ويكبيديا تتحول إلى أداة رئيسية لتشكيل الوعي الفكري عالميا

04.05.2016

من المظاهر الرئيسية للصراع السياسي والثقافي والحضاري في العالم، غياب توافق حول مصطلحات تعكس مفاهيما في شتى المجالات، الدينية والأمنية والسياسية والاقتصادية. ومن ضمن مظاهر الخلاف البارزة في العالم خلال العقود الأخيرة، ذلك الحاصل حول مفهوم الإرهاب مثلا، وهو خلاف يتسبب في حروب وعمليات إرهابية مضادة.
منذ ظهور البشرية، والاختلاف في الرؤى يجسد العنوان البارز للنشاط الفكري الإنساني ويكتسب طابع التنوع. وهو حصيلة منطقية وحتمية للعالم الجغرافي والديني. فقد ساعدت المعتقدات الدينية على تبلور مفاهيم معينة في بيئة دون أخرى. ولعبت الجغرافية دورا ثقافيا وفكريا ملحوظا، فالموقع الجغرافي لمجموعة بشرية، القرب من جماعات أخرى أو البعد عنها والعيش في عزلة هو من العوامل الحاسمة في تشكيل المنظومة الفكرية لهذا التجمع البشري، ونوعية العلاقات التي سينسجها مع الآخرين، قائمة على الحوار أو التوتر. وظهرت الموسوعات الفكرية بعد النهضة الأوروبية، وكانت البداية من بريطانيا، مع الموسوعة البريطانية الشهيرة ثم الفرنسية. وتعددت لاحقا الموسوعات التي كانت عنوانا دالا على التقدم العلمي لكل دولة. وعمليا، الدولة التي شهدت ازدهار جامعات كبرى هي التي حققت الريادة في الموسوعات.
وعندما يجري الحديث عن موسوعة غربية، نحن نتكلم عن رؤية غربية للعالم، رؤية تقوم على معايير المركزية الأوروبية في اختيار المواضيع والشخصيات وزاوية المعالجة. وهنا نجد أنفسنا أمام هيمنة فكرية لينة باسم العلم، إذ لا يمكن نفي الطابع العلمي الجاد والرصين عن هذه الموسوعات التاريخية، كما لا يمكن نفي رؤيتها الأحادية القريبة من سياسة دولها بما فيها الروح الكولونيالية، لكن عهد الموسوعات الكلاسيكية الورقية انتهى، فالعالم الرقمي يحمل تغييرات جذرية في تاريخ الإنسانية، بعضها يجري رصده للقطيعة البارزة التي يحدثها وبعضها يحدث تأثيرات تلمس مع مرور الزمن. ومن ضمن ما يحمله العالم الرقمي من تأثيرات، الموسوعة الرقمية ويكيبديا. وظهرت ويكيبديا سنة 2001، وطيلة 15 سنة، نجحت في إصدار نسخ بعشرات اللغات، خاصة الرئيسية منها مثل، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وفتحت مجال الكتابة لمئات الآلاف من الباحثين. وتعتبر من المواقع الرقمية الأكثر شعبية في العالم، فهي تأتي ضمن العشر الأوائل، لكنها تتميز بأنها مصدر ومرجع للمعرفة، بينما مواقع أخرى شهيرة مثل الفيسبوك وغوغول تؤدي وظائف مختلفة.
ويحاول بعض الأكاديميين التقليل من القيمة العلمية لهذه الموسوعة الرقمية، منتقدين غياب الأسلوب العلمي والتدقيق في المعطيات والمعلومات وسقوطها في بعض حالات التشهير. لكن الدراسات التي أنجزها باحثون، توصلوا إلى أن بعض النسخ ومنها الانكليزية والألمانية والفرنسية دقيقة مثل الموسوعات التاريخية، بل نعتقد أنها تتجاوز الموسوعات الكلاسيكية لأن ويكيبديا تسمح لكل الباحثين في إطار المسؤولية، بإضافة زوايا معالجة لم يكن يسمح بها في الماضي. والدقة التي أصبحت تتميز بها، هي التي تجعلها الآن مرجعا مقبولا في البحوث في الجامعات. والحديث عن زوايا المعالجة المختلفة هو تجاوز الرؤية أو النظرة المركزية الغربية للتاريخ وشتى حقول المعرفة التي هيمنت طيلة عقود، وهي خطوة رئيسية ودالة نحو عملية توحيد بعض المفاهيم عالميا، وخطوة ضمن مسيرة طويلة وشاقة، ولكنها الأولى في تاريخ البشرية.
وكالعادة، تحضر المقارنة في المشاريع العالمية، ويفرض الانتماء العربي والأمازيغي الحديث عن مدى حضور اللغة العربية في ويكيبديا وكذلك الزيارات، مثل الحضور العربي الضعيف في الإنترنت عموما هو نفسه في ويكيبديا. ويعود ضعف الإنتاج باللغة العربية في هذه الموسوعة الرقمية إلى عاملين: في المقام الأول، كسل الباحثين والإعلاميين في العالم العربي، الذين لا يخصصون ولو ساعة أسبوعيا للكتابة عن مواضيع دولية وعربية، تقوي من حضور العربية وتجعل الرؤية العربية حاضرة في الموسوعة الرقمية.
قد نستغرب إذا علمنا بوجود مقالات بلغات مختلفة عن مفكرين عرب ولكنها لا توجد باللغة العربية عنهم. ولو ساهم ألف باحث عربي أسبوعيا بمقال في ويكيبديا، وقتها سنتحدث عن قرابة نصف مليون مقال سنويا باللغة العربية، وبالتالي خمسة ملايين خلال عقد واحد. ولهذا، فنسبة زيارات ويكيبديا من العالم العربي لا تتجاوز 1٪ من عدد زيارات هذه الموسوعة. في المقام الثاني، رغم انفتاحها على جميع اللغات والثقافات والباحثين، تستمر الدول المتقدمة التي تتوفر على أكبر نسبة من الجامعات والخريجين بالشهادات العليا هي المؤثرة في الإنترنت، إذ تعكس نسخ ويكيبديا بلغات مختلفة، العمق في المستوى العلمي للجامعات في العالم.
لقد تحول الإنترنت إلى فضاء للتنافس بين الأمم والثقافات، ويجري الحديث عن صراع جيورقمي على شاكلة جيوسياسي. وكالعادة، سيستيقظ العرب متأخرين في وعيهم بأهمية الموسوعة الرقمية التي أصبحت تشكل الرأي العام العالمي فكريا.
جريدة "القدس العربي"