نظرة الغرب لروسيا لم تتغير منذ 200 عام
هناك في الواقع سابقة تاريخية طويلة الأجل لكيفية رؤية روسيا والغرب بعضهم البعض في حقبة ما بعد الحرب الباردة، التي يرجع تاريخها إلى أوائل القرن التاسع عشر.
يستمر مسؤولون كبار في روسيا ( بمن فيهم من الدائرة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) في الإشارة إلى أن الغرب يشن "حربا إعلامية" مدبرة جيدا ضد روسيا، بهدف زعزعة استقرار النظام.
وفي الآونة الأخيرة، كتب الكسندر باستريكين، رئيس لجنة التحقيق الروسية، مقالا حول ما يسمى بـ "الحرب الهجينة" التي أطلقها الغرب ضد روسيا. وردا على ذلك دعا إلى تطبيق رقابة على الطريقة الصينية وغيرها من التدابير لكسب "الحرب الإعلامية" مع الغرب.
في وقت سابق، أشار المتحدث باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف" أن "وسائل الإعلام الأنجلوسكسونية" كانت تحاول تشويه سمعة روسيا. وعلاوة على ذلك، ذهب أبعد من ذلك، وأعرب عن فكرة مثيرة للجدل وهي أن روسيا لا تحتاج الى إنفاق موارد لتحسين صورتها إذا كان الإعلام الغربي يقوم بشن حرب إعلامية ضدها.
في حين أنه من السهل أن رفض هذه "الادعاءات" بأنها مجرد اعتقاد غير منطقي بنظرية المؤامرة، ولكن في الواقع هناك سابقة تاريخية طويلة لكيفية رؤية روسيا والغرب لبعضهم البعض.
تاريخيا، هاجمت وسائل الإعلام الغربية موسكو لسياستها الخارجية منذ القرن التاسع عشر. في حين كانت هناك بعض الفترات ظهرت فيها صورة روسيا كما لو أنها تغيرت للأفضل بالنسبة للغرب، وساد موقف سلبي تجاه الكرملين إلى حد كبير بين الصحفيين والسياسيين والمؤرخين والرحالة والباحثين الأجانب .
في الواقع، ما يكتب عن روسيا في هذه الأيام يذكرنا بما كتب خلال الحرب الباردة وحتى خلال حرب القرم 1853-1856.
وعزا الصحفي البريطاني "بيتر هوبكيك" إنشاء فكرة "البعبع الروسي" إلى "السير روبرت ويلسون"، وهو جنرال بريطاني مخضرم وخاض العديد من الحملات، الذي شهد شخصيا حرق موسكو في عام 1812. ويلسون أعجب في البداية بروسيا، لكن لدى عودته إلى لندن بعد هزيمة نابليون، تجاهل هذه الصورة الرومانسية. وادعى أنه شعر بالاشمئزاز من الفظائع التي ارتكبها الجيش الروسي ضد الجنود الفرنسيين. وفي وقت لاحق، زعم ويلسون أن "بطرس الأكبر"، وهو على فراش الموت، حث الروس على غزو العالم.
المركيز " أستولف لويس ليونور، كاستين"، الأرستقراطي الفرنسي الشهير، سافر إلى روسيا في 1839 وترك مذكرات مكتوبة، انتشرت على نطاق واسع وفيها مذكرات سلبية تسخر من النبلاء الروس، والكنيسة الأرثوذكسية، والقيصر "نيكولا الأول" ( 1796-1855)، الذي أدين لقمع الانتفاضة البولندية 1831-1832. ولم يكن من المعجبين بـ "بطرس الأكبر" ونظامه، وكتب، "أسلوب الحكم في روسيا هو الملكية المطلقة التي تعمل على الاغتيال". وادعى كاستين أن الهواء أصبح أكثر حرية عندما عبروا الحدود الروسية. وفي وقت لاحق، الدبلوماسي الأميركي جورج كينان قال إن هذا الوصف لنيكولا الأول مهد لظهور جوزيف ستالين.
"ريتشارد بايبس"، وهو أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد ومستشار الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان، وبالمثل يعطي وصفا سلبيا جدا للتاريخ الروسي، من بدايته ووصولا إلى الحقبة السوفيتية. نظريته الرئيسية حول تاريخ روسيا هي "الحتمية الجغرافية". إذا كان مناخ روسيا يختلف عن بقية أوروبا، فإن نظامها السياسي يجب أن يكون مختلفا أيضا.
