قلاع سوريا تمتد الى سور الصين العظيم
باتت الصراعات الدولية "الصامتة" اليوم أكثر ضجيجاً بأصدائها من سابقاتها في المجتمع الدولي، وباتت بؤر الصراع أكثر لهيباً بتعدد الأدوات المستخدمة وتنوع الأدوار الموزّعة بين الوكلاء، وبات العنصر الجديد هو الإشراف المباشر للأصيل بعد أن كان يتلطّى بقنوات اتصاله مع الوكيل.
وإذا أردنا الإضاءة على توزيع الأدوار الدولية والإقليمية وتداخل تلك الأدوار فيما بينها في بانوراما التحولات والصراعات الجيواقتصادية والجيوبولتيكية فسنجد ولادة عالم جديد سبق ميلاده الفعلي قمة روسيا – أفريقيا، وفي قمة بريكس 2023 أعلنت الولادة التي أثبتت وجود صراع حضارات، وأظهرت ترسيخاً واضحاً لإرادة "دول الجنوب"، هذه الدول ذاتها اجتمعت في (G77+ الصين) فتبلورت عملياً معالم النظام الجديد، وباتت الاصطفافات واضحة بيّنة، وكذلك المنتديات والكتل السياسية والعسكرية وكذا الاقتصادية، في صراع الحضارات برزت كل من الصين وروسيا في مقابل الولايات المتحدة الأميركية والغرب الأوروبي.
فيما يتعلق بالصين، فإن الدور السياسي الذي تلعبه اليوم على مسرح الساحة الدولية هو الأبرز والأقوى من أي وقت مضى مع تنامي المد الصيني من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، بحيث اتبعت الصين سياسة براغماتية "نفعية" تشاركية في تعاملها مع النظم السياسية الموجودة في المنطقة، ومضت بخطى ثابتة تحكمها المصلحة والوعي الجيو-سياسي الذي يتطلب دبلوماسية عالية، فالصين كانت معروفة بمبادئ العلاقات الدولية كما كان الحال في فترة ماوتسي تونغ. إلا أنها اتخذت في السنوات الأخيرة استراتيجية خارجية محورها تطوير الحوار والتنمية على المستوى الدولي، وتغليب البعد البراغماتي على البعد الإيديولوجي، كسياسة تتبعها مع دول الجوار الإقليمي وتتجنّب المواجهة مع الولايات المتحدة وتسعى إلى توسيع نفوذها في العلاقات الدولية عن طريق الانخراط في التكتلات والتحالفات مثل "بريكس" التي ستوفر لها مركزاً عالمياً مؤثراً.
لقد فتحت الصين سور دبلوماسيتها "المغلق" بنهج دبلوماسي جديد لملئ الفراغ الأميركي، وتطوير علاقاتها مع الدول التي أرادت الولايات المتحدة عزلها عن العالم، وإبقاءها في دائرة سيطرتها أو "إذلالها" لبسط سيطرتها عليها كحال (سورية – فنزويلا – إيران – روسيا – كوريا الشمالية) فولّدت هذه السياسة الأميركية فراغاً تنموياً – استراتيجياً وجد في الصين ما يشبع رغباته الاقتصادية ويلبي آماله التنموية..
وفي دعوة الرئيس السوري اليوم إلى بكين تأكيد صيني على وجودها كـدولة "ند" للولايات المتحدة الأميركية في "الهرم" العالمي، والمضي قدماً في تحدّي الإملاءات الأميركية، وفي بانوراما سريعة لهذا التحدي فإنّ المواجهة الصينية – الأميركية، والتي لا تزال إلى الآن بعيدة عن المواجهة العسكرية إنما كما يقال "صراع العروش" بدأت مع إعلان الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب الحرب التجارية ضدّ الصين، وسار بايدن على خُطى سلفه واضعاً الصين في خانة العدوّ الأوّل، والأخطر، بسبب خطواتها المُتسارعة، اقتصادياً وعسكرياً للتربّع على عرش القوّة الأعظم في العالم.
وفي السياق يأتي إعلان الرئيس الصيني من موسكو عن شراكة التنسيق الإستراتيجية الشاملة بين البلدين، سبقها الاتفاق التاريخي السعودي – الإيراني برعاية صينية وما رافقها من شراكة استراتيجية صينية - سعودية وصينية – إيرانية، وقبل أيام أعلن الرئيس الصيني رفع مستوى العلاقات بين الصين وفنزويلا وصولاً إلى شراكة استراتيجية قادرة على الصمود خلال استقباله للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في بكين، لتكون فنزويلا رابع دولة (بعد كل من روسيا وبيلاروسيا وباكستان) تتمتّع بهذا المستوى الذي يعدّ الأعلى في العلاقات الدبلوماسية الصينية مع دول العالم، وفي دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين مؤشرات إلى ارتقاء العلاقات السورية – الصينية إلى أعلى المستويات الدبلوماسية الصينية، إضافة إلى تلاقٍ سابق في الاستراتيجيات التنموية ما بين استراتيجية البحار الخمس التي أطلقها الرئيس الأسد في العام 2005 والحزام والطريق التي أطلقها الرئيس بينغ في العام 2014.
