أسباب تراجع بلغاريا عن المشاركة في أسطول الناتو الدائم بالبحر الأسود

04.07.2016

قبل أسبوعين من قمة حلف شمال الاطلسي المقررة في وارسو، أعلنت بلغاريا بشكل غير متوقع أنها لا ترغب في المشاركة في إنشاء أسطول دائم لحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود. وبعد أشهر من المفاوضات التي تعاملت فيها صوفيا بشكل ودي وبناء، قام رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف فجأة، بمنعطف حاد، قائلا إن أسطولا مشتركا مع رومانيا وتركيا أمر غير مرض.

بطبيعة الحال، التحول البلغاري، يمكن شرحه بشكل بسيط، بالابتزاز الروسي في مجال الطاقة والضغط الرسمي والرشوة المباشرة، أو حتى عبر وحدات الـ"كي جي بي" الرهيبة. مثل هذه التفسيرات قد تعرض روسيا على أنها دولة أكثر تأثيرا مما هو عليه الأمر في الواقع، لكنها ستكون أكثر أريحية من الاعتراف بأن العديد من البلدان على الجهة الشرقية من حلف شمال الاطلسي، دون وجود أي ضغط روسي، لا يمكن الاعتماد عليهم، ولا يثقون ببعضهم البعض، وقد راكموا مجموعة من الضغائن تجاه الغرب.

مشروع إنشاء أسطول دائم لحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود، كان واحدا من مكونات استجابة التحالف العسكري للوضع الجديد في أوروبا الشرقية، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. الناتو منظمة لا تستعجل أبدا، والآن فقط، في بداية شهر يوليو/تموز خلال القمة في وارسو، سيتم اتخاذ القرارات النهائية الواجب اتخاذها بشأن أفضل السبل لتعزيز القوة العسكرية لأعضاء التحالف الشرقيين، "من أجل حمايتهم بشكل أفضل من تهديدات جديدة من روسيا".

الابتكار الرئيسي هنا هو قرار نشر أربعة آلاف جندي إضافي في دول البلطيق وبولندا (الف في كل بلد)، بحجة أن هذه الدول المطلة مباشرة على روسيا، "معرضة لخطر أكبر". ومع ذلك، هذا الإجراء يبدو قليلا، لأن الجهة الجنوبية الشرقية لحلف شمال الأطلسي، على الرغم من أنها مفصولة عن روسيا بالبحر الأسود، لا تزال تشعر بالخطر - وخاصة بعد انتشار الجيش الروسي بشكل كامل في شبه جزيرة القرم. وهكذا، ولد اقتراح آخر - خلق أسطول دائم في البحر الأسود لحلف شمال الأطلسي، سيتواجد هناك دائما، وليس فقط من وقت لآخر في مهام تدريبة.

في الواقع، هذا المشروع أفشلته بلغاريا مؤخرا. لأنه وفقا لاتفاقية مونترو لعام 1936، يحق للسفن الحربية من الدول غير المطلة على هذا البحر، أن تتواجد فيه لفترة لا تزيد عن واحد وعشرين يوما. وهذا يعني أن إنشاء أسطول حلف شمال الأطلسي الدائم، كان يقع على عاتق ثلاثة دول فقط، هي رومانيا وبلغاريا وتركيا، والسفن من الدول الأخرى ستنضم في بعض الأحيان لهم. ولكن بعد عدة أشهر من المفاوضات، التي كان يبدو أنها تسير على ما يرام، غيرت بلغاريا رأيها ورفضت المشاركة.

رفض بلغاريا المفاجئ، يبدو فعلا نتيجة لضغط خارجي قوي. أولا، رئيس الوزراء البلغاري بوريسوف قال انه غير معجب بتوجه هذا الأسطول المعادي لروسيا، ومن الغريب أنه لاحظ هذا الأمر الآن فقط. ثانيا، بلغاريا غيرت موقفها بشكل مفاجئ للغاية.

فكرة إنشاء أسطول دائم ظهرت قبل ستة أشهر. وعقدت جلسات المفاوضات حول هذا الموضوع واحدة تلو الأخرى. رومانيا وتركيا وأوكرانيا روجت بقوة لهذه المبادرة، ورحب زعماء الناتو بها، ودعمتها الولايات المتحدة، واحتجت روسيا وهددت بالانتقام. بلغاريا كانت في كل المفاوضات ودائما كانت تذكر بصراحة كعضو في الأسطول. ففي اجتماع 14 يونيو/حزيران، لوزراء دفاع حلف شمال الاطلسي في بروكسل، لم يكن لدى بلغاريا أي اعتراض. وبعد بضعة أيام – عدلت عن القرار.