"النتيجة المنطقية الرئيسية لموقع روسيا هي أن موسم الزراعة قصير جدا"، والفقر الطبيعي في الظروف الجغرافية بالتالي يجعل من الصعب للغاية بناء نظام فعال. في رأيه، نشأت الدولة "الوراثية" حيث اعتبرت البلاد على ىأنها ممتلكات شخصية للقياصرة الروس.
وبالنسبة لـ " بايبس"، كان هذا هو المفتاح، حيث أن هذه "الدولة الوراثية" هي سبب جميع مشاكل روسيا ومفارقاتها وجها لوجه مع الغرب. نظر الملوك الروس إلى رعاياهم كما لو أنهم ممتلكاتهم الشخصية. وفشل الروس في الوقوف بوجه هذه "الدولة الوراثية" كان يعني أن قوة الملوك تنمو، مما أدى في النهاية إلى الثورة البلشفية في عام 1917. وقد عارض المثقفون الراديكاليون الدولة، ثم استولوا على السلطة في نهاية المطاف، وخلقوا نظام جديد أكثر قمعا ووحشية.
طور "بايبس" المزيد من هذه الأفكار حول روسيا تحت النظام البلشفي (1995)، والذي وصفه "الشمولية السوفيتية" كنتيجة " للوراثة الإمبريالية" في روسيا . واعتبر "بايبس" بشكل غامض أن هناك تجانسا وتشابها بين الشيوعية والفاشية والاشتراكية الوطنية. هذه النظرة التاريخية بدت مشوهة تماما عندما صرح أن "أصول حركة اليمين المتطرف في أوروبا ما بين الحربين العالميتين، كانت مستحيلة لولا السوابق التي وضعها لينين وستالين".
وقد قدم بعض العلماء وجهات نظر رائعة جدا حول تاريخ الثقافة الروسية، مشيرين إلى العشرات من الأمثلة عن الأنشطة وسلوكيات القهر الذاتي الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من الروح الروسية، "دانيال رانغور لافيري" ، أستاذ فخري للغة الروسية في جامعة كاليفورنيا، "ديفيس" يوضح كيف أصبحت "الماسوشية" حقيقة من حقائق الحياة اليومية في روسيا في كتابه العبودية روح روسيا: "الماسوشية" الأخلاقية وجزء من المعاناة (1996). ينتقد المؤلف أعمال العديد من الكتاب الروس، خاصة فيودور دوستويفسكي.
وقال إن نهاية الحرب الباردة لم تغير طريقة المحللين الغربيين بالنظر إلى روسيا. كتب "ستيف ليفين" تقريرا بشكل مغرض ومنحاز تماما ، وهو مراسل سابق لـ "بيزنيس ويك"، وعاش في الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا المعاصرة 1992-2004. العنوان يتحدث عن نفسه: متاهة بوتين: الجواسيس، القتل، والقلب المظلم لروسيا الجديدة. وليس من المستغرب أن يدعي صاحب التقرير في وقت مبكر أنه بعد فترة قصيرة من التغيير عام 1990 أن روسيا تتغير نحو الأسوأ.
"الآن روسيا مرة أخرى هي روسيا"، كما يقول. "ظهر الجانب المظلم منها وهو، بنسبة كبيرة، السكوت من قبل الجماهير." ويقول، "إن الشعب الروسي سيستجيب لبوتين بما يخص الحريات الفردية جنبا إلى جنب مع الطاعة والاعتزاز بالقومية، إنه معيار لأربعة قرون في وقت سابق تحت حكم "إيفان الرابع" "ويوضح أنه" في الغرب، لقب "إيفان" هو "غروزني"، وقد ترجم بـ "الرهيب" - ولكن إلى الروسية إيفان "المخيف" أو "المرعب"، وهي الصورة التي يحب أن يزرعها بوتين بنجاح ".
ليفين مقتنع بأن روسيا تحت قيادة بوتين قد ذهبت إلى الوراء، نحو الجذور الاستبدادية في كل من الأنظمة السوفيتية وحتى القيصرية.
كانت ثورة الميدان الأوروبية نقطة انعطاف حاسمة في العلاقات الروسية الأمريكية والعلاقات الروسية الأوروبية. وبناء على ذلك، لاحظ عدد من السياسيين في الولايات المتحدة والمحللين وعلماء السياسة خطر السلوك الروسي على أوروبا والعالم أجمع.
