عن «موضة» التطبيع وأنسنة العدو

22.08.2016

أثارت مباراة الجودو، الّتي جمعت المصريّ إسلام الشهابي مع اللاعب الإسرائيلي أور ساساون في الدّور الثاني والثلاثين من أولومبياد ريو ديجانيرو، جدلاً واسعاً على المستويين الإعلاميّ والشعبيّ.

الشهابيّ، الّذي خسر النزال خلال دقيقتين اثنتين برصيد مئة نُقطة مقابل لا شيء، رفضَ مُصافحة خصمه بحسب التقاليد المعمولِ بها في هذا الصنف من الرياضات القتالية. سريعاً، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بين مهنّئٍ وشتّام. البعض بارك سلوك الشهابي، ووصفه بالبطل. البعضُ الآخر اعتبرَ أنّ لاعب الجودو المصريّ قدّم هديّةً ممتازةً لوسائل الإعلامِ المعادية الّتي حوّلت الحدث إلى مطيّةٍ تحكي عن داعيةِ سلامٍ إسرائيليّ لم يجد يداً عربيةً تُصافحه.

الشهابيّ بدا في موقفه أقربَ إلى من شربَ نهر التطبيع وغصّ بساقية المصافحة. تيهُ الهوية هذا يُشبه وجه القاهرة المكبّلة بحبالِ كامب دايفيد 1978. في مصر سفارة لدولةِ الاحتلال، وعلمُ إسرائيل يُرفرف فوقَ النّيل من دون أن يجد من يُنزله كُرمى لدماء شهداءِ حرب أكتوبر 1973.

المزاج الشعبيّ المصريّ ما زالَ يرفضُ فكرة التطبيع برغم «الغزل» الحكوميّ بين الدولتين. سفارة مصر في تلّ أبيب احتفلت بمرور 64 عاماً على «ثورة 23 يوليو». الأعلامُ المصريّة نُشرت في محيطِ السفارة. بينامين نتنياهو والرئيس الإسرائيلي ريفلين ريبلين كانا على رأس قائمة من حضروا الحفل. رئيس الحكومة الإسرائيلية هنّأ الشعب المصريّ بمناسبة عيد الثورة، وقال «إن مصر دولةٌ رائدة في الشرق الأوسط، وتلعب دوراً محورياً في القضية الفلسطينية». حين صافح السفير المصريّ حازم خيرت الرئيس الإسرائيلي، لم يثُر الإعلام العربيّ، ولم يَنل الحدث نصيبه من المُساءلة. الصورة التي جمعت خيرت مع نتنياهو وريبلين مرّت وكأنّ شيئاً لم يمرّ. يبدو أنّ كيّ الوعي المصريّ قد نجح في إعادة تعريف إسرائيل على أنّها «واحدةٌ من دول الجوار».. هكذا فقط، من دونَ إضافاتٍ أو هوامش قوميّة أو تاريخية.

إذا كانَت مصرُ قد طوَت جراح العدوان الثلاثي 1956، وتعامت عن نكسة حزيران 1967، وتناست حربَ تشرين 1973، واستكانت لكلّ مفردات التطبيع مع إسرائيل، فإنّ «بعضَ لبنان» ليس أفضل حالاً.

كثيرةٌ هي الآراء التي تعتبر زياد دويري واحداً من أفضل السينمائيين لبنانياً وعربيّاً. شريطهُ الروائيّ الأوّل «بيروت الغربية»، الّذي وثّق الحرب اللبنانية من وجهة نظرِ مراهقَين اثنين، منحَ صاحبه حضوراً وازناً على خريطة السينما المحلية. صاحب «ليلى قالت هذا» أثار ضجة واسعةً حين نقل معدّاته إلى فلسطين المحتلّة في العام 2012، حيث أنجز فيلمه الروائي الثالث «الصدمة» بالتعاون مع ممثلين بينهم إسرائيليّون، وبرعاية منتجٍ منفّذٍ إسرائيلي.

بدايةً، لا بدّ من التأكيدِ على أنّ نقاشَ فعلِ التطبيع من دون التطرّق إلى مضمونِ الفيلم هو نقاشٌ ناقصٌ وغيرُ مجدٍ، الأمرُ الّذي سيدفعنا إلى تجاوز هذا المفصل لجهة تناولِ نقطةٍ أخرى تدورُ في الفلكِ ذاته، والحديثُ هنا عن موقفِ دويري من الأصواتِ الرافضةِ لفكرةِ عمله في «إسرائيل» وتعاونه مع مواطني دولة العدوّ.

في معرض ردّه على منتقديه، ساقَ دويري جملةَ حججٍ قد تبدو مقنعة بدرجة ما، حيث برّر ذهابه إلى إسرائيل برغبته في «الاقتراب من البيئة الحقيقية للأحداث» وقال إنّه أسندَ واحداً من أدوارِ الفيلم إلى ممثلة إسرائيلية بسبب «عدم توافر ممثلة عربية تقبل بالتعرّي أمام الكاميرا»، أمّا الإسرائيليون المشاركون في صناعة الشّريط، فقد قال دويري «إنّهم، جميعاً، مع فلسطين».

لو اكتفى دويري بتفنيدِ الاتهاماتِ الّتي وُجهت إليه، لاستطاع أن يحافظَ على «منصّة مهنيّة» يُحاجج من خلالها منتقديه، لكنّ المخرج اللبناني، وفي حديثٍ له مع جريدة «النهار»، قالَ كلاماً أقلّ ما يُقال فيه إنّه «مُعيب» وذلك في سياقِ توصيفِ من هاجموا «صدمته» بحجّة التطبيع.

