جذور المواجهة الحالية بين واشنطن وموسكو وآفاق المستقبل

29.03.2016

نشهد اليوم أزمة عميقة في التعاون الروسي الأمريكي. جاءت كنتيجة منطقية لسلسلة من الأحداث والعمليات، التي تطورت على مدى ربع قرن من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، والذي تكون بعد نهاية الحرب الباردة، يجمع بين عناصر النظام العالمي القديم، وأفكار غامضة حول نظام عالمي جديد وطبيعة مختلفة جذريا للشراكة. ملء "الفراغ" الذي ظهر في منطقة "تركة الاتحاد السوفيتي" بالغرب ومؤسساته، وتوسع الناتو شرقا، ومشروع الدرع الصاروخي، ومشكلة انتشار الأسلحة النووية، و"قانون ماغنيتسكي"، والنشاط التكاملي الروسي (الذي ينظر إليه الغرب على انه إمبراطوري) عبر بريكس، والاتحاد الأوراسي، ومنظمة شانغهاى للتعاون، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والأحداث في أوسيتيا الجنوبية، وقضايا أمن الطاقة، وقضية التبني، "قضية سنودن"، "قضية بوت"، الخ. أصبح الكتلة الحرجة التي لا محالة، كان عليها أن تظهر وتثبت نفسها.
أوج هذه السلسلة، أصبحت الأزمة الأوكرانية، واتي دارت تطوراتها عبر السيناريو الخطي، ما دفع روسيا لعمل حاسم (ضم شبه جزيرة القرم، دعم وحدات حماية الشعب في جنوب شرقي أوكرانيا)، وأسفر في النهاية عن فرض الغرب عقوبات ضد روسيا، ومسارعة الولايات المتحدة وحلفائها للعمل في مسار عزل واحتواء روسيا.
الحالة الحرجة الحالية للعلاقات الروسية-الأمريكية، تقوم بالأساس على أزمة ثقة طويلة الأمد، واختلاف وجهات نظر الأطراف عن العالم والنظام العالمي، والهوية والقيم الإنسانية، ما أدى إلى تدمير آلية التعاون الثنائي، وفي النهاية إلى توسيع الهوة في عملية تطبيع العلاقات بين البلدين. أخطر شيء هو أن هذه العوامل، أسفرت بالنتيجة ليس فقط عن انهيار المنظومة الكاملة للعلاقات بين البلدين في مختلف المجالات. اليوم، الإنهيار طال المجال الأكثر أهمية في علاقات البلدين، وهو نظام مراقبة التسلح، الذي بني بجهود أجيال عديدة من الخبراء والسياسيين من كلا الجانبين على مدى عقود. ولعب عامل مهم دورا  كبيرا في توتير وهو تغير النخب من الواقعيين السياسيين (أمثال هنري كيسنجر) الذين سعوا لإيجاد حلول وسط، واستبدالهم بالمتشددين المعادين لروسيا.
منذ البداية، الشكل المتصارع لا محالة، للتعاون الروسي الأمريكي، تواجد في السلوك الجيوسياسي لكلا البلدين، والذي تعود جذوره لعهد نظام فرساي، الذي ظهرت أصوله بعد الحرب العالمية الأولى، فضلا عن تشكيله للمواجهة في النصف الثاني من القرن العشرين (الحرب الباردة). يجب أن نتذكر ما يسمى بالقيم الدائمة لسلوك السياسة الخارجية للولايات المتحدة (الإيمان بالتفوق والتفرد، وعقدة المخلص، ومساعي التوسع العالمي والهيمنة وقيادة العالم، الخ) والتي تعتبر عوامل غير قابلة للتغيير، تحدد مكونات السياسة الأمريكية.
أنماط التفاعل التاريخية
العلاقات بين روسيا/الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وضعت في إطار نماذج خمسة.
النموذج الأول (1914-1918) - علاقات متحالفة في إطار الوفاق خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد انضمام الولايات المتحدة للحرب في العام 1917.