وبالنظر إلى أن الانطباع الرئيسي في الغرب عن بلغاريا – هو فساد السلطات والعلاقات التقليدية مع روسيا وفقا للأصول السلافية المشتركة  - المسيحية الأرثوذكسية – واللغة الكيريلية، هذا قد يؤكد لدى البعض مرة أخرى أن بلغاريا هي حصان طروادة موسكو في أوروبا - الكرملين طلب بشدة والبلغار لم يتمكنوا من الرفض. وأفسدت بلغاريا وروسيا معا مبادرة منظمة حلف شمال الأطلسي.

ومع ذلك، عند النظر بشكل أكثر تفصيلا لهذا التفسير، تظهرالكثير من الأسئلة. منها ما هو بسيط جدا: إذا كان لدى الكرملين مثل هذا النفوذ القوي على رئيس الوزراء البلغاري بوريسوف، فأين كان هذا النفوذ من قبل؟ لماذا لم يستخدم؟ بويكو بوريسوف يعد السياسي البلغاري الأكثر معاداة لروسيا. خلال فترة حكمه، تم باستمرار دفن جميع المشاريع الرئيسية للتعاون الروسي-البلغاري. ودمرت قراراته المتسرعة نتائج سنوات من العمل ومليارات من الدولارات من الاستثمارات.

إذا كان من الممكن للكرملين بسهولة، فرض القرارات اللازمة على بوريسوف، فلماذا لم يتم فرضها، عندما رفض بوريسوف بناء خط أنابيب نفط بورغاس - الكسندروبوليس؟ أو بناء محطة "بيلين" للطاقة النووية؟ أو خط غاز "ساوث ستريم"؟ أسلافه في حكومة الاشتراكيين استمروا في العمل على "ساوث ستريم"، حتى بعد ضم شبه جزيرة القرم وبعد أحداث دونباس، على الرغم من حظر الاتحاد الأوروبي. ولكن فور فوز بوريسوف في الانتخابات – تم وقف البناء فورا. لماذا لم يستخدم الكرملين نفوذه في ذلك الحين، وانتظر قضية أسطول حلف شمال الأطلسي؟

لأنه لا يوجد أي ضغط للكرملين على بلغاريا، وانهار مشروع الأسطول الدائم بسبب المشاكل الداخلية، الاعتيادية ليس فقط بالنسبة لبلغاريا ولكن أيضا بالنسبة للعديد من أعضاء حلف شمال الأطلسي الشرقيين الآخرين.

لماذا غيرت بلغاريا رأيها قبل أسبوعين من القمة؟ لأنهم قبل ذلك لم يفكروا جديا في ما تم طرحه عليهم. مدى تأهيل جهاز الدولة البلغاري كان دائما على مستوى أقل من المطلوب، ودرجة الثقة لديهم في الاجتماعات الدولية مع ممثلي القوى الغربية – أيضا محل شكوك. هم لا يجرؤوا على المقاطعة وطرح أسئلة توضيحية، أو الاعتراض – فهذه مسؤولية كبيرة. من الاسهل بكثير أن يبقوا صامتين، والرد بالايماء والموافقة بصفة عامة.

وهكذا استمر الأمر تحت غطاء اتعدام المسؤولية العام، لحين تم حشرهم في الزاوية، ووقتها قام رئيس الوزراء بوريسوف بصفته الأهم، بتوبيخ الرئيس ووزير الدفاع ووزير الخارجية، وأعلن أنهم في النهاية وصلوا إلى موقف موحد - ضد مشاركة بلغاريا في الأسطول البحري الثابت.

أسباب الرفض البلغاري أيضا كان من السهل ملاحظتها في خطاب رئيس الوزراء، وهي فقط تتصل جزئيا بحقيقة أن بلغاريا لأسباب تاريخية، أصغر بكثير من دول أخرى في أوروبا الشرقية، وتميل للحوف من التهديدات الروسية. في خطابه، أكثر بكثير من شكواه من روسيا، اشتكى بوريسوف من عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات تركيا. من الواضح، أن القيادة البلغارية كانت غير مبتهجة للغاية حين أدركت أنه بسبب اتفاقية مونترو، أسطول الناتو الدائم، هو أسطول مشترك من ثلاث دول للناتو في البحر الأسود. وإذا كانت تركيا في مجال البحرية تملك أسطولا أقوى بعدة مرات من نظيره البلغاري، فإن الأسطول المشترك سيكون تحت قيادة تركيا على ما يبدو. وعلى القيادة البلغارية بيع هذا الخبر بطريقة أو بأخرى لناخبيهم، في ظل كل الأساطير الوطنية التي تقوم على النضال ضد تركيا.

