تيران وصنافير: التنازل خط أحمر
عادت مسألة الجزيرتين المصريتين، تيران وصنافير، إلى واجهة المشهد السياسي المصري من جديد. القضية التي جرى التعامل معها على أنها «محسومة سلفاً»، من قبل أوساط نافذة في جهاز الدولة المصري، خرجت إلى العلن من جديد بلبوس «قضائي».
رفض القضاء الإداري المصري، طعن حكومة البلاد بخصوص جزيرتي تيران وصنافير، وأكد أن الجزيرتين مصريتان، كما أصدر حكماً نهائياً ببطلان «اتفاقية ترسيم الحدود البحرية» التي جرى توقيعها بين مصر والسعودية خلال العام الفائت. وقال رئيس المحكمة، القاضي أحمد الشاذلي، بمنطوق حكمه: إن «سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير مقطوع بها»، موضحاً أن هيئة المحكمة قد أجمعت على هذا الحكم.
وتزامن هذا الحكم مع تجمع مئات المصريين أمام مقر المحكمة، قبل صدور الحكم وبعده، وردد المتجمعون هتافات تؤكد أن تيران وصنافير مصريتان. من جهة أخرى، قال المحامي لدى محكمة النقض (أحمد عبد الحفيظ): إن الحكومة لا يمكنها الطعن في الحكم، لكن يمكنها اللجوء إلى المحكمة الدستورية. وأشار عبد الحفيظ: إلى أن الحكومة السعودية يمكنها اللجوء إلى التحكيم الدولي، للبت في ملكية جزيرتي تيران وصنافير.
عقب النطق بالحكم، هلَّل المحامون والحاضرون بهتافات، من بينها «مصرية مصرية»، في إشارة إلى الجزيرتين الواقعتين بمدخل خليج العقبة في البحر الأحمر، فضلاً عن ترديد النشيد الوطني المصري، في مشهد مؤثر لم يجد طريقه إلى معظم وسائل الإعلام العربية.
حول أهمية الجزيرتين
تبعد جزيرتا تيران وصنافير عن بعضهما بمسافة نحو أربعة كيلومترات في مياه البحر الأحمر، وتتحكم الجزيرتان في مدخل خليج العقبة، ومينائي العقبة في الأردن، وإيلات في فلسطين المحتلة. وتقع جزيرة تيران عند مدخل خليج العقبة، على امتدادٍ يتسم بأهمية استراتيجية يطلق عليه: «مضيق تيران»، وهو طريق كيان العدو لدخول البحر الأحمر.
وتعد جزيرة تيران أقرب الجزيرتين إلى الساحل المصري، إذ تقع على بُعد ستة كيلومترات، عن منتجع شرم الشيخ المطل على البحر الأحمر. وتتمركز القوات المصرية في الجزيرتين منذ أكثر من قرن، وكانتا من بين القواعد العسكرية الاستراتيجية لمصر في فترة العدوان الثلاثي عام 1956، حيث احتلهما كيان العدو في ذلك الوقت، وعاود احتلالهما مرة أخرى في حرب 1967، لكنهما عادتا إلى مصر بعد التوقيع على اتفاق «كامب ديفيد» المشؤوم في عام 1979.
وتنص بنود «كامب ديفيد» على أنه لا يمكن لمصر وضع قوات عسكرية على الجزيرتين، وأن تلتزم بضمان حرية الملاحة في الممر البحري الضيق، الذي يفصل بين جزيرة تيران والساحل المصري في سيناء.
وتشير مجموعة من الوثائق التاريخية إلى الهوية المصرية للجزيرتين اللتين شكلتا مكاناً لأنشطة تجارية مصرية منذ القدم. وعلى هذه الأساس، واجهت الحكومة المصرية انتقاداتٍ واحتجاجاتٍ حادةً، وصفت بأنها أشبه بـ«بيع» للأراضي المصرية، لاسيما بعد أن جاء القرار أثناء زيارة العاهل السعودي لمصر في ذلك الوقت، والذي أعلن أثناء الزيارة عن مجموعة من «المساعدات والاستثمارات السعودية» في البلاد.