«ثمة تيارات تافهة تستمر 10 أو 20 أو 40 سنة، ثم تزول. وثمة أشخاص تافهون، «بعدن ناتعين» العلم الفلسطيني ويرفعون شعار تحرير فلسطين من خلال مقاطعة الفنان، سواء أكان زياد دويري أم أمين معلوف. ولكن ليس لهؤلاء أيّ تأثير في المجتمع. إنهم جراثيم موجودة بسبب وجودنا، وتختفي مع اختفائنا. ولكن، عندما نختفي نحن، سنترك أثراً في التاريخ والثقافة، في حين هم سيختفون كالبخار. في النهاية، مهما فعلوا، نحن ماضون في طريقنا».

بهذه العبارات الطائشة، وصف دويري من ما زال يحمل علم فلسطين، وسخّف الأصواتَ الّتي سجّلت نقطة نظامٍ على فعل التطبيع الّذي قام به. حسناً، يبدو أنّ رفضَ التصالح مع وجودِ كيانٍ مسلّحٍ يحتلّ جزءاً واسعاً من الأرضِ الفلسطينية، لم يعد يروقُ للكثيرين.

في محصّلة القول، واضحٌ أنّ «القضية الفلسطينية» لم تعد تعني شيئاً لنسبةٍ لا بأس بها من العرب. أنور عشقي، أمين معلوف، زياد دويري وعددٌ لا بأس به من وجهاءِ المعارضة السورية الّذين باركوا معالجة جرحى ما كان يعرف بـ «جبهة النصرة» في «الأراضي الإسرائيلية»، ليسوا أفراداً، بل حالات لم تعد تجدُ حرجاً فكرياً أو أخلاقياً في التطبيع العلنيّ مع إسرائيل. سلاحُ المقاومة، الّذي استعاد الجنوب وحمى غزّة وشكّل أداة ردعٍ منعتِ الإسرائيليين من التوسّع لبنانياً وسورياً، ربمّا يعتبره بعضُ «أنصار التطبيع» جزءاً من منظومةٍ إرهابيةٍ لا بدّ من الاشتغالِ على تغييبها ثقافياً.

في السّياسة، قد تنصاع الحكوماتُ لجملة معطياتٍ تتعلّق بالراهنِ ومقتضيات المرحلة. الدولة السورية وضعت خلف ظهرها أربعة قرونٍ من الاحتلال العثمانيّ ووقّعت، العام 2004 اتفاق التجارة الحرّة مع أنقرة، وفتحتِ الحدود مع دولةٍ ما زالت تحتلّ لواء اسكندرون منذ تموز 1938. الحديث عن هذه الأرضِ السليبة طفا على السطح مجدداً بعيد توتّر العلاقات بين سوريا وتركيا خلال الحرب الراهنة، ولكنْ حين تدورُ عجلة التسويات، وتعودُ العلاقات بين البلدين الجارين إلى سابقِ ودّها، ستخفت الأصواتُ الرسمية المنادية باستعادة اسكندرون، ولن نتحسّس انفعالاتٍ تُذكر حين يُطلق أحدهم على هذه البقعة من الجغرافية اسم «هاتاي».

حين بدأت الأزمة السورية، اتهمت أصواتٌ معارضةٌ كثيرةٌ الدولة السورية بـ «العداءِ النظريّ» لإسرائيل، وسألوا عن تاريخِ إطلاقِ آخر رصاصةٍ دمشقية باتجاه الجولان المحتلّ. الردّ الرسميّ جاء عبر واجهاتٍ إعلامية قالت إنّ الصمت المرحليّ لا يعني التنازل عن شبرٍ سليب.

الأردن ودود جداً مع إسرائيل، ومثله مصر وأغلبُ الخليج. هذا يُمكن أن يُسكت عنه في السياسة، أمّا على مستوى إرادات الشعوب، فإنّ الحقنَ الّذي يسوّق للتطبيع على أنّه «أنسنة» لا بدّ من مواجهته ثقافياً وعدمِ تمريره ضمن سياقِ العاديات الّتي لا عار فيها.

حين دعا بابا الفاتيكان النجمَ المصريّ محمد أبو تريكة لخوضِ مباراةٍ وديّة يُشارك فيها لاعبون إسرائليون، اعتذرَ أبو تريكة عن عدمِ تلبية الدعوة وعلّق قائلاً «عفواً.. نحنُ نربّي أجيالاً». المغربيّ مروان الشمّاخ رفضَ اللعب في إسرائيل حين سافر فريقه السابق (بوردو / فرنسا) لمواجهة نادي مكابي حيفا في الأرضِ المحتلة. عزّة البسباس، بطلة سلاح المبارزة التونسية، اعتذرت عن خوض نهائي بطولةِ العالم ضدّ الإسرائيلية ناعومي ميليس، واستغنت عن الميدالية الذهبية لصالح تسجيلِ موقفٍ وطنيّ وأخلاقيّ من فعلِ التطبيع. هذه المواقف وبعضُ ما يُشبهها، تشرح ما كان يجب على الشهابيّ أن يفعله في الأولومبياد، وربمّا تشرح ما ينبغي على الحكوماتِ العربية أن تفعله أيضاً...

نشرت للمرة الأول في "السفير"