ولا ننسى بأنّ رؤية الصين للعالم هي رؤية خاصة ذات جذور تاريخية وجغرافية حضارية تختلف عن غيرها باعتبارها إمبراطورية ذات طابع دفاعي، وليس توسعياً، ولكن وفي ظل المتغيرات التي طرأت على المشهد الدولي في العقدين الأخيرين سعت الصين برؤية واقعية ممزوجة بالحكمة الكونفوشيوسية لأن يكون لها عمق وامتداد حيويان يحميان حدودها ويحاكيان طموحها ويحميانها استراتيجياً.
سوريا في الاستراتيجية الصينية
وتعدّ سورية في الاستراتيجية الصينية أحد أهم المفاصل في استراتيجيتها الشرق أوسطية، باعتبارها استثناءً جيوبولتيكياً في شرق المتوسط بشكل خاص وقلب الشرق الأوسط بشكل عام، والرهان عليها يحمل عدة جوانب اقتصادية وجغرافية وأيديولوجية وثقافية وحضارية لتشكّل قالباً كاملاً تعتبره الصين رصيداً استراتيجياً لها، فسورية ذات ثقل جيوسياسي لا يمكن تجاوزها في تثبيت وترسيخ المعادلات السياسية في المنطقة.
وكان للصين مواقفها الصلبة مع سورية منذ بداية الحرب فيها، حيث استخدمت حق الفيتو عدة مرات من أجل سورية وطالبت مرات عدّة برفع العقوبات الأحادية عنها ودعمتها في جائحة كوفيد -19 وفي الزلازال المدمّر أيضاً كانت المساعدات الصينية، كما سعت إلى طرح العديد من المبادرات التي تهدف إلى إيجاد مخرج للصراع في سورية.
ولطالما كان الموقف الصيني ثابتاً كنظيره الروسي قائماً على احترام القانون الدولي ورفض التدخّل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادة الدول ورفض استخدام القوة في العلاقات الدولية، وبالتالي استطاعت بكين تحديد ملامح سياستها الخارجية تجاه سورية بانسجام تام بين تحقيق مصالحها الوطنية، والدفاع عن المبادئ التي تؤمن بها وهو موقف مبدأي منسجم مع مبادئ سياستها الخارجية.
هذا الموقف الصيني يعبّر جلياً عن دبلوماسيتها الناعمة واعتمادها على سياسة ذكية تجاه القضايا العالمية وتعزيز نفوذها في معادلة توازنات القوى الدولية من خلال تمسكها بالمبادئ الدولية وعرضها بناء علاقات اقتصادية وسياسية تقوم على التعاون واحترام السيادة والاعتراف بها بشكل متبادل.
وسورية في السياسة الصينية تحقق هدفين، الأول: اقتصادي، يبرز من خلال دورها كدولة رئيسة مسؤولة في إعادة الإعمار والمشاركة المتوازنة في التنمية وإحلال السلام وفقاً لمبادئها القائمة عليها سياستها الخارجية.
الثاني: سياسي، يبرز من خلال دورها كدولة رئيسة مسؤولة عن الحؤول دون تدخلات خارجية واستعمال القوة كالتي أسفرت عن مصائب في أفغانستان والعراق وليبيا.
والهدفان، لا شك يتطلبان تحقيق الأمن الإقليمي، مقروناً بالأمن والاستقرار الداخلي وربما ما رأيناه من تحرك للدبلوماسية الصينية إقليمياً ذو ارتباط وثيق باستقرار سورية داخلياً الذي يستند إلى تعزيز الحوار العربي – العربي، والسعودي – الإيراني، والعربي – السوري، للوصول إلى توافق ورؤية سياسية إقليمية تنعكس على رؤية سياسية – اقتصادية داخلية تنبثق منها حكومة فاعلة تُناط بها عملية إعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي.
في المحصّلة، فإنّ السياسة الصينية تدرك جيداً حجم الملفات في المنطقة والثقل الأميركي المتراكم طيلة عقود مضت فيها ناهيك عن الصعوبات الناتجة عن تعدد القوى الفاعلة على الأرض السورية الملتهبة من الشمال باستمرار الاحتلال التركي وطموحاته، والطموحات الكردية الانفصالية المتمثلة بـ"قوات سورية الديمقراطية" إضافة إلى الاحتلال الأميركي في الشرق، والاحتلال الإسرائيلي للجولان واعتداءاته المستمرة على الأرض السورية، وبالرغم من ذلك فإنّ السياسة الصينية المتوازنة تقول بأنّ الحوار وبناء جسور الثقة، هو السبيل لبناء الاستقرار الداخلي الذي تعتبره بكين بيئة صالحة لأي جهد إنمائي اقتصادي، وهو ما تحتاجه دول المنطقة وليس سورية فقط، وتحتاجه الصين لملئ الفراغ التنموي – الاستراتيجي الإقليمي وإشباع الرغبات الاقتصادية وتلبية الآمال التنموية..
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع