مفاوضات أنقرة ودمشق السرية.. تحول الأعداء إلى حلفاء
شهدت الأسابيع الأخيرة تحولا في العلاقات التركية تجاه اثنين من خصومها: إسرائيل وروسيا؛ إذ عادت العلاقات بين تركيا وإسرائيل بعد ست سنوات من الانقطاع، بينما أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أسفه لروسيا على حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، والتي أدت إلى توتر العلاقات بين البلدين.
وهنا يبرز سؤال مهم في ظل تلك التغيرات في السياسة الخارجية التركية، وهو: هل ستمتد تلك التغيرات لتصل إلى العدو الأكبر للنظام التركي وهو الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه؟
يعود تاريخ انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين سوريا وتركيا إلى سبتمبر/أيلول 2011. ومنذ ذلك الحين، دعمت تركيا المعارضة السورية التي تهدف لإسقاط نظام الأسد، كما فتحت حدودها لانتقال الجماعات المسلحة إلى سوريا.
دور "حزب الوطن التركي" الخفي
يرى حزب الوطن التركي – وهو حزب يساري قومي صغير – أن تركيا لا تملك سوى تغيير موقفها من النظام السوري في ظل أزمة اللاجئين الكبرى والمتزايدة، والحملة العسكرية الروسية المكثفة في سوريا، وقوة الميليشيات الكردية في الشمال بالقرب من الحدود التركية، كما يزعم قادة الحزب أنهم بالفعل يقومون بتمرير الرسائل بين الحكومتين التركية والسورية.
ويرأس الحزب، السياسي الاشتراكي البارز دوجو برينجيك، ونائبه الجنرال إسماعيل حقي بكين، قائد المخابرات العسكرية التركية الأسبق. وفي تصريح لبرينجيك وبكين لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، ذكرا أنهما أجريا مقابلات مع أعضاء من حكومات روسيا والصين وإيران وسوريا خلال العام الماضي نقلوا خلالها رسائل من مسؤولين رفيعي المستوى في الخارجية التركية والجيش التركي.
وعلى الرغم من اختلاف اتجاهات برينجيك وبكين، إلا أن العلاقة بينهما توطدت داخل أسوار السجن، إذ كان كلاهما قد اعتُقِل عام 2011 في قضية "إيرجينيكون" بتهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة المنتخبة قبل أن يحصلا على حكم بالبراءة في تلك القضية لاحقًا، ويتمسك كلاهما بشدة بالعلمانية والقومية التركية، ومناهضتهما للإمبريالية، ما يثير قلقهم دائمًا من تأثير النفوذ الأمريكي والغربي على السياسة التركية.
كان أول لقاء بين الرجلين والأسد في دمشق، وتحديدًا في فبراير/شباط 2015، وأكد برينجيك أن كلا الجانبين اتفقا على أنه يجب على تركيا وسوريا معًا محاربة الإرهابيين والانفصاليين.
كما بقف قادة متقاعدين من الجيش في الحزب إلى جانب إسماعيل بكين، وهم قد زاروا دمشق في ثلاث مناسبات أخرى في يناير وأبريل ومايو من العام الجاري، وأكد بكين أنهم التقوا خلال تلك الزيارات بشخصيات سورية بارزة على الصعيد الدبلوماسي والأمني والسياسي، ومن بين تلك الشخصيات رئيس فرع المخابرات العامة في سوريا اللواء محمد ديب زيتون، واللواء علي مملوك مدير مكتب الأمن القومي في سوريا، ووزير الخارجية وليد المعلم، بالإضافة إلى نائب وزير الخارجية فيصل مقداد، وعلي الله الأحمر، الأمين العام المساعد لحزب البعث الاشتراكي السوري.
وبحسب إسماعيل بكين، كان موضوع تلك اللقاءات هو كيفية تمهيد الأجواء لاستعادة العلاقات الدبلوماسية والتعاون السياسي بين تركيا وسوريا، كما أكد بكين أن لقاءه مع مملوك، مدير مكتب الأمن القومي في سوريا؛ جاء بتنسيق مباشر مع الرئيس السوري بشار الأسد. وذكر بكين أنه لمس تغيرًا تدريجيًا في موقف المسؤولين الأتراك خلال الأشهر الـ18 الماضية، ويقول "في مطلع عام 2015 لم تكن تركيا مستعدة لتغيير موقفها، إلا أنه بعد زيارتنا الأخيرة لاحظت أن مسؤولي الخارجية أصبحوا أكثر انفتاحًا ومرونة تجاه القضية".
من جانبه، أكد مسؤول رسمي بالخارجية التركية أنه التقى بالفعل مع بكين، إلا أنه نفى بشدة أن تركيا تتفاوض مع نظام الأسد، وقال "لقد استمعنا لبكين كما نستمع لملايين آخرين، حتى سائقي الحافلات على مناطق الصراع الحدودية الذين يقولون أن لديهم معلومات حساسة".
