مسيرة صعود روسيا وعلاقتها بانهيار الاتحاد الأوروبي

29.06.2016

نريد اليوم أن نسلط الضوء أكثر على الموقف الروسي الذي يشكل حجر الرحى في تحديد مستقبل العالم ومعه مستقبل الكثير من الشعوب التي ترى من خلاله ضوءا في آخر النفق، بعد أن عاش العالم فترة ظلام حالك فرضها عالم القطبية الواحدة الذي سار بلا قوانين دولية واعتمد بدلا عنها قوانينه الخاصة التي تضمن توسعه وتحقيق المزيد من المكاسب والمصالح، معتمدا معايير مزدوجة غير آبه بقيم العدالة والحرية والقانون الدولي وحتى بمشاعر الشعوب التي يبقى السلام العالمي أهم أهدافها وأحلامها.
بدأت سيادة عالم القطب الواحد مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 بثورة ملونة، لعل تسميتها لم تكن واضحة آنذاك لأن قادة تلك الثورة كانوا هم أنفسهم قادة الاتحاد السوفييتي الذين استغلوا تعطش الناس للحرية والعيش الكريم - وهذا حق لهم كما هو حق لكل الشعوب في العالم – ليدمروا إمكانيات بلد عظيم وإمبراطورية كبرى باستسلام مخز ومخجل، لا يجد المحلل له مبررا إلا باتهام تلك النخبة الحاكمة آنذاك بالخيانة، لأنها ببساطة لو لم تكن كذلك، لغيرت النظام وأوقفت الظلم الذي يتعرض له الشعب الروسي والشعوب الأخرى المتحالفة معه، وحافظت في نفس الوقت على الدولة وبنيانها، ولم توقع بيدها على صك استسلام عجيب، وكأن الاتحاد السوفييتي قد خسر حربا عسكرية كونية. حتى القرم التي التي تعتبر أكثر من ضرورية لروسيا لأسباب كثيرة ليس وجود الأسطول الروسي فيها إلا واحدا منها ، أعطاها يلتسين لأوكرانيا على الرغم من أن طلب الأوكرانيين كان أثناء المفاوضات حول استقلال أوكرانيا خذوا القرم وأعطونا أوكرانيا ولكن يلتسين استصعب - بناء على نصيحة أحد مساعديه- إعادة كتابة الاتفاق وأعطاهم القرم حتى لا تتم كتابة الاتفاق من جديد! 

لقد استغلت هذه الشخصيات "الثورية الملونة" تطلع الشعب الروسي المشروع نحو الحرية الإنسانية والاقتصادية وفككت في غفلة من الزمن إمبراطورية كبيرة وحولت روسيا إلى بلد يئن تحت فقر مدقع (السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي والتي ما أزال أحمل بعض الذكريات المؤلمة حول الفقر الذي رأيته آنذاك في تلك الفترة حيث كنت في زيارة عمل إلى روسيا)، لقد كانت الحرب على يوغسلافيا عام  1999 أيضا محطة مؤلمة جدا للشعب الروسي،  عندما كانت روسيا بقيادة يلتسين تتفرج على مصيرها وكرامتها المهدورة.  ولم يبدأ  التغير إلا عام 2000 بوصول رجل رفض هذا الهوان وقرر مع مجموعة من المخلصين لروسيا تغيير اتجاه البوصلة، إنه فلاديمير بوتين. استلم بوتين رئاسة روسيا في بداية عام 2000 وبدأت روسيا تتغير تغيرا سريعا من خلال محبة الشعب الروسي الكبيرة لوطنه وقيادته، هذه القيادة التي بدأت بإعادة توجيه العربة ووضعها في المسار الصحيح، كما بدأت بالانتباه إلى هموم الشعب الروسي وحل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ثم عملت على تحقيق طموحاته الوطنية والإنسانية - بلا شيوعية، بلا نازية أو شوفينية قومية، بلا ليبيرالية جديدة جشعة لا ترحم، بل بإنسانية تعتمد القيم والمصالح الوطنية ( النظرية الرابعة لأكسندر دوغين) ولتبدأ روسيا الإنسانية  بالصعود نحو القمة التي يجب أن تكون متربعة عليها.  

