أتدخل مصر عصر عسكرة الاقتصاد؟

06.09.2016

عسكرة الاقتصاد ملف مسكوت عليه في مصر. ليتنا نفتحه قبل فوات الأوان، لنزيل ما أصابه من غموض والتباس ومحاذير.

(أ)
انطلاقاً من متابعة القوات المسلحة لكل ما يشغل الرأي العام المصري، ومن منطلق حرصها على توضيح الأمور وإزالة اللغط لدى المواطنين فيما يتعلق بقضية أزمة نقص لبن الأطفال لزم التنويه على الآتي:

(1) لاحظت القوات المسلحة قيام الشركات المختصة باستيراد عبوات لبن الأطفال باحتكار العبوات للمغالاة في سعرها.
(2) تقوم القوات المسلحة انطلاقا من دورها في خدمة المجتمع المدني، بالتنسيق مع وزارة الصحة بالتعاقد على عبوات الألبان نفسها، ليصل سعر العبوة للمواطن المصري إلى 30 جنيها بدلاً من 60 جنيهاً، أي بنسبة تخفيض تصل إلى 50 في المئة.

ما سبق جزء من بيان أصدره يوم السبت 3/9 المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية العميد محمد سمير، أوضح فيه الموقف إزاء الالتباس الذي جرى في أزمة ألبان الأطفال. تلك التي دفعت بعض الأمهات إلى التظاهر وقطع الطريق في بعض المدن تعبيراً عن الاحتجاج والغضب بسبب عدم توافر السلعة. وفى نص البيان إشارات إلى دور القوات المسلحة في «ضرب الاحتكار الجشع» انطلاقاً من «شعورها باحتياجات المواطن البسيط أسوة بما تقوم به من توفير لجميع السلع الأساسية من لحوم ودواجن وغير ذلك في منافذ البيع بجميع المحافظات».. «وصولا إلى بذل قصارى الجهد لتخفيف العبء على المواطن البسيط».

(ب)
بيان المتحدث العسكري عن الدور الذى تقوم به القوات المسلحة ليس فريدا في بابه، لكنه مجرد صفحة في سجل المرحلة، والدور الذى تحدث عنه العميد سمير، نوه إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في حواره مع رؤساء تحرير الصحف القومية (في 23/7/2016) حين قال إن دور القوات المسلحة هو أداء عمل شركات المقاولات الوطنية، بمعنى أنها ليست شركة لكنها عقل يدير العمل ويشرف على التنفيذ: في هذا الصدد أشار الرئيس إلى أن 2000 شركة وطنية تعمل في المشروعات التي تشرف عليها القوات المسلحة، منوها بالدور الذى تقوم به في ضبط الأسعار من خلال استيراد اللحوم الحية والمجمدة والدواجن بغير وسطاء، إلى جانب دورها في توفير الزيوت والسكر والألبان والأرز.

موقع «مدى مصر» بث في الثالث من أيلول الحالي تقريراً إضافياً كتبه الزميل محمد حمامة عن القطاعات الاقتصادية التي دخلتها القوات المسلحة خلال الاثني عشر شهراً الأخيرة فقط. وهو تقرير حافل بالتفاصيل التي تسلط ضوءاً أكبر على القضية التي نحن بصددها، وليس في مقدوري عرض تلك التفاصيل لسبب يتعلق بالمساحة المتاحة، إلا أني أقرر أن مضمونه كان مفاجئًا لي على الأقل. ذلك أنه جمع المعلومات المتناثرة التي يجري نشرها في بعض الصحف المتخصصة والمواقع التي تخص الجهات الرسمية في الدولة. ومن التفاصيل المنشورة نرى كيف توغلت القوات المسلحة من خلال أذرعها المختلفة في مجالات التموين والأوقاف وتصنيع عدادات المياه ومكننة بطاقات الحيازة وإنشاء المحال التجارية وتصنيع أدوية الأورام وتوريد صمامات ودعامات القلب وشق الطرق وإدارتها والإعلان فيها. إضافة إلى الدخول في مجالات إنتاج الطاقة الشمسية والاستزراع السمكي على مساحات قدرت بألوف الأفدنة نقلت من ملكية الدولة إلى ملكية القوات المسلحة. وأخيرا إنتاج أجهزة تكييف الهواء وترميم معهد القلب، وصولاً إلى تطوير قصر الثقافة في كل من المحلة الكبرى وطنطا إلى جانب إنشاء المدراس الدولية التي تطبق النموذجين البريطاني والأميركي.