العامل الكردي واحتمالات التغير في موقف أنقرة
في المقابل، يرى برينجيك وبكين أن سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على مناطق واسعة في الشمال بالقرب من الحدود مع تركيا قد يقنع القيادة التركية بالتفاوض مع نظام الأسد، إذ إن الحزب على علاقة وثيقة بحزب العمال الكردستاني والذي خاض صراعًا طويلًا مع الدولة التركية، في حين يُصنَّف الحزب منظمةً إرهابية من جانب الولايات المتحدة وتركيا.
وتنظر كل من تركيا ونظام الأسد إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بوصفه عدوًا مشتركًا، إذ يقول برينجيك أن بشار أخبرهم بأنه يرى أن ذلك الحزب خائن، وأنه عبارة عن مجموعة انفصالية، وأنه لن يتسامح معهم، وأنه على ثقة أن حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني هم بيادق الولايات المتحدة في تلك المنطقة.
وأضاف برينجيك "تحارب تركيا حزب العمال في الداخل، وهذا لم يعد كافيًا، إذ أصبح واجبًا عليها قطع الدعم الأجنبي عن حزب الاتحاد الديمقراطي وأن يقاتلوهم ليتمكنوا من هزيمة حزب العمال بالتبعية. ولتتمكن تركيا من قطع تلك الإمدادات الأجنبية، فعليها أن تتعاون مع سوريا، والعراق، وإيران، وروسيا".
وهتاك توافق لدى بعض مسؤولي الحكومة التركية على الأقل مع هذه الفكرة، وهم يرون اتفاق الإدارة التركية والسورية على معاداة استقلال الأكراد أمرًا يمكن البناء عليه. وعلى الجانب الآخر، يرفض عدد من المسؤولين الرسميين في تركيا تلك الفكرة واحتمالية حدوث تغير محتمل للموقف التركي تجاه الأسد.
الجيش التركي
يؤكد برينجيك وبكين أن مفاوضاتهم مع الجانب السوري ليست التدخل الدبلوماسي الوحيد لهم، وأنهم قد شاركوا مسبقًا في تحقيق التقارب بين روسيا وتركيا، وأنهم كُلِفوا بذلك من جانب رجال أعمال مقربين من أردوغان، وأنهم عملوا بالفعل على الأمر بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية من خلال زيارات لروسيا التقوا خلالها بأشخاص بارزين مقربين من الكرملين، في حين أكدت مصادر رئاسية أنه لا علم لها بتلك الزيارات.
وبسؤاله عما إذا كان حزبه يعمل وسيطًا بين تركيا وسوريا، رفض الجنرال إسماعيل حقي بكين استخدام كلمة وسيط في توصيف دور الحزب قائلًا "نحن لا نتلقى التعليمات من أحد. هناك الكثيرون في حزب العدالة والتنمية وممن هم حول الرئيس يرون أن العداء مع سوريا وروسيا غير مُجدٍ، وهذا هو السبب الحقيقي لتشكيل الحكومة الجديدة".
التحول الأخير في موقف السياسة الخارجية التركية تجاه روسيا وإسرائيل يتزامن بالتأكيد مع تحول سياسي في أنقرة، فبعد الخلاف طويل الأمد بين أردوغان ورئيس الوزراء داود أوغلو، استقال أوغلو في 4 مايو/أيار الماضي، ليستبدل به بن علي يلدرم، والذي أشار أنه لن يمضِي قدمًا في سياسات سلفه، وأنه سيسعى لتحسين العلاقات مع دول الجوار، وأن تركيا ليست بحاجة للقتال في سوريا أو العراق أو مصر، بل هي في حاجة لزيادة التعاون معهم.
توازن القوى بين اللاعبين الأمنيين المختلفين في تركيا قد تغير أيضًا، إذ أشار تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية إلى أن الجيش التركي بدأ يستعيد نفوذه في السياسة التركية مع تصاعد أزمة الأكراد وتزايد الأخطار الإقليمية. في المقابل، أكد مسؤول تركي أن العلاقة بين الجيش والحكومة حاليًا بأحسن حال، وأن التنسيق بينهما قد ازداد خلال السنوات الأخيرة.
لم يكن موقف الجيش التركي متوافقًا بشكل تام مع السياسة الخارجية للحكومة منذ بداية الصراع السوري، إذ أراد النظام تكوين منطقة فاصلة عازلة شمال سوريا في 2011، إلا أن الجيش عارض هذا القرار. يقول برينجيك "منذ البداية، أراد الجيش الحفاظ على العلاقات والتعاون مع سوريا والعراق وإيران وروسيا".
يقول الكاتب التركي عبد القادر سيلفي أن تركيا تتحول من عصر المثالية الذي قاده داود أوغلو، إلى عصر الواقعية، والذي سيشهد استمرار الانتقاد التركي للنظام السوري، ولكن مع تخفيف الجهود للإطاحة به، والتعاون مع الجهات التي من شأنها منع إقامة دولة كردية شمال سوريا، مؤكدا أن "سلامة الأراضي السورية ووحدتها في الوقت الحالي هي أكثر أهمية بالنسبة لتركيا من إسقاط نظام الأسد".