ترتبط القومية البيضاء بجوهر تاريخ الولايات المتحدة في الماضي والحاضر. خلال فترة إعادة البناء بعد الحرب الأهلية الأمريكية الأولى، "الشرائع السوداء" تم إنشاؤها في الولايات الجنوبية من أجل السيطرة على أجور الأميركيين من أصول افريقية والحريات التي اكتسبوها بعد أن قدموا جنودا في ميادين المعارك. الآن، في عام 2016 هناك قمع جديد ضد الأميركيين السود، بما في ذلك المهاجرين المكسيكيين، وكذلك المسلمين القادمين من العراق وسوريا وما حولها أسفرت عن سفك دماء الكثير من هؤلاء الناس في شوارع أمريكا، في منازلهم وأماكن العبادة والأماكن التي يذهبون للاستمتاع بثقافتهم. سياسات الشرطة الأمريكية هي جزء من التطبيق الشامل للرأسمالية، النظام الأمريكي الذي يستمر بهذه الجرائم ضد الأقليات القومية في الولايات المتحدة، والتي لا يتحمل أوباما ومرؤوسيه مسؤولية عنها، خلقت مجموعات وخلايا إرهابية من الأقلية القومية مقابل جماعات إرهابية من الخارج تسعى للانتقام.
الشباب الأمريكيون الذين ساروا في الشوارع ضد اضطهاد الأقليات القومية في أمريكا هم جزء من الصراع الأميركي الشامل، بغض النظر عما إذا كان يفتقر إلى عبقرية أو قيادة مهنية ثورية. ما يفهمه الملايين من الشباب الأمريكي، بالإضافة إلى شرائح أو جزء من الطبقة العاملة، هو أن التعصب والتحريض المعادي لهم، جنبا إلى جنب مع وحشية شبه يومية من قبل قوات الشرطة الأمريكية ضد الرجال والنساء الأمريكيين من أصل أفريقي، هي المنهجية القاتلة التي لم يتم اخمادها من قبل الحكومة الأمريكية تحت رعاية أوباما. ثم، ما نلاحظه من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، بغض النظر عن مواقف اليمين أو اليسار، أن العنصرية وخصوصا القومية البيضاء هي جزء من بانوراما لنمو الفاشية الأمريكية التي أدمجت نفسها في كثير من مواقع النسيج الاجتماعي للمجتمع الأمريكي. مع ترسيخ اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري والليبرالية الجديدة الذي دمر عمدا صفوف التقدميين داخل الحزب الديمقراطي، يمكننا أن نلاحظ أنها استقطبت شريحة واسعة من أمريكا لصالح ثقافة الأنجلو-أمريكية المهيمنة والمغرورة، والتي تتجاهل الحقوق الاجتماعية للأقليات القومية التي تعيش في أمريكا.
مع ظهور الصراع الطبقي الذي يجيش في العنف العشوائي والشامل في أمريكا، ومع تصاعد الخطاب المعادي للأقليات الاجتماعية قبل القوميين البيض سواء من قبل قوات الشرطة المتعصبة أو المتطرفين داخل الحزب الجمهوري، أو من قبل الليبيراليين الجدد في الحزب الديمقراطي الذين يعتبرون أنفسهم "المنقذين" للولايات المتحدة، بدأنا نرى بداية الحرب الأهلية الأمريكية الثانية.
وأخيرا مع الفوضويين المغامرين أو الخلايا الإرهابية من الأقليات في الولايات المتحدة التي تساهم في القتل الجماعي للمدنيين الأمريكيين الأبرياء، يمكن للمرء أن يسأل عن أي جانب سوف يبدأ الجيش الأميركي بحل المشكلة، يبدو أن الحرب الأهلية في الولايات المتحدة أصبحت حقيقة واقعة وحزينة .
وفي افتتاحية صحيفة لوس أنجلوس تايمز التي كتبها جيمس كيرتشيك أشار إلى أن
"الاميركيون يرون أن محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت مؤخرا في تركيا كبعض القصص الغريبة عن الأنباء الأجنبية – حركة عنيفة وغير عادية من حركات التنمية السياسية تحدث في منطقة تعاني باستمرار من الاضطراب - يجب أن نتوقف لنرى أن احتمال عدم الاستقرار قد يكون مستمرا في هذا البلد إذا كان دونالد ترامب هو الفائز بالرئاسة ".
الذي يعتقده الصحافي مثلا هو أن جنرالات البنتاغون سوف يدعمون الديمقراطية الليبرالية ضد أية "شخصية" وقحة لمح لها بوتين عندما أشار في السابق إلى شخصية ترامب. الذي لم يستطع فهمه السيد كيرش هو أن الجنرالات الأميركيين يذهبون إلى الجانب الذي يتطابق مع مصلحتهم الذاتية بشأن المجمع الصناعي العسكري. هذا لا يعني أنه لا يوجد ضباط سوف يدعمون الجانب الأكثر تقدمية في حرب أهلية، ولكن يمكن العثور على هؤلاء أكثر بين ضباط والمجندين. وينبغي أن نتذكر أن اللجان العسكرية السوفيتية كانت تتألف من الجنود السوفيت من الرقباء والجنود الروس العاديين الذين دعموا الثورة الروسية. والانقلاب العسكري ليس لنشر حق تقرير المصير وحق التحرر، ولكنه للحفاظ على الأحكام العرفية والطاعة للسلطة العسكرية.
عندما تحدثت عن القومية البيضاء في ولايات الجنوب، فإنه يجب أن نلاحظ أيضا تاريخا مستمرا للقمع السياسي في الولايات الشرقية، حيث لم تشعر الأقليات فقط بالقمع ولكن حتى الأميركيين البيض كانوا يشعرون بالقمع في جميع الأحكام العامة. في عام 1847، كتب ماركس نقدا لعدم المساواة في شرق الولايات المتحدة التي لا تزال حية ومزدهرة تحت رعاية الإمبريالية الأمريكية. وقال ماركس في رسالته "لا مكان، يمكن لعدم المساواة الاجتماعية أن تظهر فيه بقسوة أكثر مما كانت عليه الحال في الولايات الشرقية لأمريكا الشمالية، لأنه لا يوجد أي مكان أقل إقناعا بعدم المساواة السياسية" في العصر الحديث من الولايات المتحدة مع حالة الركود الاقتصادي في الداخل، ونظام التعليم المتوسط في مزيد من الانخفاض والتقاتل نتيجة التوترات العرقية بين الشعب الأمريكي الذين وقفوا مع مختلف المجموعات السياسية المنقسمة والجهات الحكومية ذات الأجندات السياسية الخاصة بها، مثل هذه الحرب الأهلية الثانية ليست فكرة خرساء بل إنها ظاهرة حية واقعية. أستطيع أن أقول كأمريكي أنني أشم رائحة الحرب الأهلية.