فصل مثير في عبثية المشهد الليبي

21.06.2016

لن نستطيع أن نستوعب الحاصل في ليبيا إلا إذا تخلينا عن التعلق بالأساطير والأوهام التي راجت عن الصراع الحاصل هناك.

(1)
في الأسبوع الماضي تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً لأحد شيوخ القبائل الليبية، قال فيه إن «المغاربة» أخذوا البترول «والعبيدات» أخذوا البرلمان «والبراعصة» أخذوا رئاسة الحكومة. أما نحن «العواقير» فيستكثر عليهم البعض حصولهم على وزارة الموت، التي قصد بها وزارة الدفاع. الكلام على بساطته وتلقائيته يسلط الضوء على أحد العوامل المهمة في الصراع المستمر منذ خمس سنوات في ليبيا. أعني أنه ينبهنا إلى أنه في جوهره صراع على مراكز القوة المتحكمة في موارد الدولة، أما المتصارعون الحقيقيون فهم القبائل صاحبة النفوذ هناك. فلا هو بين قوى سياسية ولا بين متشددين ومعتدلين أو بين قوى إسلامية وليبرالية. وحتى إذا كان لتلك المكوّنات وجود، فإما أن دورها هامشي لا تأثير يذكر له على مجريات الصراع، أو أنه يمثل الواجهات أو اللافتات التي يرفعها البعض لإخفاء العوامل الحقيقية التي تحرّكه.

هذه النقطة أشار إليها المحلل السياسي الليبي صلاح البكوش الذي قال لي على الهاتف من طرابلس إن وسائل الإعلام أساءت تصوير ما يجري في ربوع البلاد حين عمدت إلى تسطيحه. ولم تنفذ إلى جوهره المتمثل في التنافس حول الاستئثار بالموارد. وهذا التنافس قد يعبر عن نفسه بالشعارات السياسية، كما قد يعبّر عن نفسه بالتنافس على المناصب أو حتى بالسلاح.

القاهرة شهدت صدى لذلك الصراع القبلي تمثل في التنافس حول منصب سفير ليبيا في العاصمة المصرية، إذ أصرّت كل من قبيلتي البراعصة والدرسة على أن يكون السفير من أبنائها. ويبدو أن رئيس حكومة طبرق تعرّض لضغوط من القبيلتين فوافق لكل منهما على مطلبها. من ثم اختارت قبيلة البراعصة ابنها طارق سطيف البراعصي المراقب المالي للسفارة بالقاهرة ليكون سفير بلاده، واختارت القبيلة الثانية ابنها محمد صالح الدريسي القنصل في مدينة الإسكندرية للمنصب ذاته. وكانت النتيجة أن أحدهما باشر وظيفته من مقر السفارة بحي الزمالك في القاهرة، في حين تسلم الثاني مهام الوظيفة ذاتها ومارسها من مقر مندوبية ليبيا لدى الجامعة العربية في حي الدقي. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد وإنما بسبب التنافس والتنازع بين القبيلتين حول الموضوع تم اقتحام مقر وزارة الخارجية في مدينة البيضاء وخطف وكيل الوزارة حسن الصغير وتعرض للضرب وزير الخارجية محمد الدايري!

(2)
ثمة أسطورة أخرى شائعة تختزل الصراع في التنازع المفترض بين شرق ليبيا وغربها، وهي تسقط الجنوب من الحسبان، الذي شهد تنافساً واقتتالاً بين الطوارق وقبائل التبو، الذين يديرون عالما آخر محوره التهريب المنفتح على الجيران (تشاد والنيجر ومالي والجزائر والسودان). لكن الأهم من ذلك أن التنازع قائم في الغرب بين مصراتة والزنتان، والأولون يمثلون الحضر الساحلي والآخرون يمثلون بدو الصحراء. ثم إنه قائم في الشرق، ويتمثل في الصراع الحاصل الآن بين قبيلة العواقير الكبيرة وبين بعض القبائل البرقاوية والمجموعات المؤيدة للفريق حفتر. وتتحدث التقارير الآن عن سيناريو التحلل في الشرق، الذي يتمثل في نزوع البعض إلى الاستقلال النسبي عن السلطة من خلال المطالبة بتحويل المحال الصغيرة إلى بلديات تدير أمورها بذاتها. يضرب المثل في هذا الصدد بمنطقة في جنوب مدينة البيضاء، هي جردس العبيد التي حوّلت إلى بلدية، الأمر الذي دعا قبيلة البراعصة إلى المطالبة بتحويل 24 في محيط جردس العبيد إلى بلديات كل منها لها إدارتها الذاتية، برغم أن مجموع سكانها لا يتجاوز 15 ألف نسمة!