النموذج الثاني (1917-1933) الشرخ بعد ثورة أكتوبر في روسيا، والغياب اللاحق مدة 16 عاما للعلاقات الدبلوماسية، الذي تزامن مع تواصل التعاون الاقتصادي بين البلدين في 1920-1930. ما يميز هذا النموذج، هو التزامن (على ما يبدو غير المتوافق)، للتعايش بين الرفض التام من قبل الولايات المتحدة للنظام السياسي الذي ظهر في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وتوسيع التعاون الاقتصادي والتجاري، الذي أصبح واحدا من الركائز المهمة للتصنيع السوفياتي. هذا المزيج غير العادي أدى في النهاية للاعتراف الدبلوماسي بالاتحاد السوفيتي وبداية مرحلة جديدة من التعاون.
النموذج الثالث (1933-1945) - اعتراف الولايات المتحدة بالاتحاد السوفياتي، وإقامة علاقات دبلوماسية بينهما، والتحالف خلال الحرب العالمية الثانية، استنادا لعامل مواجهة عدو مشترك، والمشاركة في التحالف ضد هتلر. الانتصار على الفاشية، والهيكل الجديد بعد الحرب للبناء العالمي، جعل من كلتا القوتين، زعيمتين للعالم، تسعيان (من خلال نشر النماذج المجتمعية والسياسية الخاصة بهما) للهيمنة الإقليمية أو حتى العالمية. هذه الرغبة بالتحديد،  دفعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للتصادم، وحوّل المواجهة المحتملة، إلى تركيز على العديد من العمليات العالمية.

النموذج الرابع (1945-1991) - المواجهة العالمية وعصر الحرب الباردة، الذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفيتي. ويتميز نموذج التفاعل هذا، بالمواجهة ثنائية القطب بين القوتين العظميين، التي جرت على أساس أيديولوجي واضح، في ظل شروط الردع النووي المتبادل. وعلى مدى عقود من وجودها، تطورت في اتجاه تشكيل قواعد سلوك السياسة الخارجية المتبادلة ("قواعد اللعبة")، التي سجلتها المعاهدات والاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف، والتي منحت كامل هيكل المواجهة العالمية، عامل الاستقرار اللازم. محاولة إنعاش العلاقات في السبعينات، والبريسترويكا في النصف الثاني من الثمانينات، والتي ساهمت في التراجع الكبير وتليين المواجهة السوفيتية الأمريكية، لم تؤثر على أسس السياسة العالمية ثنائية القطب.
النموذج الخامس (1991-2014) - تفكك الاتحاد السوفياتي والذي سبقه انهيار المعسكر الإشتراكي، وتشكيل نظام عالمي جديد، والمحاولات الفاشلة من قبل روسيا الحديثة "للعودة" إلى المجتمع الدولي والاندماج، وايجاد مكان لها في عالم متغير، لم تؤد إلى خلق نظام عالمي جديد ونظام مستقر للعلاقات الدولية. بدلا من نظام القطبين، تشكل العالم أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، وذلك باستخدام وسائل وتكتيكات وإجراءات أحادية الجانب لملء الفراغ الجيوسياسي وتحقيق مصالحها الخاصة. هذا النموذج كان محكوما بمصيره قصير الأمد، لأنه أسفر عن تشوهات وعدم اتزان في التكوين العام بأكمله.
اليوم، على أنقاض النموذج الخامس للتعاون الروسي الأمريكي، يتم تشكيل نموذج جديد - السادس. معالمه لا تزال غير واضحة، وهو غير متكيف مع مصالح الدولتين، كما أن "قواعد اللعبة" لم تحدد بعد.
المواجهة الحالية
المواجهة الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا لا تكرر صراع مرحلة العالم ثنائي القطب. هي ظهرت بسبب ظروف أخرى ومحاولة من قبل روسيا لإجراء تدقيق في سياستها الخارجية في فترة التسعينات. وتغيير التكوين العالمي بحيث يصبح لمصالحها هناك موقع مساواة. استجابة الولايات المتحدة السيئة لمثل هذا التغيير بالطبع واضحة. فهي تنظر إلى خط السياسة الخارجية الجديدة لروسيا باعتباره تهديدا.
ما هي حجج الجانب الأمريكي في هذا الصدد؟ ما الذي تعتبره واشنطن تهديدا لها؟ أولا وقبل كل شيء، رغبة روسيا في تعزيز المواقف الاقتصادية والجيوسياسية في محيط حدودها. الولايات المتحدة تعتبر رغبة فلاديمير بوتين باستعادة  "امجاد" الاتحاد السوفياتي ، وإنشاء نظام تحالفات اقتصادية وسياسية وعسكرية، تحديا للولايات المتحدة والغرب.
