الصين وعتبات القوة المعاصرة1-2

12.04.2016

تعتبر الصين المثال المعاصر الأهم  لنجاح عملية بناء السلطة الوطنية نتيجة للإقتران المناسب للموقف الأيديولوجي مع الفكر السائد المحفز للدولة.
بعد وفاة “ماو تسي” تونغ في عام 1976 جاء حاكم جديد إلى السلطة في جمهورية الصين الشعبية. لقد استطاع هذا الماركسي العقائدي اليساري تحقيق "اختراق تاريخي" من خلال هذا التحول الذي بدأه ببساطة من خلال "التغيير المنهجي" للوصول إلى نفس الأهداف التي أرادها غالبية حكام الصين الذين رافقوا “ماو” من خلال إعادة بناء السلطة الوطنية في الصين. منذ عام 1978 فصاعدا سعى دنغ شياو بينغ لإعادة بناء القوة الوطنية للصين التي كان ماوتسي تونغ سعى لبنائها سابقا على طريق الاشتراكية، عن طريق أفكار "صن يات صن". لقد كانت أفكار " صن يات صن" هي الدافع وراء المحاولة الأولى في العصيان الأيديولوجي للصين الحديثة.
ومن المهم أن نقف عند هذه النقطة حول أفكار  قائد أول حركة عصيان إيديولوجي في الصين المعاصرة، هذه الأفكار التي سببت أول حركة ثقافية في الصين المعاصرة في بدايات القرن العشرين والتي كانت غريبة جدا عن هذا البلد. لقد وجدت البلاد نفسها حسب أفكار " صن يات سين" ترزح تحت استعمار غير معلن بشكل رسمي من قبل الدول المسيطرة في ذلك الوقت مثل الدول الأوروبية وحتى اليابان والولايات المتحدة.
هذه الصين القوية المعاصرة حققت مستويات نمو مدهشة بشكل يومي وتطورا في النمو أدهش كل المراقبين، كانت قبل أكثر من مائة عام بقليل دولة خاضعة للقوى المسيطرة في العالم ومصدرا رخيصا للمواد الخام وساحة صراع للقوى العالمية المسيطرة، تحولت إلى دولة معاصرة كبيرة بسبب النمو الحالي المدهش وبسبب الإرادة الوطنية الصارمة التي سمحت لهذا العملاق الشرقي بالانتقال في بضع سنين من التبعية المطلقة للمحاور الدولية إلى الاستقلال العالمي الذي تنعم به الصين اليوم.
اعتمدت الصين في انطلاقتها ووصولها إلى هذ المستوى المعاصر على مبادئ الثورة الثقافية لـ " صن يات صن". لقد كانت أفكاره التي استأنفها  "دنغ شياو بينغ" وخلفاؤه  هي التي حققت معجزة انتقال الصين إلى عتبات القوة الحالية العظيمة انطلاقا من التخلف الذي كانت تعاني منه، كما هو الحال بالنسبة لغالبية دول أمريكا اللاتينية.
الفكر السياسي لـ"صن يات صن"
ولد " صن يات سين" في عائلة فقيرة متواضعة من الفلاحين عام 1866 وتلقى تعليمه "الغربي" في المدارس التبشيرية المسيحية في كانتون، حيث اعتنق البروتستانتية، وقد ساعدته علاقاته على إنهاء دراسته الثانوية في هونولولو ومن ثم دراسة الطب في هونغ كونغ.
في يوليو/تموز عام 1900 سحق جيش يتألف من 40 ألف جندي من إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر وروسيا والولايات المتحدة واليابان المقاومة الشعبية التي عرفت ب"الملاكمين المتمردين" والتي انتفضت في وجه القوى المهاجمة للصين.  لقد ولدت مجموعة "الملاكمين المتمردين" من جمعية سرية تسمى جمعية "القبضات المتناغمة" والذين اعتمدوا اسم "الملاكمين" لأنهم اعتمدوا الملاكمة كوسيلة للدفاع في وجه القوات المعتدية على الصين. لقد ظهرت مجموعة "الملاكمين" في شانتونج وانتشرت بسرعة على الرغم من القمع الذي تعرضت له، وكانت قاعدتهم تعتمد على الفلاحين وهذا ما حول التمرد إلى حركة جماهيرية.
