أوروبا وثلاثاء تقريرالمصير.. الحرب مع روسيا أم السلام
ينتظر الأوروبيون بقلق لا يخفونه، نتائج الإنتخابات الأمريكية يوم الثلاثاء القادم، ومن الواضح أن الحكومات الأوروبية تتمنى فوز هيلاري كلينتون، حليفها المفضل، وأن تنشق الأرض وتبتلع دونالد ترامب، مصدر الرعب لحلفاء أمريكا الأوروبيين، المستعد لإحلال السلام مع روسيا "على حساب" القارة العجوز.
من أهم القضايا التي ستتأثر بنتائج الإنتخابات الرئاسية على الجانب الآخر من المحيط، الحماية الأمنية والعسكرية للقارة، وآفاق الصراع مع روسيا، إذ يعتقد قادة الإتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الناتو أن المواجهة الأوروبية لروسيا ستكون أكثر أمنا مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية هيلاري كلينتون. غير أن الأوروبيين لا يجرؤون على الوقوع في فخ التفاؤل مرة أخرى، بعد ان لُدغوا من جحر البريكسيت، حين ظنوا أن خروج المملكة المتحدة من الإتحاد القاري أمر مستحيل، وما الإستفتاء إلا مسرحية سياسية لإرضاء المشككين، وحملهم على الاعتراف بعبثية جهودهم.
بعد أن غدا كابوس الإنسحاب البريطاني حقيقة، لم يعد زعماء الإتحاد الأوروبي يستبعدون أي كوابيس جديدة، وخاصة سيناريو حرب عالمية ثالثة. وما يزيد من التشاؤوم والرعب الأوروبي، أن جنرالات وقادة "حلف شمال الأطلسي"، لا يتوانون على التذكير بقرب وقوع الحرب.
سيناريو الحرب الوشيكة في العام 2017 سطّره الجنرال ريتشارد شيرف، في روايةٍ تحت عنوان "الحرب مع روسيا: تحذيرٌ عاجل من القيادة العسكرية العليا"، نشر في مايو/أيار الماضي. وبرأي الجنرال، ستجري الأمور كالتالي: تقوم روسيا بهجوم خاطف على لاتفيا، إحدى دول البلطيق الثلاث المتاخمة لحدودها، فيستنفر "الحلف الأطلسي" للدفاع عن أحد أعضائه، لتخرج موسكو بتهديدٍ حاسم حول استخدام أسلحتها النووية في حال تعرّضت لأي ضربة عسكرية، ثم ينقلب الأمر حرباً تشعل زوايا العالم.
ورغم عدم منطقية هذا السيناريو، وانعدام أي أهمية أو وزن للاتفيا، المفترض أن تهاجمها روسيا ليس لشيء، سوى لإشعال حرب عالمية وفق تخريفات الجنرال البريطاني المتقاعد، يتلقف الأوروبيون في ذروة هلعهم الذي أشعله منظرو حملة كلينتون، هذا الاحتمال ويزيدون من وزنه.
ومن الجدير بالملاحظة، أن الجنرال شيرف خدم في صفوف "الأطلسي" من 2011 إلى 2014، تحت قيادة ضابطين أميركيين، هما في الصفوف الأمامية للمطالبين بوقف روسيا الصاعدة عند حدّها. إذ كان نائباً للقائد السابق لقوات "الناتو" في أوروبا الجنرال فيليب بريدلوف، وهو من أكثر الشخصيات معاداة لروسيا، كما نائباً لسلفه الأدميرال جيمس سترافيديس.
ولم تكن مصادفةً أن يكتب ستافريديس الذي كان من بين المرشحين لمنصب نائب الرئيس ضمن حملة كلينتون، مقدمةَ كتاب "الحرب مع روسيا". وهذا الكتاب يبني أحداثه انطلاقاً من "واقع" أن كلينتون ستكون الرئيسة داخل فرضية الحرب العالمية الثالثة. وفي معرض "شطحاته" الأدبية، كتب ستافريديس أنه "من بين كل التحدّيات الجيوسياسية التي نواجهها، الأكثر خطورة هو انبعاث روسيا تحت قيادة (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
ومن المثير للحيرة والدهشة، أن يتحدّث ديبلوماسيون أوروبيون عن الهواجس تجاه روسيا، وكأنهم يستلهمون تصريحاتهم من كتاب الحرب ذاك.
