ماذا جرى في القدس
مرة أخرى وقع هجوم في منطقة حساسة من مناطق النزاع الكثيرة في العالم، هذه المرة في القدس. الضحايا مدنيون في حافلة لنقل الركاب. لا أحد يمكنه أن يعرف من الذي سيستقل هذه الحافلة، التي وضعت فيها قنبلة لتنفجر وتوقع الضحايا، وهل الذي سيستقل الحافلة عربي أم إسرائيلي وما هي جنسيته وما هو دينه وما هي قوميته، وهل هو رجل أو امرأة، طفل أم شيخ، عالم يقدم خدماته للناس أم طبيب يداوي الناس أم رجل عادي يذهب إلى عمله ليؤمن طعام أبنائه. إنها نفس الأسئلة التي يجب أن يفكر بها أولئك الذين يزرعون الإرهاب في كل مكان قبل أن يفجروا قنابلهم القاتلة، سواء أولئك الذين يأمرون أو الذين يأتمرون، فهم بنفس الموقع وهم أعداء للإنسانية حسب جميع الديانات وحسب جميع المفاهيم الإنسانية. إن قتل المدنيين الأبرياء لا يقبله أي منطق سليم ولا أي دين سماوي ولا أية شرعة من شرائع المجتمعات، وهو عمل يسيء إلى الشعوب المظلومة ويبرر للظالمين المعتدين أعمالهم الوحشية والإرهابية والمنظمة ضد خصومهم. والشعب الفلسطيني هو مثال للشعب المظلوم الذي تشن ضده اليوم حرب لا هوادة فيها، تحتل أرضه ويزج بأبنائه في السجون بطريقة منظمة لم يشهد لها التاريخ مثالا إلا في عهد النازية وفي الآونة الأخيرة يسمح للجنود الإسرائيليين بقتل الفلسطينيين حتى بعد أسرهم.
عندما نتحدث عن الإرهاب في القدس، فنحن نتحدث عن موضوعين مهمين هما القدس والإرهاب. فللقدس أهميتها السياسية والدينية والمعنوية، ليس فقط لشعوب المنطقة بل لأغلب شعوب العالم. القدس مركز مهم للديانات السماوية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) ولا يحتاج المرء إلى جهد كبير ليتعرف على هذه الأهمية الكبيرة للقدس لدى جميع الأديان.
القدس مدينة يحمل تاريخها الحديث كما يحمل تاريخها القديم الكثير من الصراعات، فمنذ عام 1967 كان احتلال إسرائيل للقدس، مع بقية الأراضي التي احتلتها معها في تلك الحرب، إحدى نقاط الاختلاف بين معسكرين كاملين هما المعسكر الشرقي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي وبين المعسكر الغربي التي كانت وما تزال تقوده الولايات المتحدة، إضافة لصراع حاد بين إسرائيل ودول المنطقة العربية والإسلامية ما يزال مستمرا حتى اللحظة. تعتبر القدس من أكثر الرموز الدينية أهمية للمسلمين في العالم نتيجة لوجود المسجد الأقصى المبارك الذي يعتبر أولى القبلتين بالنسبة للمسلمين. والعالم الإسلامي بغالبيته يحيي يوم القدس في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان من كل عام، بمسيرات جماهيرية تندد بالاحتلال الإسرائيلي للقدس، وتدعو لمقاومة هذا الاحتلال. المسلمون يعتقدون اعتقادا ثابتا "من خلال القرآن الكريم" بأن القدس والمسجد الأقصى سوف يتحرران ويعودان للمسلمين كما كانا من قبل.
سن الكنيست الإسرائيلي في 30 تموز/يوليو عام 1980، قانونا يعتبر القدس الموحدة (الجزء الشرقي المحتل عام 1967 إضافة للجزء الغربي الذي احتلته إسرائيل منذ العام 1948) عاصمة لإسرائيل، تبعه قرار من مجلس الأمن يرفض الإعلان الإسرائيلي باعتبار أن القدس هي مدينة محتلة من إسرائيل حسب قرارات الأمم المتحدة. ولكن إسرائيل استمرت باتخاذ كافة الإجراءات التي تؤسس لتصبح القدس عاصمتها، وأهم تلك الإجراءات هي سياسة الاستيطان في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية بطريقة تهدف لتغير الواقع الديموغرافي لمدينة القدس.
