"نظرية المؤامرة": المُتخيّل منها والحقيقي

02.12.2016

أشار استطلاع رأي قامت به «مؤسسة زغبي الدولية» في آب 2004 إلى أن قرابة نصف سكان نيويورك يؤمنون بأن الحكومة الأميركية كانت تعرف مسبقاً احتمال حدوث أعمال إرهابية على أراضيها ولكنها لم تفعل شيئاً إزاءها، فيما ذهب 70 في المئة من مستطلعي رأي في سبعة بلدان مسلمة أن العرب لا علاقة لهم بالتفجير إياه، وأن من قام به هم «الإسرائيليون أو الأميركيون».

إذاً، ليس العرب فقط مغرمين بنظرية المؤامرة الشهيرة، فهي أكثر حضوراً مما نتخيل، وإذا كان حدث مثل تفجيرات أيلول بهذا الحجم ترك كل هذه التأثيرات الفكرية المعززة لنظرية المؤامرة، فماذا يمكن القول عن عشرات الأحداث الأخرى الأكثر تأثيراً؟ ما هو سبب انتشار هذه النظريات وتكاثرها في مجتمعات يفترض أن لديها «شفافية وحرية الوصول إلى المعلومات والحقائق»، خلافاً للحال في بلدان العالم الأخرى حيث تمارس شتى أنواع الرقابة على تدفق المعلومات؟ وهل تستحق هذه النظريات الاهتمام أساساً، أم أنها مجرد تخريف يسلّي في ظل وجود حقائق كبرى ماثلة أمامنا تتناقض مع هذه الطروحات؟

هناك كثير من النقاشات في التعريف الدقيق لنظرية المؤامرة، لكنها ضائعة بين رفض علمي لها بسبب غياب شروطها المنهجية، وأخرى متوزعة على علم الاجتماع وعلم النفس الفرويدي بشكل أساسي، لكنها تتفق في سردية أن التآمر يتم عبر أناس «أقوياء أذكياء» وفي «الخفاء» غالباً، وإلا فلا معنى لاعتبارها مؤامرة إذا أُعلنت للعموم حيث ينتفي عنصر التآمر. يدخل ضمن نظريات المؤامرة (المثبتة) مثلاً قضية عقارات الهلوسة LCD التي كانت مشروعاً للتحكم بالعقل للاستخبارات الأميركية وتم كشفها في الستينيات، وفضيحة «ووترغيت» الشهيرة وغيرها.

أيضاً، دراسات نظرية المؤامرة وتوابعها قليلة عموماً وتذهب باتجاه نفيها وتسخيفها غالباً، وتضع الأسباب في خانة «قلة الوعي والفهم» و «الشلل المعرفي»، وفي أسباب نفسية ومجتمعية ترجعها إلى ضعف الحرّيات وغيرها من الأسباب التي قد يصح بعضها في حالات معينة (مقتل الأميرة ديانا). فيما يصبح تداول حالات أخرى ورفضها من باب الإغماض القسري للعقل والارتكاز على تفسيرات مغايرة للواقع ومستندة إلى تحليلات فيها الكثير من حسن النية، فمثلاً: هل تعدّ الخطة المعلنة من قبل الدول وإداراتها في ما يتعلق بعلاقاتها بالدول الأخرى وأولها تغيير الأنظمة ضمن نظرية المؤامرة؟ أهي «مؤامرة» أم «ممارسة سياسة»؟ وما هو الخيط الفاصل بينهما؟ ألا تعد هذه الأفعال قانونياً فعلاً مناقضاً لمبدأ استقلالية سياسات الدول التي هي عنوان الدولة القومية في العصر الحديث؟ وألا تعد هذه الخطط تعدياً مفضوحاً على قيم التعايش البشري وتضيف بؤراً تثير التوتر لعلاقات الدول بعضها ببعض؟