وبرأي مسؤول ديبلوماسي أوروبي، المخاوف يثيرها بالفعل مسؤولون في دول البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وأستونيا)، فبرأي هذه الدول "روسيا ستغزو البلطيق لتختبر ردة فعل الناتو"، فور عودة بوتين إلى الكرملين بعد انتخابات 2018.
كما يعتبر ساسة البلطيق هؤلاء، أن "مراكمة" صواريخ "اسكندر" الروسية، الحاملة للأسلحة النووية، في كاليننغراد بين دول البلطيق، والمناورات المستمرة هناك، تهدف للتدرب على هذا السيناريو، غير أن عباقرة التحليل والتنبؤ هؤلاء، ينسون أو يتناسون أن نشر روسيا لصواريخها، يأتي ردا على توسعات حلفهم "الأطلسي" على الحدود الغربية لروسيا، والمحاولات الوقحة لإغلاق روسيا بشبكة صاروخية، تخنق قدراتها الدفاعية.
ويرجع خبراء سياسيون مسرحية الهلع التي يستعرضها قادة البلطيق، إلى شعورهم بالنبذ وبقلة الأهمية في صفوف الإتحاد الأوروبي، وبابتداعهم سيناريوهات الرعب هذه، يحاولون جذب انتباه الأم بروكسيل، والرفع من قيمتهم في أعين الأخوة الغربيين الكبار في الأسرة الأوروبية.
ومن الغريب أن قادة أوروبا ومسؤولي الناتو ينقادون بسهولة وراء هذه الشعوذات، وهذا الأمر بالتأكيد يزيد الطين بلة، ويحول الخرافات إلى توقعات محتملة وبشدة، وهذا الأمر لاحظه وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي لفت الإنتباه إلى الإطار الدولي المحموم حالياً، بتنافس غير مسبوق في حدته وعواقبه. واعتبر أن المخاطر تفوق ما ساد خلال مرحلة الحرب الباردة.
ومن أحد العوامل التي تدفع قادة أوروبا، لمعاداة بوتين واندفاعهم لتصويره كـ"عدو الأمة الأوروبية"، حالة الضعف التي ظهر بها هؤلاء القادة، على خلفية تصرفات وسياسات بوتين في السنوات الأخيرة، ومن أكثر من تضرر، حكومة فرنسا، التي لحقت بالركب البلطيقي، واندفعت لتهويل "الخطر الروسي"، والتأكيد على أن نطاقه لن يقتصر على القارة الأوروبية.
جالساً إلى جانب رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، أول من تفوه حديثاً بفكرة "الجيش الأوروبي الموحد"، قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس إن المضي لتقوية الدفاع الأوروبي المشترك أمرٌ محتّم. متوجهاً لمن يفضلون الحلف الأطلسي على تقوية الدفاع الأوروبي، واعتبر فالس أن الدول المتاخمة لروسيا لا تملك رفاهية المناظرة: "بالنسبة للدول التي تتحدث عن (حصر) الدفاع داخل الناتو، أو من قبل الولايات المتحدة. أقول بكلمات أخرى، هل ستحمي أميركا هذه الدول والاتحاد الأوروبي؟ هذا السؤال المطروح، وقناعتي أن الإجابة هي لا، لن يفعلوا"، ليُشدد أن "هذا تغير استراتيجي جوهري، سيؤثر للعقود المقبلة".
وتتعاظم هذه المخاوف الأوروبية، على خلفية الانتخابات الرئاسية الأميركية، والتي بات دونالد ترامب على وشك الفوز فيها، في ظل ظهور فضائح هيلاري كلينتون واحدة تلو الأخرى قبيل أيام من الإقتراع.
ترامب أكبر شخصية أميركية تثير شكوكاً علنية حول التزام أميركا بالدفاع عن أوروبا، أي التزام الحلف الأطلسي بالمادة الخامسة من ميثاقه، المتعلقة بالدفاع المشترك لدوله الثماني والعشرين، بما فيها 22 دولة من التكتل الأوروبي. إذ أكد أنه في حال انتخابه، لن تواصل بلاده دفع فواتير تأمين أوروبا عسكرياً، كما وجه انتقاداتٍ لحلف "الناتو"، وتخلف دوله الأوروبية عن تحمل قسطها المالي والدفاعي.
من الجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة تتحمل أكثر 70 في المئة من موازنة "الحلف الأطلسي"، في حين أن بضع دول أوروبية تبلغ عتبة إنفاق اثنين في المئة من دخلها على التسلّح، نزولاً عند العتبة المعيارية في "الناتو". مؤخراً فقط، وبعد انتقاداتٍ لم تتوقف، بدأت الدول الأوروبية تُفرمل الاقتطاعات من الموازنة العسكرية، مع وعودٍ بمحاولة بلوغ العتبة الأطلسية تلك.
لذلك لا يتردد مسؤولون أوروبيون في التعبير عن تأييدهم لكلينتون، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي غازلتها بالقول: "أنا معجبة بتفكيرها الإستراتيجي وبالتزامها القوي بالشراكة عبر الأطلسي". كما لا يتوانى زعماء أوروبيون آخرون عن دعمها عبر انتقاد خصمها.
ورغم بعض الأصوات الأوروبية المشككة بنزاهة كلينتون واستراتيجياتها، ورغم أصوات المحذرين من أنها هي من سيجر أوروبا إلى حرب مع روسيا، قد تترك القارة العجوز رمادا. إلا أن الإجماع الأوروبي التف على هيلاري كلينتون، لظنهم بأنها ستكون أفضل حتماً لأوروبا، و"لن تترك بوتين ينتزع مكانة جديدة لروسيا على حساب أوروبا".
ورغم أن قيادة أوروبا الحالية تفضل كلينتون، إلا أن مآلات الشعبوية على ضفتي الأطلسي واضحة للجميع في أوروبا. والواقع، أن أوروبا لديها نسخها الخاصة من ترامب، وهذه النسح تزداد شعبية في صفوف المواطنين، فرنسا لديها زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" مارين لوبين، وهولندا لديها غيرت فيلدرز، وكلا البلدين تنتظرهما انتخابات عامة في الربيع المقبل.
ويعلق سايمون رايك، الكاتب والأستاذ للشؤون الدولية في جامعة "روتجرز" الأميركية، قائلا: "السؤال الغالب في أوروبا: كيف يمكن أن ينتخب الأميركيون دونالد ترامب؟ سؤالٌ وجيه، لكن الأميركيين يسألون: كيف أمكن لبريطانيا اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي؟".
الأوروبيون يتذكرون البريكسيت، فيما يراقبون بضع نقاط مئوية تعطي أرجحية طفيفة لكلينتون. بضع نقاط مشابهة جعلتهم في 23 يونيو/حزيران الماضي ينامون على طمأنة حقل الاستطلاعات، ليستيقظوا على بيدر تصويت يقرر خروج بريطانيا من العائلة الأوروبية. خيار جعل أوروبا محاصرة بمشاكلها الداخلية، فيما كان ترامب، بالمناسبة، ليس فقط من الداعمين له بل أيضا في صدارة المهنئين به.
الأهمية الكبيرة لانتخابات أميركا بالنسبة لأوروبا لا جدل فيها. اتفاقية التجارة بين ضفتي الأطلسي، لتكوين أكبر منطقة حرة في العالم تشمل نصف تجارة العالم، وقد تقضي على سيادة السوق الأوروبية وعلى معامل الإنتاج، سيكون لها حظوظ أكبر مع الرئيسة كلينتون، رغم العقبات على الجانبين، في حين يعد ترامب بإجهاضها.
ترامب متهم بأكثر من التسامح مع بوتين، وبالتشكيك بجدوى الدفاع المشترك الأطلسي، والتهمة الكبرى، إحلال السلام مع روسيا، في حين تفاخر كلينتون بأنها كانت من أوائل المتوعدين، علناً، بمنع بوتين من "إعادة بناء" الاتحاد السوفياتي داخل مشاريع أخرى.
أيهما الأفضل لأوروبا، احتواء روسيا بالحوار أم بتصعيد الردع؟ عن روايته "الحرب مع روسيا"، قال الجنرال شيرف إنها تحذير متقدم يدعو لاحتواء بوتين بلغة القوة، مع العلم أن سيناريو الحرب، وفق كتابه، يلزمه أن تلعب كلينتون دور الرئيس الأميركي.