حصل ما حصل وبدأ محور القطبية الأحادية مخطط السيطرة على العالم، كانت أوروبا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي تبني كياناتها الاقتصادية التي تهدف إلى التكامل الاقتصادي بين الدول الأوروبية، وفجأة وبقفزة واحدة عام 1992 ظهرت اتفاقية ماسترخت التي أسست لظهور الاتحاد الأوروبي في 1 نوفمبر عام 1993. لقد تم التحول السريع من فكرة التكامل الاقتصادي إلى فكرة إنشاء الاتحاد الأوروبي من قبل محور القطبية الواحدة برئاسة الولايات المتحدة ليكون الاتحاد الأوروبي بديلا قادرا على استيعاب وضم دول أوروبا الشرقية (دول حلف وارسو السابق) وضم دول من الاتحاد السوفييتي السابق والاستمرار في التوسع وقضم أراض جديدة من حلفاء روسيا السابقين بهدف ضمان الوصول إلى روسيا ضعيفة والسيطرة على خيراتها وخصوصا الطاقة في روسيا ومنها الغاز الروسي الذي يغذي أغلب الدول الأوروبية، فقيادة  محور القطب الواحد عرفت  أن انتشار إمبراطورية القطب الواحد مرتبط بالسيطرة على روسيا. تم إدخال دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي مع دول البلطيق عام 2004 ، في هذا الحين كانت روسيا تتغير تغيرا سريعا انعكس على حياة الشعب الروسي بشكل واضح إلى الأفضل، والتف الشعب الروسي المشهور بحبه لوطنه حول قيادته الجديدة.
استعادت روسيا وجهها الجميل وحيويتها المعروفة وبدأت تتلمس طريق العودة إلى ما كانت عليه سابقا، لكن المحور الأمريكي الغربي استمر أيضا في العمل على انتزاع أوراق جديدة من روسيا، فكانت محاولة الاستيلاء على أوسيتيا الجنوبية من قبل جورجيا عام 2008، لكن الاستجابة الروسية لنداء المصالح الوطنية الروسية حركت روسيا الخارجة من تحت الركام  فهاجمت جورجيا واستطاعت المحافظة على مصالحها ومصالح الناس في جمهورية اوسيتيا الجنوبية. لكن هذه المعركة البسيطة كشفت ترهل الحالة العسكرية الروسية الناتجة عن تفكيك الاتحاد السوفييتي، فبدأ بعدها مشوار إعادة الحياة والتطوير إلى الجيش الروسي. 

