تركيا بين تقريرين
مع كل عام تتراجع مرتبة تركيا في تقرير «مراسلون بلا حدود» حول الحريات الصحافية. قبل أيام صدر تقرير العام 2016، حيث تراجعت مرتبة تركيا درجتين من الـ 149 إلى الـ 151. يزداد ثقل الرقم إذا عرفنا أن التقرير يشمل الوضع في 180 دولة.
في بلد بدأ قبل عشر سنوات مفاوضات العضوية المباشرة مع الإتحاد الأوروبي، فإن هذا الرقم يشكل فضيحة. وبدلاً من تلبية الشروط الأوروبية، فإن تركيا تبتعد عنها.
قبل حوالي الشهر تقريبا توقفت صحيفة «راديكال» لأسباب مادية، رغم أنها كانت تصدر ألكترونيا. لكن لا شيء في تركيا اسمه «لا سياسة». احد أبرز كتاب الصحيفة المتوقفة عن الصدور، وهو جنكيز تشاندار، يواجه المحاكمة بتهمة تحقير رئيس الجمهورية. تشاندار نفى التهمة، وقال إنه كان مستشارا للرئيس السابق طورغوت أوزال، كما أنه يعرف عن كثب آخر سبع رؤساء للجمهورية، وهو لا يمكن أن يلجأ إلى أسلوب لا يليق به ولا بتركيا ولا بعلاقته مع موقع رئاسة الجمهورية.
ينضم تشاندار إلى قائمة طويلة من أبرز كتاب تركيا الذين إما طردوا من عملهم أو زجوا في السجن. من بينهم حسن جمال ونوراي ميرت وقدري غورسيل والعشرات الآخرون. لكن المأساة في قضية تشاندار انه اتخذ قراراً بالتوقف عن الكتابة الصحافية كلية، وبذلك تفقد تركيا قلما كان له دور في التصدي لنزعة الاستئثار وقمع الحريات التي تشهدها منذ أكثر من ست سنوات.
تتوالى التقارير الغربية تحديدا التي تنتقد تركيا.
قبل أسبوع تقريباً أصدر البرلمان الأوروبي تقريره الدوري عن تركيا. «تقرير تركيا» تمت الموافقة عليه بغالبية ساحقة. ويعتبر التقرير الجديد الأكثر سلبية وانتقادا لأنقرة. لم يهمل التقرير ناحية من الحياة السياسية في تركيا إلا وانتقدها، من طريقة معالجة المسألة الكردية إلى المسألة العلوية وحرية الصحافة، وصولا إلى رئيس الجمهورية بالذات رجب طيب أردوغان.
يعرب التقرير عن قلقه من التباطؤ والتراجع والابتعاد عن تطبيق معايير كوبنهاغن في مجالات أساسية، مثل الديموقراطية ودولة القانون واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات وحرية الصحافة والاجتماع.
ودعا التقرير إلى اتخاذ خطوات سريعة لمنع الاستمرار في التعرض للصحافيين، وتهديدهم في لقمة عيشهم وحياتهم، وتقييد حرية البحث والحركة في الانترنت.
ويقول التقرير إن حل المشكلة الكردية ليس عسكرياً. لم يؤيد التقرير عمليات «حزب العمال الكردستاني»، وهو مصنف في لوائح الاتحاد كمنظمة إرهابية، لذا دعا الحزب إلى التخلي عن العنف والتوجه إلى الطرق السلمية والقانونية لتحقيق تطلعاته، لكنه رأى أن محاربة تركيا لـ «حزب العمال الكردستاني» يجب أن تكون متوازنة، وألا تتم معاقبة الشعب بكامله.
ورأى التقرير أن تأجيل الاتحاد الأوروبي نشر تقريره عن العام 2015 إلى ما بعد إجراء الانتخابات النيابية في تشرين الثاني الماضي أعطى انطباعا أن الاتحاد الأوروبي متخاذل في قضايا الحقوق الأساسية، مقابل التعاون بشأن اللاجئين المتدفقين إلى أوروبا، وهذا قرار خاطئ. وجدد التقرير دعوته الحكومة التركية إلى اعتماد المعايير الأوروبية في مجال حرية التعبير وحرية الإعلام. وإذ رحب بقرار المحكمة الدستورية إطلاق سراح رئيس تحرير صحيفة «جمهورييت» جان دوندار ومدير مكتب الصحيفة في أنقرة أرديم غول، دان تصريحات أردوغان ضد المحكمة الدستورية، وقوله إنه لا يحترمها. ودعا التقرير إلى إطلاق سراح المعتقلين من الصحافيين فوراً. وقال إنه يشعر بالحزن العميق لازدياد النزعات التسلطية لدى القيادة التركية. وعكس حزناً عميقاً على اعتقالات ومحاكمة العديد من الأكاديميين، الذين وقع أكثر من 1200 منهم على بيان يدعو لحل المشكلة الكردية سلمياً.
ودعا التقرير الحكومة التركية إلى إعطاء إشارات جدية لمكافحة الفساد. كذلك توقف التقرير عند التضييقات على النزعات العلمانية في البلد، داعياً إلى التشدد في الفصل بين الدين والدولة، واحترام المعتقدات الدينية لكل مجموعة ونمط عيشها.