بين «القضاء» و«البرلمان»
أكد وزير الشؤون القانونية ومجلس النواب في الحكومة المصرية، مجدي العجاتي، في أول تصريح بعد الحكم القضائي النهائي ببطلان الاتفاقية: أن البرلمان «هو صاحب القول الفصل في اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وفقاً لنص المادة 151 من الدستور».
وقال «العجاتي»، في تصريحات له يوم الثلاثاء 17/كانون الثاني: إن مناقشة الاتفاقية التي أعلن بموجبها وجود جزيرتي تيران وصنافير ضمن المياه الإقليمية للسعودية، «حق أصيل للمجلس»، مضيفاً أن «توقيت مناقشة البرلمان للاتفاقية يرجع إلى النواب أنفسهم.. فهم أصحاب القرار في رفضها أو الموافقة عليها».
بدوره، أكد رئيس مجلس النواب المصري، «علي عبد العال»: أن «المجلس هو الوحيد المخول بتحديد إن كانت اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية دستورية أم لا، والحكم القضائي سيكون ورقةً ضمن الأوراق التي سينظر فيها المجلس»، وكان لافتاً قوله: إن «الاتفاقيات الدولية تمر بـ5 مراحل، هي: المفاوضات والتوقيع والمناقشة في مجلس النواب ثم تصديق رئيس الجمهورية والنشر في الجريدة الرسمية.. وطبقاً لنص الدستور، لا توجد اتفاقية دولية بشأن تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، لأنها لم تعرض على البرلمان ولم تمر بالمراحل الخمس حتى الآن».
عن أية معركة يجري الحديث؟
ليست المواجهة التي تجري في مصر اليوم محصورةً في «نزاع دستوري» ومعركة حقوقية بين برلمان البلاد وقضائها، ذلك أن قطاعات شعبية واسعة، داخل جهاز الدولة وخارجه، تقف اليوم ضد مبدأ التنازل عن سيادة الدولة على أجزاء من أراضيها «تحت ضغط الحاجة إلى استثمارات اقتصادية». في المقابل، يذهب بعض كبار المتنفذين والفاسدين في جهاز الدولة، إلى حدودٍ قصوى في التنازل عن السيادة المصرية، والرضوخ إلى إملاءات «المستثمرين الدوليين»، حتى وإن كان مقابل ذلك، رهن البلاد، ووضعها على صفيح ساخن، في ظل الضغوط الشديدة التي تواجهها، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، هذا عدا عن خطر الإرهاب المحدق في البلاد من شرقها وغربها.
بالتالي، فإن المعركة التي تجري في البلاد، تحمل في طياتها بذور الصراع العميق الجاري في المجتمع المصري، بين الفساد الكبير الممثل لمصالح رأس المال المحلي والخارجي، وبين القطاعات المدافعة عن سيادة البلاد، والرافضة للتنازل.
«صفقة خاسرة»؟
هنالك ما يلفت الانتباه في طريقة تعاطي السلطات المصرية مع حالة الاحتجاج الشعبي، على قرار تيران وصنافير. حيث إن المظاهرات والاحتجاجات العلنية المناهضة للقرار، لم يجر التعامل معها بالعنف الشديد. وتعاطي الإعلام المصري، حتى الرسمي منه، مع هذه الاحتجاجات لم يتم وفق منطق التجاهل، كما يجري عادة. ذلك ما يدفع العديد من المحللين إلى الاعتقاد بأنه حتى الأطراف التي كانت وراء صياغة «الاتفاق»، قد وصلت خلال الأشهر الأخيرة إلى الاستنتاج بأن «الصفقة» التي أبرمت مع الجانب السعودي هي خاسرة. وبالنظر إلى الأزمات الاقتصادية التي يعيشها الأخير، وتضاؤل قدرته على «تقديم المساعدات»، وضيق هوامش مناوراته الاستثمارية، هناك ما يعزز هذا الطرح القائل بأن «الاتفاق» خاضع لموجات المد والجزر الجارية في العلاقات المصرية السعودية.