المحلل الليبي صلاح البكوش ساق في هذا الصدد قرينتين تهدمان أسطورة صراع الشرق والغرب. خلاصة الأولى أن اللواء خليفة حفتر الذي يتصدّر الواجهة في الشرق حين أراد إخضاع قبيلة «الزوية» العربية المنتشرة في الجنوب الشرقي، فإنه تحالف لأجل ذلك مع عناصر من جماعة «العدل والمساواة» المتمرّدة في دارفور وآخرين من قبائل «التبو» في مناطق الجنوب (لها امتدادات في تشاد والنيجر)، وشنّ هؤلاء حملتهم ضد مواقع الزوية. وتمّ ذلك في محيط الشرق ولم يكن الغرب طرفاً فيه (للعلم: الرئيس السوداني عمر البشير تحدّث عن اشتراك مرتزقة من جماعة «العدل والمساواة» في الصراع الدائر في ليبيا، كما أشارت إلى الواقعة تقارير خبراء الأمم المتحدة عن الوضع الليبي خلال عامي 2014 و2015).

المثل الثاني الذي ذكره البكوش له دلالة أعمق. ذلك أن بعض الأبواق الإعلامية تتحدّث عن حملة يقودها اللواء حفتر ضد من يسمّونهم بالمتشدّدين والمتطرفين في الغرب في حين أن بين المجموعات المسلحة التابعة له كتيبة «التوحيد» السلفية، وهي تُعدّ أحد رموز التطرف الذي يروج الإعلام للادعاء بأنه يحاربه.

(3)
الذين يرددون تعبير الجيش الوطني الليبي يروّجون بعلم أو بغير علم لأكذوبة كبرى، لسبب جوهري هو أن القذافي كان قد دمّر الجيش وفرغه من مضمونه، بحيث لم تنجُ من حملته سوى بعض الوحدات التي جرى تشتيتها الآن، ربعها فقط موجود في الشرق وثلاثة أرباعها في الغرب والجنوب. صاحب هذه الشهادة هو اللواء يوسف المنقوش رئيس الأركان السابق الذي استقال من منصبه في العام 2013 حين أدرك أنه لا يستطيع القيام بمهمته في إعادة بناء الجيش بسبب تدخلات وضغوط مراكز القوى التي نشأت بعد الثورة. وما قاله أيّدته شهادة العقيد فرج البرعصي آمر منطقة الجبل الأخضر العسكرية (متوفرة على «اليوتيوب») التي ذكر فيها أنه لا يوجد في ليبيا جيش الآن، وإنما هو «فتات جيش»، العسكريون فيه لا تتجاوز نسبتهم 20 في المئة.

التقيت اللواء يوسف المنقوش في إسطنبول، التي اختارها مقراً لإقامته بعد استقالته، ووجدته يحفظ عن ظهر قلب قصة الجيش الليبي منذ تأسيسه في مصر العام 1940، مع بداية الحرب العالمية الثانية وكيف دمّره القذافي بعد محاولة الانقلاب عليه العام 1975 حين ألغى الرتب من خلال ما عرف باسم «الأمر المستديم رقم واحد»، وكيف قام في العام 2009 بترقية عشر دفعات إلى رتبة عقيد بقرار من جانبه.

حين سألته عن الجيش الوطني الذي يتحدث عنه اللواء خليفة حفتر، أوجز رأيه في ما ذكرت تواً، مضيفاً أنه ليس جيشاً وليس وطنياً. وحين طلبت منه تفصيلاً قال إن العملية كلها ليست سوى تهريج له أغراضه السياسية ولا علاقة لها بالعمل العسكري. فالجيش الذي يتحدث عنه حفتر يقوده مدنيون لا عسكريون، وأغلبه من المتطوعين والمرتزقة وخريجي السجون. ومن المفارقات أنه يضم كتيبتين إحداهما سلفية باسم «التوحيد»، والأخرى تسمّي نفسها كتيبة «أولياء الدم»، لذا يصعب الادعاء بأنه جيش، لأنه عبارة عن ميليشيات تحالفت مع اللواء حفتر أو تم تجنيدها لحسابه بتمويل من جهات خارجية، بهدف تحقيق حسابات معنية لا علاقة لها بمستقبل ليبيا ولا بالمصالح العليا للبلاد.