وإذا كان شرط التآمر هو «الخفاء» في حالات معينة، فإنه في حالات أكثر عمومية معلن وواضح ووقح أيضاً. فتعلن الإدارات الأميركية المتوالية خططها (مؤامراتها؟) لتعزيز الديموقراطية في بلدان العالم بصفتها المؤتمن على صحة كوكب الأرض من الديكتاتوريات والقمع والإرهاب حديثاً، معطية لنفسها الحق «حق القوة» لاستخدام مختلف السبل للوصل إلى الوضع الذي تراه مناسباً لها، وتدفع من أجل ذلك عشرات الملايين من الدولارات لتحقيق غايتها (ثمن كل خيمة من خيم ميدان كييف في أوكرانيا 170 دولاراً دفعتها منظمة «آن الأوان» الأميركية، وتكاد لا توجد معارضة سياسية على وجه الأرض لم تقبض من الخزينة الأميركية وهباتها). وهذه السياسات المعلنة تسمى خططاً ولا يعترف الأكاديميون في الغرب أنها تندرج تحت اسم المؤامرة، بل هي ضمن منظومة الحماية المطلوبة لمجتمعاتها من أخطار «الإرهاب» ولنشر ثقافة حقوق الإنسان والقيم الغربية، وهو تعريف حديث للمؤامرة ينتهي إلى أن ربط انتشار نظريات المؤامرة في مجتمعات العالم العربي كان بسبب غياب الحريات وصعود الإرهاب!

لنعد قليلاً إلى الربيع البرتقالي الشرق أوروبي الذي انطلق غداة التفكيك الغورباتشوفي للاتحاد السوفياتي، والذي أصرت الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها على اعتباره نصراً للديموقراطية الغربية ومُثلها، ورفضت اعتباره مؤامرة منها على هذه الحكومات كما الشعوب. فعدا عن الإذاعات الموجهة (أوروبا الحرة) من ثم معاهد الأبحاث المتكاثرة وجمعيات المجتمع المدني الممولة بالكامل عبر مراكز الأبحاث هذه (معهد آينشتاين نموذجاً، أسسته الاستخبارات المركزية الأميركية)، وفوق ذلك تدريب الناشطين على تقنيات الثورات اللاعنفية، كل هذا ماذا يمكن تسميته؟

تحيل بعض الدراسات الغربية في تعاملها مع النظرية على العوامل النفسية في انتشارها وفي ترسيخ قبولها لدى الجمهور مرجعة كل ذلك إلى ما يسمى «شللا معرفيا» وإلى ربط الموضوع بغياب الحريات الليبرالية ومحاربة الإرهاب، من دون الانتقال بالنقاش إلى تلك السياسات الدولتية العابرة للقارات مثلاً في حالتنا العربية التي لا يصح أبداً القول إنها مجرد سياسات مرتبطة بمصالح الدولة ونطاقها الجيوسياسي وموقعها على الخريطة الدولية، إن هذا محض هراء. تضع مثلاً صحيفة «النيويورك صن» (24 آذار 2005) في تعليق افتتاحي لها عنواناً عريضاً: «ارموا الحطب في موقد الثورة» وتعني الثورة البرتقالية في روسيا مضيفةً: «إنها ـ الثورة ـ لم تحدث من تلقاء نفسها لقد احتضنتها وأرضعتها المجموعات الأميركية للدفاع عن الحقوق كما الطفل الرضيع»، ألا يعني هذا خطوات عملية ملموسة للتدخل في روسيا؟

لم ينس العرب «سايكس ـ بيكو» الذي قضى على مشروعهم التوحيدي إلى أجل غير مسمى، ولا يمكن نسيان أن نكبة فلسطين تمت بمؤامرة علنية إلى آخر هذه السلسلة التي أضاف لها «الربيع العربي» المحروق كثيراً من العناصر ليس أهمها استخدام تقنيات حديثة مثل الحشود عبر منظمات المجتمع المدني وتدريبه لتفجير الدول داخلياً، والغاية دائماً أن تدور هذه الدول في الفلك الغربي والأميركي تحديداً، من دون إغفال أن الأنظمة العربية هي أحد الشركاء المهمين في تحقيق هذه «المؤامرات» على شعوبها.

قد يبدو هذا الكلام استعادة بائسة ومملة لأنصار الحداثة وما بعد الحداثة، ولكن الحقيقة المغيبة دوماً هي أن الإيمان الأعمى بنظرية المؤامرة هو حقاً خطأ كبير، لكن الإعراض عن الاقتناع بها أيضاً هو خطأ معرفي، فالحمار المحمل بالذهب، كما يقول مثل سلافي، يقتحم أعتى الحصون.