انهيار العلاقات تزامن مع الانتخابات الرئاسية لعام 2016 في الولايات المتحدة. والحملة الإنتخابية تمر في جو من التفاقم غير المسبوق للمشاعر المعادية لروسيا. ما يقرب من 80٪ من الأميركيين ينظرون إلى روسيا كقوة معادية أو غير صديقة. المزاج المعادي لروسيا يتواجد كما لدى النخبة السياسية، لدى الناخبين لكل المرشحين.
بهذا الشأن، الحال في روسيا ليس أفضل. اليوم، أصبح العداء للولايات المتحدة أرضا خصبة للعديد من وسائل الإعلام المحلية لتشكيل الصورة المعادية في الوعي العام، والتي سرعان ما ستتحول إلى صورة نمطية.
هل ستتحول العلاقات الامريكية-الروسية المتعثرة إلى شراكة حقيقية أم أنها مستحيلة من حيث المبدأ؟ ما الذي ينبغي القيام به لاستعادة الحوار ووضع قواعد جديدة للسلوك في المستقبل؟
الحل موجود، وهو التعاون الانتقائي. أولا، من الضروري إقامة حوار، ثم استعادة التنسيق الثنائي، ومن ثم الانتقال للتعاون في المجالات التي تتداخل فيها المصالح المتبادلة للطرفين. تحقيق هذا سيكون صعبا، ذلك أن هذا التفاعل سيتم بناؤه في ظل المواجهة والعقوبات المتبادلة والعداء الصريح. ولكن في هذه الحالة، هل يمكن لوضع اليأس العام، أن يضعف تأثير العوامل السلبية؟
التدابير لاستعادة آلية الحوار والتنسيق
ينبغي أن تشمل هذه التدابير ما يلي:
- كف البلدين  حملات الدعاية  الاعلامية المشوهة للطرف الآخر.
- فتح حوار واسع بين الولايات المتحدة وروسيا على جميع مستويات الحكومة والمجتمع.
- توسيع جدول أعمال التعاون وتكثيف التبادل التجاري والثقافي والعلاقات العلمية وغيرها.
- وضع قواعد للسلوك الجيوسياسي لكلا البلدين.
- التوصل إلى تسوية مشتركة بشأن الصراعات الإقليمية (سورية، أوكرانيا وكوريا الشمالية وإيران، وغيرها). وبأشكال ثنائية ومتعددة الأطراف.
- تشكيل مجموعات ضغط صديقة لروسيا في المجتمع الأمريكي (وخصوصا في مجتمع الأعمال والأوساط السياسية والأكاديمية) والكونغرس، تكون معنية بالحوار البناء مع روسيا في مختلف المجالات.
كل هذا سيساعد على التغلب على أزمة الثقة وتشكيل ملامح علاقات جديدة في إطار ما يسمى بالتعاون الانتقائي في قضايا محددة، وسيصبح وسيلة حقيقية للخروج من الحالة التي وصلت إليها العلاقة بين البلدين. الشيء الرئيسي اليوم، هو ضرورة الحفاظ على حوار دائم من أجل استعادة الثقة المتبادلة، وتخفيف حدة الصراع، وتحقيق القدرة على الاستقرار والنمطية الإيجابية في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة.
زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى موسكو، والتي جرت في نهاية الأسبوع الماضي، مثال يوضح هذه الممارسة. بغض النظر عن الخلافات (قضايا الناتو والدفاع الصاروخي، وأوكرانيا وغيرها.) لا يزال الطرفان قادران على ايجاد سبل للتواصل. البحث المشترك عن حلول سلمية للصراعات الدولية وبالتحديد في سورية، والرغبة في تدعيم الاتجاهات الإيجابية في هذه المجالات، فضلا عن الرغبة في الفهم الأفضل لرؤية الشريك، يمكن أن تكون أساسا منتظما للتعاون المتكافئ الذي طال انتظاره، والضروري والحتمي للمضي قدما.
ما زال الأمل موجودا، في أن العلاقات الأمريكية الروسية، بعد الخروج من المأزق، ستحمل طابعا مستقرا قادرا على التطور لمرحلة الحوار الهادئ والبناء. التحدي الحقيقي، يكمن في قدرة الجانبين على الحفاظ على جهودهمها في هذا المجال.

نيزافيسيمايا غازيتا