حين قلت إن وسائل الإعلام تحدثت عن دور الجيش في إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش» في درنة واضطرار أفراده للانسحاب منها، كان رده أن ذلك كله غير صحيح. وما قيل في هذا الصدد كان ادعاء مكذوباً من أوله إلى آخره. فالذي طرد «داعش» من درنة كانت المجموعات المسلحة المحلية ممثلة في «مجلس شورى الثوار». وبقية القصة أن جماعة «داعش» حين انسحبوا من درنة واتجهوا إلى سرت في الغرب، فإنهم خرجوا في 80 آلية قطعت مسافة 120 كيلومتراً في أراضٍ مفتوحة، لم يتعرض لهم طيران اللواء حفتر، ولكنه قصف مواقع «مجلس شورى الثوار» الذين حرّروا المدينة منهم.

سألته: بماذا يفسّر موقف حفتر؟ فكان رده أنه رجل مهووس بالسلطة، ويريد أن يجعل من نفسه «قذافياً» آخر فوق الجميع بما في ذلك القانون وكل مؤسسات الدولة. وهو يلجأ في ذلك إلى الترغيب والترهيب واستخدام أساليب العنف كافة لإسكات معارضيه وقمعهم. وللأسف فإنه يحظى بدعم إقليمي من دول تسعى لإجهاض الثورة متذرعة في ذلك بدعوى مكافحة التطرف والإرهاب.

(4)
يوم الثلاثاء 14 تموز الحالي، عقد اجتماع للمجلس الأعلى لقبائل العواقير تحدث فيه ثلاثة أشخاص، هم: فرج أقعيم آمر القوات الخاصة لمكافحة الإرهاب في بنغازي ــ صلاح بولغيب آمر الاستخبارات العسكرية ــ المهدي البرغشتي وزير الدفاع في حكومة الوفاق. وفي شريط التسجيل الذي وثق كلماتهم تحدثوا عن وقائع بالغة الخطورة شهدتها بنغازي خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فاتهموا اللواء خليفة حفتر بتشكيل خلايا يشرف عليها مساعده عبدالرازق الناضوري، تتولى تصفية المعارضين باغتيالهم، وقد تم إلقاء القبض على 16 شخصاً كلفوا بتلك المهام بمنطقة «بلعون» في بنغازي. وذكروا أن لديهم 137 قضية تم فيها الاغتيال بواسطة تلك الخلايا. تحدثوا أيضا عن سجن يتبع الناضوري يقوم فيه ستة من البنغاليين بتعذيب المعارضين والتخلص منهم، أضافوا أن جماعة حفتر يتاجرون في الذخيرة والعتاد العسكري الذي يتوفر لديهم من الخارج عبر الحدود المفتوحة ومن خلال ميناء طبرق. كما تحدثوا عن اختفاء 48 مليون دينار من «مصرف الوحدة».

إلى جانب الوقائع التي ذكرت في اجتماع مجلس قبائل العواقير، فإن النشطاء الليبيين يتداولون قائمة بالطلبات السياسية، التي قدمها اللواء حفتر، ويتبناها أنصاره في البرلمان الخاضع لسيطرته في طبرق. من هذه الطلبات إلغاء منصب وزير الدفاع وتنصيب حفتراً قائداً أعلى للقوات المسلحة، يمارس نشاطه خارج الحكومة. وتعيينه في هذا المنصب يتم من خلال البرلمان الذي يجب أن يتولى تعيين المسؤولين في المناصب السيادية وتعيين السفراء الذين يمثلون الدولة في الخارج. وهو ما يعني خضوع هؤلاء جميعاً لرغباته وسلطانه.

إذا صحت هذه المعلومات فإنها تعني أمرين، أولهما أن عبثية المشهد الليبي لا حدود لها، وثانيهما أن التدخلات الإقليمية العربية التي تسعى لتأجيج الصراع وتغليب طرف مرغوب على آخر مكروه تشارك في تكريس العبث وإطالة أجله.

جريدة "السغير"