وعلاوة على ذلك، تركيا قامت مؤخرا بإسقاط طائرة روسية – فما الذي يمنعها من اسقاط طائرة ثانية؟ حينها ستصبح بلغاريا العضو في أسطول البحر الأسود المشترك تحت قيادة تركيا على وشك (أو حتى داخل) حرب مع روسيا. وكل هذا سيحدث فجأة ودون إمكانية لبلغاريا للتأثير على مجرى الأحداث، لأن الأتراك، لن يقوموا بالتشاور المسبق مع البلغار في عملية صنع القرار. لمنع هذه المخاطر من الجذور، كان من الضروري التجرؤ على قول لا لقيادة حلف شمال الاطلسي.

ومع ذلك، الأمر لا يقتصر على تركيا. في الوقت نفسه، عندما رفض مشاركة بلاده في الأسطول، اشتكى بويكو بوريسوف بعاطفية شديدة للصحافيين، من أن أحدا من الزملاء الغربيين لا يعتمد على صوفيا في الصراع مع روسيا، ومن القرار القضائي حول محطة "بيلين" للطاقة النووية. فقد صادف أنه في مساء اليوم السابق، قبل إعلان القيادة البلغارية قرارها حول الأسطول، منحت محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية، روسيا 550 مليون يورو كتعويض من بلغاريا.

وهذا المبلغ ستضطر بلغاريا لدفعه لروسيا، بسبب حقيقة أن بوريسوف أنهى الاتفاق على بناء محطة "بيلين" للطاقة النووية. وألغى بوريسوف الإتفاق تحت ضغط قوي من الغرب، ومن ثم وجد فجأة أن أحدا لا يسعى في المقابل لحل مشكلة إمدادات الطاقة لبلغاريا أو وقف ارتفاع أسعار الكهرباء، أو دفع تعويضات للروس. أتعس شيء لبوريسوف في هذه القصة، هو أن الزيادة الحادة في تعريفات الكهرباء في عام 2013 في بلغاريا، تسببت باحتجاجات جماهيرية، انتهت باستقالته، وأدت إلى بقائه ما يقرب من العام في صفوف المعارضة.

والآن تحكم محكمة غربية بان بلغاريا الفقيرة ذات الثمان ملايين نسمة، يجب أن تدفع لروسيا 550 مليون يورو كتعويض. وها هو ثمن النصائح الغربية. بوريسوف من سنة إلى أخرى يغلق مشاريع الطاقة الروسية واحدا بعد الآخر - خط أنابيب النفط، وخطوط أنابيب الغاز، ومحطة الطاقة النووية، والغرب لا يرى ضرورة لتقديم شيء في المقابل، باستثناء دعم الاتحاد الأوروبي لوصل بلغاريا مع نظام نقل الغاز في رومانيا.

يحاول بوريسوف بدلا من المشروع الروسي، بناء مركز للطاقة على الساحل البلغاري في منطقة البلقان، ما من شأنه تقريب وجهات توصيل الغاز من روسيا، ومن بحر قزوين وإيران. وقال انه يناقش باستمرار الفكرة مع الزعماء الغربيين، وهم فقط بأدب بوافقون ولا يقوموا بأي خطوات عملية للمساعدة في التنفيذ.

وهكذا يستمر الأمر لسنوات عديدة. بوريسوف واثق تماما من أنه ينفذ كل الالتزامات أمام الغرب، ولا يفهم لماذا لا يحصل على شيء في المقابل. ويرى بوريسوف، أنه عندما يصر الغرب على إنهاء المشاريع مع روسيا، الأمر يعني تلقائيا أن بلغاريا ستتلقى بعض التعويضات في المقابل. ولكن مرارا وتكرارا لا يحصل بوريسوف على أي تعويض غربي: بوريسوف ينظر للأمر على أنه تضحية، في حين يعتبر الغرب هذا الأمر نوعا من التوافق البسيط مع القواعد المشتركة.

ونتيجة لذلك، تتراكم الاستياءات وخيبات الأمل جراء عدم تحقق التوقعات، لتصبح في بعض الأحيان أقوى من الخوف العام من التهديد الروسي في أوروبا الشرقية.