على سبيل المثال ادعى مؤخرا "أندرو ميشتا"، أستاذ العلوم السياسية في كلية الحرب البحرية الأمريكية، أنه في الوقت الذي فشل حلف شمال الأطلسي بتحديث نفسه، استطاعت روسيا إعادة تسليح نفسها وبوتين مستعد للقمة سائغة جديدة في الإقليم. كتب ميشتا في "بوليتيكو" العام الماضي وقال "عندما يتعلق الأمر بروسيا بوتين اليوم، يمكن أن نتوقع أكثر من المتوقع، أو بالأحرى أكثر من الشيء العادي."
هذه ليست سوى بعض الأمثلة التي توضح النهج الذي يعتمده بعض المفكرين الغربيين والمحللين وعلماء التاريخ حول السياسة الروسية. ومع ذلك فقد كان لروسيا دائما علاقات معقدة مع الغرب. كانت هناك اختلافات في سياسات القياصرة الروس والقادة السوفييت. لطالما تم تقسيم الفكر الفكري الروسي من خلال المناقشات العنيفة بين مؤيدي الثقافة السلوفينية ومؤيدي الغرب.
تقول المؤرخة الأمريكية "باربرا جيلافيش" إن الدبلوماسيين في روسيا الإمبراطورية كانوا دائما على بينة من حدود قوتهم، ويخشون إرهاق الموارد الروسية وبناء على ذلك يرسمون ردود أفعالهم نحو الدول الأجنبية. أيضا فإن المؤرخين الذين يدرسون الحرب الباردة يعرفون أن الاتحاد السوفيتي لم يكن يخطط لحرب مع الغرب. لأن القادة السوفييت كانوا يفهمون أن الحرب العالمية الثالثة سوف تكون كارثة على الكوكب بأسره.
العلاقات الروسية مع الغرب اليوم هي في الواقع معقدة جدا. ومع ذلك فهناك الجانب الآخر لهذا الرأي في الغرب. في 11 سبتمبر 2001، كان الرئيس بوتين من بين أول الذين التقوا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لتقديم تعازيه وتقديم المساعدة. عندما طلب بوش إقامة قواعد عسكرية أمريكية إستراتيجية في أوزبكستان وقرغيزستان- لإجراء العمليات العسكرية ضد الحكومة الخاضعة لحكم طالبان في أفغانستان قال بوتين: "لقد قررنا مساعدة أصدقائنا."
ثم أعلن الرئيس ميدفيديف في خطاب ألقاه عام 2008 في برلين أن روسيا تنتمي إلى أوروبا وهي جزء من الحضارة الأوروبية. روسيا تعاونت مع الولايات المتحدة وحلفائها بنجاح في مختلف المجالات مثل حل المشكلة النووية الإيرانية والتهديد النووي لكوريا الشمالية، ومحاربة الدولة الإسلامية في العراق وسورية (ISIS) في الشرق الأوسط .
في عام 2007، عندما قررت الولايات المتحدة نصب أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك، هدد القائد الروسي للقوات الصاروخية بأن هذه الأنظمة تستهدف القوات النووية موسكو. واستمرت المشاكل بين روسيا والغرب. وقد تدهور الوضع بشكل كبير بعد كل "الثورات الملونة" في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق - ثورة الورود (جورجيا)، الثورة البرتقالية (أوكرانيا)، وثورة الميدان الأوروبي (أوكرانيا).
وفقا لاندري بيزروكوف، الأستاذ المساعد في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، هناك ما يكفي من السياسيين في الولايات المتحدة وأوروبا الذين يعتقدون أن الغرب قد انتصر في الحرب الباردة. لذلك يجب أن تكون روسيا قوة انتقامية تحاول استعادة مكانتها الجيوسياسية السابقة.
يقول بيزروكوف إن هذا التناقض الأساسي المهم بين الولايات المتحدة وروسيا يستند ببساطة إلى حقيقة أن واشنطن تسعى للحفاظ على النظام القائم في حين أن روسيا تريد لنفسها سياسة خارجية مستقلة.
في الوقت الذي كانت فيه النخب السياسية في روسيا لا تزال تعيد تقييم الآثار المترتبة على انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن ممثلي النخبة السياسية الأمريكية - قد جاء البعض منهم في الواقع من دول الكتلة السوفيتية السابقة – لم يكونوا مستعدين لاتخاذ مواقف أكثر حيادية. يفترض بيزروكوف أن التصور السلبي حول روسيا يستند جزئيا على تجربتهم التاريخية. إذا كان هذا هو الحال، فهذا في الواقع مخيب للآمال لأن العادات القديمة في التفكير بما يخص التاريخ والشؤون الدولية يصعب تغييرها.