طالبت المفوضيات الأجنبية حكومة المانشو بالقمع أكثر،  لكنها لم تكن في حالة تسمح لها القيام بذلك. من أجل هذا قررت القوى الخارجية التدخل بنفسها لسحق التمرد الشعبي فجمعت من ثمانية بلدان جيشا يتألف من أربعين ألف جندي بقيادة المارشال الألماني ألفريد غراف فون  من مدينة فالدرسي حيث سحقوا تمرد الملاكمين. لقد كان أحد أعمام " صن يات سين" من الذين قتلوا أثناء محاربة القوى الأجنبية.
بعد خسارة "الملاكمين" أصبح "صن يات صن" القائد الثوري الأهم الذي يحاول التخلص من سلالة مانشو الحاكمة، والعمل على تأسيس الديمقراطية  والسعي لتحقيق الاستقلال الاقتصادي للصين عن الدول الأجنبية. لقد وجد " صن يات سين" وغالبية الثوار أن المشكلة الحقيقية للصين هي في عائلة المانشو وليست في المعتدين الأجانب، وأن مثل هذا الاعتداء على الصين ما كان ليحصل لو كانت الصين محكومة من أبنائها (سلالة مينغ سقطت عام 1644 عندما تولى المانشو السيطرة على المدينة الإمبراطورية).
وبالتالي وحتى عام 1911 فقد كان الهدف الرئيسي للثوار هو الإطاحة بالسلالة الغاصبة وهي المهمة التي كان متوقعا أن يعطلها دعم القوى الغربية لهذه السلالة الحاكمة.
اندلعت الثورة ضد النظام الملكي المانشو في 10 أكتوبر عام 1911 وفي الأول من يناير/كانون الثاني عام 1912 تكونت الجمعية التأسيسية من الذين تجمعوا في نانجينغ وأعلن السيد  " صن يات سين" رئيسا للجمهورية حديثة الولادة في الصين.
ومع ذلك فقد تمكن الجنرال يوانت شي كاي في العام نفسه من الحصول على تنازل إمبراطور المانشو في 12 فبراير/شباط من العام نفسه، وأصبح هناك حكما حقيقيا في الواقع الجديد، ولذلك فقد قرر "صن يات سين" الالتزام بقرار الجمعية العامة تجنبا لحرب أهلية.
بعد عام 1911 وضع "صان يات سين" المفاهيم الخاصة بفكره الثوري مؤكدا قناعته أنه من أجل الانتصار بالثورة سيكون من الضروري الاقتراب من الطبقات العاملة والفلاحين وكذلك بالبرجوازية الوطنية . لقد أسس " صن يات سين" في عام 1912 حزب "الكومينتانغ" الذي يعني "حزب الشعب الوطني"  التي يهدف إلى تنظيم جبهة موحدة من صغار التجار وأصحاب الأراضي والمثقفين والفلاحين. ولكن وبعد سنوات قليلة أٌبعد إلى المنفى،  وبدأت الصين فترة من الفوضى المطلقة والمعروفة بـ "هيمنة أمراء الحرب".
في عام 1917 عاد "صن يات صن" إلى الصين، وعلى الرغم من أنه أعاد تنظيم حزب الكومينتانغ كواجهة لمختلف الطبقات من أجل تحقيق الوحدة والاستقلال الوطني، كما انه حصل على دعم الثورة السوفيتية وأجرى الاتصالات مع لينين. هذا التحالف أكد له بعد عملية مضنية، أن مساعدة الاتحاد السوفياتي ستساعده في تحقيق رغبته بالتصدي للنفوذ الهائل للقوى الرأسمالية الغربية في الصين.
توفي " صن يات سين" في 12 مارس عام 1925، وترك حزب الكومينتانغ كحزب سياسي لجميع الطبقات وكجيش فعال مدعوم من قبل الشيوعيين.و بعد عام واحد أصبح " تشانغ كاي شيك" على رأس حزب الكومينتانغ، واستطاع "تنظيف" كل جنوب الصين اعتبارا من نهر يانغ تسي من "أمراء الحرب".
حاز نضال الصين في هذه السنوات على اهتمام كبير من دول أمريكا اللاتينية، هذا الاهتمام ظهر بوضوح من خلال التشابه في أفكار المفكرين الأكثر شهرة في أمريكا اللاتينية مع الواقع الصيني من أجل تحرير أنفسهم من قوى الهيمنة الخارجية، لقد كانت ظروف الصين وأمريكا اللاتينية متشابهة في ذلك الوقت. لقد أظهرت السنوات اللاحقة أن الطريق الصيني هو الطريق الذي يمكن اعتماده لكسب الاستقلال الوطني في بلدان أمريكا اللاتينية.
لدعم هذا التشابه نذكر بعض الفقرات من مقال نشر في فبراير/شباط 1927، قبل وقت قصير من سقوط شنغهاي، للمفكر البيروي العظيم خوسيه كارلوس ماراتيكوي الذي كتب:
الشعب الصيني وجد نفسه في  أسوأ ظروف الملحمة الثورية. جيش الحكومة الثورية كانتون هدد شنغهاي أو بالأحرى قلعة الإمبريالية الأجنبية، وعلى وجه الخصوص الإمبريالية البريطانية. هددت بريطانيا العظمى بالذهاب إلى القتال والتدخل العسكري في شنغهاي، ولتجنب نصر الصينين المدعومين من البلاشفة تم جمع كل القوى العالمية من أجل هذا الصراع.
ويتجسد الخطر الأكبر، بطبيعة الحال، في محاولة الإمبريالية خلق نزاع أو تقسيم السيادة الاقتصادية للصين. ويناضل  الشعب الصيني من أجل تحقيق الاستقلال، المعاهدات المذلة والكيدية التي تفرضها التعريفات الجمركية على الصين والموجهة ضد مصلحة الصين والمتضمن إعفاء الأجانب من تشريعاتها وقوانينها. ويدعو حزب "الكومينتانغ" ويؤيد مبادئ "صن يات سين"، الزعيم الصيني، حيث لا يمكن لأي تشهير أو افتراء غير مسؤول أن يؤكد دور الشيوعية الدولية. (مقتبسة من قبل " خوسيه كارلوس ماراتيكوي 1997: 134).