ورأى التقرير أن ازدياد العنف ضد المرأة مثير للقلق، وأن القوانين التي تحمي المرأة فيها ثغرات كثيرة، لكنه ثمّن موقف الحكومة التركية في التعاون مع الاتحاد الأوروبي لحل مشكلة تدفق اللاجئين من تركيا إلى أوروبا.
غير أن كاتي بيري، معدة التقرير، قالت في تصريح لاحق إنها متشائمة من إمكانية التوصل إلى اتفاق لإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى أوروبا في حزيران المقبل. وقالت إن قدرة تركيا على تلبية شروط أوروبا خلال الفترة القصيرة المقبلة مدعاة للشك.
وتطرق التقرير إلى موقف أنقرة من تنظيم «داعش»، داعياً الحكومة التركية إلى اتخاذ إجراءات أكثر فعالية لمنع تسلل «داعش» إلى سوريا. وانتقد التقرير العمليات العسكرية التركية الموجهة لأكراد سوريا الذين يحاربون «داعش».
وزير شؤون الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية فولكان بوزكير قال فوراً إن التقرير مرفوض جملة وتفصيلاً، وسوف يعاد كما هو إلى مصدره كأنه لم يكن.
لم يمر أسبوع على تقرير الاتحاد الأوروبي حتى كانت وزارة الخارجية الأميركية تصدر تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان في العالم، وتفرد في القسم المتعلق بأنقرة انتقادات واسعة للحكومة التركية.
وقد ازداد عدد الصفحات المخصصة عن تركيا من 63 صفحة في السنة الماضية إلى 74 صفحة هذه السنة. ورأى التقرير أن انتخابات السابع من حزيران الماضية، التي فشل فيها «حزب العدالة والتنمية» بالاحتفاظ بمفرده بالسلطة، كانت «حرة وعادلة»، لكن الانتخابات المبكرة التي تلتها في الأول من تشرين الثاني كانت «بشكل عام حرة» من دون أن يصفها بالعادلة. إذ يقول التقرير إن انتخابات تشرين جرت في مناخ امني غير مريح، وبعض المرشحين لم يستطيعوا أن يقوموا بحملتهم الانتخابية بشكل حر. كذلك فإن العديد من وسائل الإعلام تعرضت للضغوط أثناء الحملة الانتخابية ما قلل من إمكانية وصول الناخب إلى المعلومة.
وركز التقرير على القيود المفروضة على حرية التعبير وحرية الصحافة والانترنت. ومنذ الأول من تشرين الثاني الماضي فإن عدد الصحافيين الذين اعتقلوا بلغ 30 صحافياً، ومعظم التهم الانتماء إلى تنظيمات إرهابية. كذلك اعتقل العديد من الصحافيين أو قدموا للمحاكمة بتهم تحقير رئيس الجمهورية. كما أن احد الصحافيين تعرض لاعتداء جسدي بتحريض من احد نواب البرلمان الموالين للحكومة.
اتسعت حالة الرقابة الذاتية لدى الصحافيين نتيجة الخوف من معاقبة الحكومة لهم. وقال التقرير إن حالات قمع وسائل الإعلام شملت أيضاً المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد. وبلغت ذروة التعرض لوسائل الإعلام عبر مصادرة الحكومة لوسائل إعلامية تابعة للداعية فتح الله غولين.
كما ذكر التقرير أن الحكومة ضغطت على قضاة كانوا يحققون في تهم موجهة لمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى في إجراء اعتبر ترهيبا للجسم القضائي.
واتهم التقرير الحكومة بأنها لم تتخذ الإجراءات الكافية لتحييد المدنيين في الحرب مع «حزب العمال الكردستاني». وقال إن العشرات من المدنيين قد قتلوا، من بينهم 20 طفلاً.
وتطرق التقرير إلى حالات قتل نساء لأسباب تتعلق بالشرف والعادات التقليدية، كذلك حالات تزويج القاصرات. كما لم تستطع الحكومة أن تحمي من العنف والاعتداء المنتمين إلى الأقليات الاتنية والدينية. وقال التقرير إن المسؤولين الحكوميين استخدموا خطاباً معادياً للأرمن والعلويين والسامية، وأن حالات متعددة مخالفة للحقوق ومزاجية أفضت إلى ارتكاب اغتيالات بحق هذه الأقليات.
يأتي تقرير الخارجية الأميركية تتويجاً لتصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد لقائه بأردوغان، قبل حوالي الشهر، حيث انتقد أوباما إجراءات أردوغان ضد حرية الصحافة، معتبرا أنها يمكن أن تجر تركيا إلى طرق لا تسرّ على الإطلاق.
ويرى السفير التركي المتقاعد أولو اوز أولكر إن العبارات الواردة في التقريرين الأوروبي والأميركي مدعاة للقلق، وعلى تركيا أن تأخذها على محمل الجد. لكن أوز أولكر قال إن تركيا لا يمكن أن تنقطع عن الإتحاد الأوروبي لأنه ليس عندها بديل عنه.
تعودت أنقرة على مثل هذه التقارير السلبية عنها. غير أن التأكيد على هذه الانتقادات مباشرة بعد اتفاق اللاجئين مع تركيا، ولقاء أردوغان مع أوباما يعكس واقعا متوتراً لم يصل سابقاً إلى هذه الدرجة، ويتناقض مع ما يقوله رئيس الحكومة احمد داود أوغلو من أن تركيا فتحت صفحة جديدة في العلاقة مع أوروبا ومع أميركا.
جريدة "السفير"