أما الإرهاب في القدس فهذه قضية شائكة بكل المعايير، لاشك أن هناك سياسة تمييز واضطهاد واضحة ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس (وفي غيرها)، ولكن وعلى الرغم من ذلك، لا أحد يستطيع أن يحدد من المسؤول عن عملية القدس، وهل هو مرتبط بمنظمات دولية أم لا؟ وهل الفاعل، بمثل هذه العمليات، يخدم مصلحة الظالم أم مصلحة المظلوم؟ إن الشعب الفلسطيني يعمل على مقاومة المحتل علنا ولكن المقاومين الفلسطينيين يعملون على قتال الجنود الإسرائيليين ولا أحد يقبل بقتل المدنيين الأبرياء، إلا تلك المنظمات المشكوك بانتمائها وتاريخها المرتبط بأولئك الذين يدعون أنهم ضد الإرهاب في العلن ويدعمونه في السر بالمال والخبرة والعتاد ليعمل على تحقيق مصالحهم.
إن الإرهاب ليس له وطن، وهو يعمل في كل مكان من العالم مستغلا مجموعة من الجهلة الذين ربتهم واحتضنتهم جهات دولية وإقليمية، ليعملوا على تحقيق مصالحها، دون الالتفات إلى الآثار الجانبية التي يمكن أن يسببها هذا الإرهاب. والأمثلة كثيرة في التاريخ الحديث، نحن نتذكر جميعا كيف عملت الولايات المتحدة وحليفتها السعودية على خلق ظاهرة القاعدة في أفغانستان، وجمعت لهذه الغاية وتحت راية الإسلام كل أشرار الأرض ليقاتلوا القوات السوفييتية باسم الجهاد في سبيل الله، وهو في الحقيقة جهاد في سبيل أمريكا وحسب. ونحن نرى اليوم كل أعمال الإرهاب التي يقف بجانبها ويدعمها بالمال والسلاح نفس تلك الأطراف التي دعمت القاعدة وطالبان في أفغانستان، وهما الولايات المتحدة وحليفتها السعودية وانضم لهما في منطقتنا حليفان يحركهما أيضا الإسلام السياسي، وهما تركيا وحماس وكل منهما يعمل لتحقيق بعض المصالح وينسى أو يتناسى مصالح الشعوب الحقيقية في السلام ونبذ الإرهاب الذي لا يفرق بين من يقتله.
إن هجمات بروكسل الأخيرة هي خير مثال على نتاج الفكر السعودي من خلال بناء الجوامع التابعة للسعودية في أوروبا والتي تعلم القتل بدل أن تعلم التسامح والحب، لقد أظهرت التحقيقات أن الهجمات في بروكسل نفذها شباب مسلمون ولدوا في أوروبا وعاشوا فيها وبدلا من أن يتعلموا قيم التسامح التي تسود لدى غالبية الشعوب الأوروبية تعلموا القتل من خلال الفكر التكفيري الذي تنشره السعودية في هذه الجوامع في أوروبا.
أنا لا أبالغ إذا قلت أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن لتستطيع تحريك كل هذه الفوضى في أماكن كثيرة من العالم لولا السعودية التي أسست لمدرسة فكرية غذت وتغذي اليوم وستبقى تغذي الإرهاب مستقبلا من خلال إيديولوجيتها الوهابية التي تكفر الأخر مهما كان دينه أو طائفته أو مذهبه إن لم يكن وهابيا. وإن محاربة الإرهاب الذي يضرب في كل مكان في العالم في منطقتنا وفي أوروبا وفي روسيا وحتى في الولايات المتحدة نفسها، لا يمكن أن ينجح إلا بالقضاء على منابعه الحقيقية وأولها الفكر الوهابي السعودي ومثله أيضا فكر "الإخوان المسلمين" الذين يحكمون تركيا.
إن كل من يعمل على فرض مصالحه بالقوة التي يملكها، ويستغل ضعف غيره الذي لا يملك قوة مثلها، يشجع على الإرهاب. إن الإرهاب يحتاج إلى فكر يحركه كما يحتاج إلى غبي يظن أنه من خلال ماله أو قوته العسكرية يستطيع تحقيق ما يريد دون أن يرتد إليه جزء من الأذى. وإن محاربة الإرهاب تتطلب مزيدا من التمسك بالقيم الإنسانية وأن نكون صادقين في إيماننا بهذه القيم، وإن الظلم مهما كبر وطال فإن مقاومته تتطلب مزيدا من الالتزام بالقيم، فلا نقتل طفلا أو شيخا أو امرأة بل ندافع عن أنفسنا ضد من يظلمنا أو يقتلنا أو يغتصب أرضنا.