الإبداع الروسي في "الحرب العالمية العظمى" في سوريا
قبل كل شيء علينا أن نقبل بأن روسيا هي التي تقود حلفا يتشكل من مجموعة من الدول والقوى التي تحارب الإرهاب في سوريا، وقد اعتمدت تسميته في مقالات سابقة ب"حلف القيم" لأن ما يجمع هذا الحلف ليس الدين الواحد أو المذهب الواحد أو الإيديولوجيا المشتركة، لقد صار واضحا أن جميع مكونات هذا التحالف توصلت إلى نتيجة واحدة تقول أن المعركة الحالية في سوريا هي حرب كونية تشارك فيها دول كثيرة أوروبية وإقليمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, ولكنها جميعا ابتعدت كثيرا عن قيم الشعوب المؤمنة بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة الدول التي ضمنها القانون الدولي الذي يمثل الالتزام به الدليل على الالتزام بهذه القيم من عدمه، والذي أصبح أيضا أحد ضحايا الحرب السورية، فأصبح "حلف القيم" الذي تقوده روسيا يواجه في الواقع حلفا معاديا يدعي أنه يحمل نفس القيم ولكنه يمارس ويفعل ما يشير إلى أنه لا يملك أي من هذه القيم. وعندما نتحدث عن الدول التي تشكل الحلف المعادي ل"حلف القيم" فنحن لا نقصد شعوب هذه الدول وإنما القيادات الحاكمة الني تمثل النخب في هذه الدول.
لقد استخدمت مصطلح الحرب العالمية العظمى "نقلا عن الكاتب والأديب ميخائيل عوض" لدقة هذا المصطلح في وصف الحرب الدائرة في سوريا، إنها حرب عالمية وعظمى في جميع المجالات والاتجاهات، وهي عالمية أكثر من الحربين العالميتين الأولى والثانية سواء من حيث مدتها أم من حيث الدول العظمى المشاركة فيها أم من حيث العتاد المستخدم ونوعيته أم من حيث نوعية المشاركين في الحرب وعددهم، وهي عظمى بكل المعايير لما سببته وستسببه مستقبلا للعالم برمته وما تركته من آثار لا يمكن تجاهلها على الصعيدين الإقليمي والدولي.
عندما نتحدث عن الابداع الروسي فنحن لا ننسى ذلك الابداع الهائل الذي أظهره الرئيس بشار الأسد وصبره الكبير لكي يستطيع العالم أن يرى الواقع على حقيقته في سوريا بأن الحكومة السورية تحارب إرهابيين ولا تحارب ثوارا. ولا ننسى الموقف الوفي والابداعي في رؤيته من خلال سرعة اتخاذ القرار وفهم حقيقة الحرب السورية من خلال الموقف الذي أعلنه السيد حسن نصر الله وأعلنته إيران بأن هؤلاء الارهابيين هم أخطر من اسرائيل نفسها بل هم أدواتها في المنطقة.
عندما نتحدث عن الابداع الروسي علينا أن نتذكر ما كان عليه الموقف الدولي وموقف الرأي العام العالمي من خلال سيطرة وسائل الاعلام الغربي، والذي يمكن اختصاره بأن أوروبا والولايات المتحدة وحلفاؤهما كانوا يمثلون القوى الداعمة للديمقراطية والحريات وحقوق الانسان ويناهضون الديكتاتوريات والقمع بمختلف أشكاله، وهم بالتالي كانوا يصورون الثورات الملونة بأنها نوع من الثورات التي تهدف للحصول على الحرية والتخلص من أنظمة استبدادية، طبعا قبل أن ينكشف أمر هذه الثورات الملونة ويتبين أنها مجرد أدوات للولايات المتحدة وحلفائها لتحقيق مصالح جيوسياسية، وأن من يعارضها يضع نفسه في الحلف المعادي للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.
بدأ الابداع الروسي في هذه الظروف الصعبة من خلال المشاركة السريعة نسبيا في الحرب ضد الارهاب في سوريا، روسيا تختلف عن حلفاء سوريا الاقليميين –الموضوعين أصلا وظلما على لائحة الدول الداعمة للإرهاب- الذين يعلمون أن الحرب السورية هي حرب على وجودهم وخيارهم وسيادتهم، فكانت المشاركة الروسية تمثل الرؤيا التي ترى المستقبل بشكل صحيح وتعرف أن الحرب السورية هي مرحلة من مراحل الحرب العالمية الكبيرة التي تحدث بهدف السيطرة الأمريكية الأحادية القطبية على العالم، لأن هذه السيطرة هي الطريق الوحيدة المتبقية للولايات المتحدة وحلفائها للحفاظ على تفوقهم وربما على وجودهم بشكله الحالي، ولعل هذه الرؤيا موضحة في القواعد والأسس الجيوسياسية للفيلسوف والمفكر الروسي الكسندر دوغين.