في نفس هذا الأسلوب، وبعد أيام قليلة من أخذ شنغهاي، صرح مفكر وسياسي عظيم آخر من أمريكا اللاتينية، البيروفي "فيكتور راوول هايا دي لا توري"، من منفاه في انكلترا:
إن انتصار القوات الكانتونية، التي قادها "تشانغ كاي شيك"، على شنغهاي، أغنى وأهم مدينة في الصين، كان يعني، دون أدنى شك، أن واحدة من أهم خطوات الانتصار والتقدم نحو الوحدة تم اتخاذها من قبل جمهورية آسيوية كبيرة تحت راية "الكومينتانغ". وتعتبر الهيمنة الكاملة لحزب الكومينتانغ على أنحاء الصين انتصار للسياسة القومية المناهضة للإمبريالية وتغير هام في مجرى الأحداث، إلى أجل غير مسمى. ونظرت بريطانيا العظمى بقلق وشعرت بوضوح الخطر وأرسلت آلاف الجنود مع أسلحتهم إلى المنطقة. أما في روسيا، اعتبر انتصار الكانتونية كما أنه انتصار وطني. لقد هز الانتصار الصيني الغير عادي ضمير الشعوب الآسيوية. (هيا دي لا توري، 1985، 3: 101)
وبعد نشر هذا المقال بأيام، وبتوافق كلي مع تحليل الشاب "فيكتور راؤول هايا دي لا توري"، صرح "خوسيه كارلوس ماراتيكوي " من "ليما" عاصمة البيرو:
وبعد الاستيلاء على العاصمة الألفية لم يعد عقبات لا يمكن التغلب عليها. انجلترا، اليابان، الولايات المتحدة، لن يتوقفواعن التآمر ضد الثورة، واستغلال الطموح وفساد القادة العسكريين للوصول إلى غاياتهم. وبدأت المخاوف من النية في جذب وإغراء القائد "تشانغ كاي شيك". ولكن من غير المحتمل أن يقع "تشيانغ كاي" الشباك. يجب على المرء أن يفرق بين القادة أصحاب الدور التاريخي في التحرير، وبين الخونة.(مقتبسة من قبل خوسيه كارلوس مارياتيغ، 1997: 138)
ومع ذلك، أخطأ خوسيه كارلوس ماراتيكوي في تحليله وسقط "شيانغ كاي شيك" في الشباك. عملية تأسيس المقاومة التي بدأها "صن يات سين" تم الالتفاف عليها.
الحواشي:
1 - خلال فترة وجيزة بدأت في عام 1976، تولى "هوا غوه فنغ"، الذي تم اختياره خلفا  ل "ماو"، مصير جمهورية الصين الشعبية. حيث، وافق اجتماع اللجنة المركزية للحزب رسميا على تنصيب "هوا" خلفا ل "ماو"، كما وافق على "عودة دنغ شياو بينغ، الذي أصبح عضوا في اللجنة الدائمة للمكتب السياسى، ونائبا لرئيس الحزب، ونائبا لرئيس مجلس الوزراء" ومستشارا لرئيس الدولة. وبين عامي 1978 و 1979، أصبح موقف "هوا غوه فنغ" أضعف. وفي عام 1979 تم تجاهل تطبيق خطته العشرية الطموحة. على العكس من ذلك، بين عامي 1978 و 1980، اتبعت أفكار "دنغ شياو بينغ"، التي تقول "تخفيف نسبة توزيع الأراضي والاستصلاح الزراعي  وإدخال استقلالية الإدارة على الشركات العامة كخطوة أولى للتحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي". في الدورة الخامسة للجنة المركزية للحزب، تم اختيار اثنين من المدافعين الرئيسيين عن أفكاؤ "دنغ شياو بينغ" كأعضاء في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي. في أغسطس/آب 1980، تخلى "هوا" عن منصبه كرئيس للوزراء وتم استبداله ب "جاو جيانج". وبالتالي أصبح "دنغ شياو بينغ" القائد الجديد لجمهورية الصين الشعبية (بيلي، 2002: 213-215).
2. وحلل لينين في عام 1912، في مقال بعنوان "الديمقراطية والشعبوية في الصين" الشخصية السياسية ل "صن يات صن". حيث أشاد ب "روح الديمقراطية الحقة" ل "صن يات سين" و"تعاطفه الحار مع الجماهير"، لكنه لاحظ أنه، في الوقت نفسه، حمل طموحات ساذجة وبعض أفكار البرجوازية الصغيرة. وفي مقال آخر، بتاريخ أبريل 1913، تحت عنوان "نضالات الحزب في الصين"، حلل لينين الحزب السياسي الذي أسسه "صن يات سين" وتوصل إلى استنتاج مفاده ضعف "الكومينتانغ" وعدم قدرته على جذب السواد الأعظم من الشعب الصيني تجاه التيار الثوري وانتقد ضعف قادة "الكومينتانغ" ووصفهم بأنهم "حالمين وغير حاسمين".