في زوايا وأرجاء تلك المساحة الهائلة تتواجد القوات المسلحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأكرر أننا نتحدث عن صورة عام واحد من الأعوام الثلاثة التي أعقبت قيام نظام الثالث من تموز 2013.

إلى جانب الانتشار في مجالات الإنتاج والخدمات، فإن أنشطة القوات المسلحة تمتعت بوضع خاص تمثل في الإعفاء من الضرائب العقارية. ذلك أن القائد العام للقوات المسلحة أصدر قراراً بإعفاء بعض مؤسسات القوات المسلحة من تلك الضرائب، وبحسب القرار الذي نشرته الوقائع المصرية في 3 حزيران 2015. فإن قائمة الإعفاء شملت 9 قرى سياحية و52 ناديا إضافة إلى 29 فندقاً في القاهرة والإسكندرية. كما ضمت 8 دور للسينما والمسرح، إضافة لمجموعة شركة «دهب» للسياحة و4 معاهد للغات ومجمعات خدمية وعشرات المصايف والعقارات والفيلات والمحال الكبرى (سوبر ماركت) والحدائق.

(ج)
ما حكاية قيام الجيش بأنشطة خارج مهمته في حماية أمن البلاد (نص المادة 200 من الدستور) وتوغله في أنشطة اقتصادية آخرها توفير لبن الأطفال الذى هو من مهمة إحدى شركات القطاع العام؟ وما حكاية إقامته لمدارس مدنية بمصروفات؟ وهل التعليم المدني وتطويره من مهام الجيش؟ وهل تخضع هذه المدارس مالياً وإدارياً لرقابة وزارة التعليم، أم أن هذه الوزارة الأخيرة بلا لزوم؟ وما حكاية ما نسب إلى الرئيس من أن تسليح الجيش يأتي من خارج ميزانية الدولة؟ من أي ميزانية يتم التسليح إذاً، وهل للجيش موارد منفصلة عن ميزانية الدولة؟ ما حكاية قيام الجيش بمشروعات الطرق وإدارته لها وتقريره لرسوم المرور فيها وملكيته للأراضي المحيطة بها؟ ما حكاية إعفاء العقارات التي يملكها الجيش من الضرائب العقارية بقرار من وزير الدفاع، وهل يملك سيادته إصدار مثل هذا القرار؟ هل يدفع الجيش ضرائب للدولة عن أنشطته الاقتصادية والتجارية؟ وهل يخضع لرقابة أجهزة الرقابة والمحاسبة الدستورية؟ وما حكاية تصريح مساعد وزير الدفاع في مجلس النواب بأن الجيش ينفق على البلد منذ قامت الثورة؟ هل الجيش شيء والبلد شيء آخر، وأليست ميزانية الجيش من ميزانية البلد؟

حزمة الأسئلة السابقة ليست لي، ولا هي صادرة عن طرف معارض، لكن صاحبها يقف في قلب معسكر الموالاة ضمن «ائتلاف 30 يونيو»، فقد سجلها أستاذ القانون المرموق د. نور فرحات على صفحته يوم السبت الماضي، وفضلاً عن كونه أستاذا للقانون فإنه أحد قياديي «الحزب الديموقراطي الاجتماعي»، وكان مرشحا لقيادة الحزب، وقد ذكرت ذلك الإيضاح حتى لا يسارع أحد المتشنجين إلى إطلاق سلسلة الاتهامات المعروفة لصاحب أي رأي مخالف، بدءاً من الإساءة إلى القوات المسلحة وانتهاء بدعوى إسقاط الدولة ومروراً بالانضمام إلى الطابور الخامس والانخراط في المؤامرة العالمية على النظام المصري التي تستهدف منع السيسي من الترشح لولاية ثانية.