الهجوم الأمريكي الغربي الأكثر أهمية على روسيا كان من خلال أوكرانيا، فقد كان هذا المخطط يريد إلحاق الأذى الأكبر بروسيا من خلال السيطرة على أوكرانيا وإلحاقها بالاتحاد الأوروبي وبالتالي إلحاقها بالمحور الأمريكي، وخاصة أن أوكرانيا هي ممر الغاز الروسي إلى أوروبا وهي تضم شبه جزيرة القرم التي يرسو فيها الأسطول الروسي، وسيكون نجاح مثل هذا المخطط ضربة كبيرة لروسيا ليس فقط من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية بل من نواح أخرى كثيرة بما تمثله أوكرانيا تاريخيا بالنسبة لروسيا. لكن القيادة الروسية كانت قادرة على الدفاع عن مصالحها التاريخية والوطنية وكان أول ردودها هو السيطرة على القرم بطريقة ذكية مخططة بدقة عالية وإعادتها إلى روسيا، وكان الغرب ينظر إلى المشهد بذهول كبير ولا يستطيع فعل شيء لأن تدخله في موضوع القرم كان سيؤدي حتما إلى عواقب وخيمة على العالم بأكمله، كما استطاعت روسيا مع الرافضين للإنقلاب في شرق أوكرانيا أن تؤسس لكيان جديد (نوفا راسيا) والذي يقطنه غالبية شعبية ذات أصول روسية ومؤيدة لروسيا. 
إن الفشل الغربي الأمريكي في أوكرانيا عام 2014 يمثل  بداية التحول في صياغة معادلات جديدة في أوروبا،  فأوروبا الحالمة بالكعكة الروسية، بدعم وتوجيه أمريكي، والتي تستطيع من خلالها فقط أن تعيد التوازن إلى اقتصادها المتعثر، وجدت نفسها عاجزة عن الاستمرار في التقدم نحو روسيا بهدف الاحتواء والسيطرة، وبدأت شعوب الدول الأوروبية الغنية تتساءل عن جدوى هذا الاتحاد الذي يتحمل أعباء دول كثيرة مفلسة، تم ضمها أساسا بهدف إضعاف روسيا والسيطرة عليها، فإذا ظهر أن هذا الخيال بالسيطرة على روسيا غير قابل للتحقق فسوف يؤدي ذلك إلى تفكك الاتحاد الأوروبي بشكل طبيعي لأنه خسر مبرر وجوده، لقد كان الشعب البريطاني أول العارفين بهذه الحقيقة فسارع إلى الانفصال لتجنب ما يمكن تجنبه من السلبيات بعد اتضاح فشل المشروع الأوربي، وستتبعه الشعوب الأوروبية الغنية الأخرى التي ستجد مصلحتها في مكان آخر حيث تنفق أموال بلدانها على شعوب أخرى لأهداف توسعية أثبتت الوقائع أنها لن تحقق. إن خروج بريطانيا اليوم من الاتحاد الأوروبي هو مؤشر على عدم قدرة هذا المشروع الأوروبي على إظهار صورة مشرقة له أمام الشعوب الأوروبية لأنه لم يستطع أن يكون مستقلا ولم يستطع أن يشكل قطبا عالميا جديدا بل شكل تابعا للراعي الأمريكي القائد الأوحد لمحور القطبية الواحدة.

لعل عصر الشعوب قد بدأ، ولعل كل الحروب التي تحدث في العالم اليوم ستساعد في تشكيل وعي جماعي لدى مختلف الشعوب يرفض منطق المعايير المزدوجة ويؤكد على حق الشعوب في الديمقراطية الحقيقية التي لم تعد موجودة في أوروبا على المستوى السياسي، لأن إرادة الشعوب في مكان وإرادة النخب الأوروبية الحاكمة في مكان آخر، ولعل هذه الصحوة ستجبر النخب الأوروبية على القرارات التي تمثل مصالح الشعوب الأوروبية. إن الوعي الذي تعيشه الشعوب اليوم يشبه الوعي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية بضرورة العودة إلى قيم الحرية والعدالة والقانون الدولي، وهذا سيؤدي إلى انفراط عقد الاتحاد الأوروبي الذي لم يتأسس لتحقيق مصالح الشعوب الأوربية بل لتحقيق مصلحة الولايات المتحدة ومن ورائها النخب المالية الحاكمة في العالم.
لقد فعلها الصمود الروسي وسبب التغير على مستولى أوروبا وفرض معادلات جديدة على الساحة الأوروبية والدولية، كما فعلها الصمود السوري وقبله صمود المقاومين في لبنان وفرض معادلات جديدة في منطقة الشرق الأوسط، إنها قيم محور "الإنسانية الخلاقة" (لقد استخدم هذا المصطلح أحد رجال الدين السوريين الشيخ شعبان منصور في تعليقه حول "الفوضى الخلاقة" عندما قابل وزير الدفاع الروسي في زيارته الأخيرة لسوريا)، إنها القيم التي يحملها محور التعددية القطبية ويحملها الصامدون اليوم على الأرض السورية ولسان حالهم يقول: نحن لا نريد الاعتداء على أحد, نريد الدفاع عن قيمنا ومصالحنا وبلداننا، ونحن سنبقى صامدين وصابرين حتى يتحقق النصر لنا على كل المعتدين علينا سواء أكانوا أصيلين أم  وكلاء  إنها مسألة وقت ومسألة صبر وسيتضح النصر الحاسم قريبا.