أما الابداع الروسي في إدارة الحرب السورية فهو اعتماد القيادة الروسية والدبلوماسية الروسية على سياسة الخطوة خطوة لتغيير المفاهيم التي كانت سائدة عند بدايات الحرب السورية وجر الأطراف الدولية والاقليمية، باعتماد مفهوم القيم المكرسة في القانون الدولي، إلى مربعات جديدة لتحويل أنظار العالم من خلال ذلك عن المفاهيم السابقة وزرع مفاهيم جديدة، وفي نفس الوقت استغلال الزمن لكشف التلاعب الأمريكي الغربي بمفهوم الارهاب، إضافة إلى إظهار الإرهابيين على حقيقتهم، وأنهم مجموعات متطرفة تحمل الفكر التكفيري ولا تقيم وزنا لكل القيم الانسانية وأبسط قواعد القانون الدولي.
يستطيع المراقب أن يلاحظ بسهولة مدى التغير الحاصل قي المصطلحات حول الأزمة السورية، فمن خلال التركيز على فصل "المعارضة المعتدلة" عن الارهابيين، وأنا واثق أن الروس يعرفون جيدا أنه لا وجود لمعارضة معتدلة تحمل السلاح وتقتل به الأبرياء، تبين للمجتمع الدولي عدم قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على التأثير على هذه "المعارضة المعتدلة"، أو عدم رغبتها بفصلها عن جبهة النصرة لتنفيذ مشروعها في سوريا والمنطقة، وفي كل الأحوال بدأت المفاهيم تتغير والنظرة لقيادة الولايات المتحدة للحرب على الارهاب بدأت أيضا تتغير، وأصبح واضحا أن روسيا هي التي تقود فعليا المعركة العالمية ضد الارهاب وهي التي انتصرت مع حلفائها في أكبر المعارك وأعقدها في التاريخ الحديث على الارهاب في حلب، وأن أحد نتائج هذه المعركة في حلب هي فصل ما يسمى "الفصائل المعتدلة" عن الارهاب، فالواقع الآن في سوريا يوضح أن المناطق الكبيرة غير المحررة في سوريا هي بيد المجموعات الارهابية فتدمر والرقة مع داعش وإدلب مع النصرة، ولا يستطيع أحد أن يدعي الدفاع عن المعارضة المعتدلة أو عن الثوار عندما يقوم الجيش السوري وحلفاؤه بإنهاء الوجود الارهابي في تلك المناطق.
من خلال الصبر والابداع الروسي في سياسة الخطوة خطوة، طبعا مع صبر الحلفاء على الأرض وبعد بذل الكثير من الدماء، انتقلنا من مصطلح الحكومة الانتقالية في جينيف الأول إلى احتيار الشعب السوري لقيادته في قرار مجلس الأمن 2254 ، والآن كما نرى في المؤتمر الأخير لوزراء الخارجية والدفاع لكل من روسيا وإيران وتركيا انتقلنا إلى مفهوم جديد لا يحفظ وحدة الأراضي السورية تحت قيادة الأسد وحسب بل يشكل بداية تحالف لا مفر منه لمحاربة داعش والنصرة والتي كانت حتى انتهاء معركة حلب مدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين جميعا.
القادم من الأيام سيكون مليئا بالمفاجآت السارة لروسيا ولحلف المقاومة الذي رسم من سوريا خريطة جديدة للعالم كله، فروسيا التي قادت الحرب العالمية على الارهاب وضحت من أجل القيم التي تحملها، ستجد صدى لدى شعوب العالم يؤازر موقفها بل يسعى للتقرب منها، وها نحن نرى تأثير الشعوب الأوروبية التي بدأت تعرف الوضع السيء الذي أخذتها إليه حكوماتها فبدأت رياح التغيير من الولايات المتحدة وفرنسا وسنرى في دول أوروبية أخرى نهجا مشابها، سيكون سببه الرئيسي هو التغير الذي سببته الحرب السورية.
إن النصر في معركة حلب يعني النصر في الحرب العالمية العظمى في سوريا وهذا النصر الكبير سيكون له آثار كبيرة على الوضع الجيوسياسي الدولي وستكون روسيا حتما اللاعب الدولي الأكبر الذي يرسم خطوط هذا الوضع الجديد. وستكون سوريا المنتصرة بقيادة الرئيس بشار الأسد لاعبا إقليميا يمارس دوره الذي يستحقه من خلال التاريخ ومن خلال عظمة التضحيات التي قدمها الشعب السوري ومن خلال بركة دماء الشهداء.