ليس ما ذكره الرجل رأياً شاذاً أو استثنائياً، ولكنه غيض من فيض يشهر علامات الاستفهام والتعجب إزاء ما يجرى، خصوصاً ما يتصل منه بمكانة القوات المسلحة ودورها في حماية الوطن والحفاظ على حدوده وكرامته. ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي يجد أن أسئلة فرحات هي من أكثر الملاحظات موضوعية واحتشاماً وغيرة على الجيش والوطن.

سمعت تسجيلا للأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية د. حازم حسني عبّر فيه عن القلق من المسار ذاته، ومما قاله إنه يقطع الطريق أمام الاستثمار لأن المستثمر لن يجذبه شيء في بلد تسيطر فيه القوات المسلحة على الاقتصاد، ثم إن هذا التوجه يقطع الطريق أمام القطاع الخاص ويؤدى إلى ضموره، ومما قاله لي أستاذ الاقتصاد وخبير التخطيط د. إبراهيم العيسوي أن مصر بذلك دخلت في طور عسكرة الاقتصاد بعد عسكرة السياسة...إلخ.

(د)
هل يحمي الجيش الدولة أم يحمي النظام؟ وهل هو جيش الدولة أم أنها دولة الجيش؟ ليس السؤال نظرياً لكنه مستخلص من الخبرة العملية. فالجيش يحمي الدولة في النظم الديموقراطية، بمعنى حماية حدودها وكيانها. أما في النظم غير الديموقراطية فإن الجيش الذي يسخر لخدمة النظام وليس المجتمع. والحاصل في سوريا الآن يشهد بذلك، إذ يفتك الجيش وزبانيته بالمجتمع حماية لنظام الأسد. وفي مجال العلوم السياسية يستشهد بالنموذجين التركي والجزائري. إذا اعتبر الجيش التركي نفسه منقذ الدولة الذي حال دون سقوطها إبان الحرب العالمية الأولى. وبسبب دوره فإنه أصبح مسؤولاً عن الدفاع عن الجمهورية والنظام الكمالي، وانطلاقا من ذلك فإنه قام بثلاثة انقلابات ونصف بدعوى حماية النظام الجمهوري. وهو ما فعله جيش التحرير الجزائري الذي خلص البلاد من الاحتلال الفرنسي حتى اعتبر نفسه صانع الدولة وحارسها. ومنذ التحرير في الستينيات فإن دارسي العلوم السياسية يتداولون فيما بينهم أن لكل دولة جيشاً لكن الجيش له دولة في الجزائر. كان ولا يزال حتى الآن، بدرجة أو بأخرى.

السؤال صار مثاراً في مصر منذ العام 2013، ولا تستطيع أن تصنف وضعها الراهن ضمن القائمة التي تضم تركيا والجزائر وسوريا، لكن ذلك لا يعني أن الأمر صار ملتبساً ومحيراً لكثيرين، بحيث غدا بحاجة إلى مناقشة تضبط الحدود وتزيل مظان الالتباس. إذ برغم أن بعض تدخلات القوات المسلحة يمكن أن تكون مبررة ومفهومة، فإن بعضها الآخر ليس كذلك. فضلاً عن أن أحداً لا يعلم ما إذا كان الانتشار الحاصل للقوات المسلحة في مجالي الخدمات والإنتاج مؤقت أم أنه مستمر. وإذا كان مؤقتا فلأي أجل؟ وإذا كان مستمرًا فهل يعني ذلك أن القوات المسلحة صارت بديلاً عن القطاع العام؟ وكيف يمكن أن توفق بين مسؤولياتها العارضة في الداخل ومسؤولياتها الأصيلة والكبيرة في الدفاع عن الوطن والأمة والتصدي لأعدائها المتربصين، وإن ارتدوا ثياب «الحملان» الآن؟

أدري أن الموضوع دقيق وحساس، وربما كان ذلك سبباً لعزوف البعض عن الحديث فيه. لكن ذلك الحديث لابد أن يفتح يوماً ما، وليتنا نبادر إلى ذلك طائعين، بدلاً من أن نتطرق إليه مضطرين ومكرهين. وفي ظل الأحوال فليت المنافقين المتشنجين يمتنعون ويخدمون الوطن والمستقبل بسكوتهم الذي هو من ذهب في هذه الحالة.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"