ليبيا: الأجندة الأميركية لضربات سرت

08.08.2016

لم تكن الضربات الجوية الأميركية ضد أهدافٍ لتنظيم «داعش» في مدينة سرت الليبية مُفاجئة، مثلما لم يكن كذلك «الكشف» عن وجود عسكريين فرنسيين في الشرق الليبي، او مستشارين عسكريين بريطانيين في مدينة مصراتة في الغرب، التي يُنقل جرحاها جراء المعارك مع التنظيم المتطرف إلى ايطاليا للعلاج. كما قد لا يكون مُفاجئاً يوماً سماعُ أخبارٍ عن وجود مستشارين عسكريين روس في بنغازي. فالحلبةُ الليبية، كما السورية، كما العراقية، «تتسّعُ للجميع»، وفي عزّ المعركة الرئاسية الأميركية، تحتاج المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون إلى مثل هذه الضربات، وإلى أن يفتح لها باراك اوباما «جبهة حرب» جديدة ضد الإرهاب، خصوصاً في الدولة التي كان لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة دور كبير في ايصالها إلى المستنقع الذي وصلت اليه.

إخراج اميركي لمعركة محسومة
لكن المعطى الانتخابي الأميركي لا يختصر وحده هدف الضربات وتوقيتها، والحاجة لأن يخرج رئيس «حكومة الوفاق» الليبية المدعوم من الامم المتحدة والغرب، فايز السراج، الأسبوع الماضي، في خطاب تلفزيوني مُوّجه لـ«الشعب» للإعلان عنها، يليه بيان اميركي، بحسب اتفاق الطرفين.

فواشنطن لم تتوقف منذ أعوام عن تنفيذ ضربات بطائرات من دون طيار ضد «الجهاديين» في ليبيا. وبعد فرار معظم قيادات «داعش» من سرت منذ بدء عملية «البنيان المرصوص»، وتقلّص عدد عناصره المتبقين فيها إلى بضع مئات (بعدما كانت التقديرات تتراوح بين 3 و6 آلاف)، تبدو الرسالة المرجوة من الإعلان عن الضربات ابعد من اطارها الجغرافي الضيق، رغم بطء التقدم الذي كانت قد بدأت قوات مصراتة، العمود الفقري لـ «جيش الوفاق»، بإحرازه في المدينة، وضخامة عدد خسائرها البشرية (اكثر من 300 قتيل)، وهو عددٌ كبير لا تحتمل هذه القوات ارتفاعه كثيراً، ولكنه مرشح لذلك إذ ان مهمة من تبقى من عناصر «داعش» في سرت ترتكز على عرقلة تقدم مصراتة نحو «مركز واغادوغو» وسط المدينة، عبر عمليات انتحارية وتفخيخ، لإبطاء انتصار نهائي لهذه القوات يبدو محتوماً، وإن أخذ مزيداً من الوقت.

ومن الضروري ربط توقيت الضربات الأميركية مع التقدم الذي تحرزه قوات قائد الجيش الليبي المعترف به في الشرق خليفة حفتر في بنغازي، والإعلان عن وجود عسكري فرنسي في هذه المنطقة، حتى يبدو أنه مقابل كل حيٍ تتقدم فيه هذه القوات، يجب تحقيق إنجاز في سرت، للإبقاء على التوازنات الضرورية لإدارة اللعبة السياسية من قبل الأطراف الإقليميين والدوليين. ويخضع هجوم سرت من قبل قوات مصراتة نفسه لهذه المعايير، بشكل او بآخر، وكذلك الهجوم الذي شنته قوات إسلامية في اجدابيا في حزيران ضد حفتر، بدعم من المفتي صادق الغرياني المدعوم من قطر وتركيا. وحفتر الذي زار موسكو مؤخراً، طالب أيضاً بالسلاح والدعم الروسيين للإبقاء على هذه التوازنات.

وتأتي هذه التطورات، من جهة أخرى، في خضم هجمة مرتدة مارستها أطراف ليبية عدة على «حكومة الوفاق» والسرّاج، مستغلة تراجع شعبية كانت بدأت تتحقق له مع وصوله إلى طرابلس في آذار الماضي.

ومن باب التهكم على هذه الحكومة، لا يزال الكثير من الليبيين يطلقون عليها اسم «حكومة بوستة»، نسبة إلى القاعدة البحرية في العاصمة التي وصل إليها السراج. ومرّد قلة شعبيتها، إخفاقُ الأخير في تحقيق أي انجاز على الصعيد الخدماتي، مع تدهور الوضع المعيشي وأزمة السيولة الخانقة وانقطاع الكهرباء.

وفي هذا الإطار، لحقت تظاهرات جاءت بدعوةٍ من المفتي صادق الغرياني، مطالبةً السراج باتخاذ اجراءات ضد الوجود الفرنسي في الشرق، بتظاهرات اخرى كانت سبقتها منددة بالأزمة المعيشية، فضلاً عن احداث كثيرة، أبرزها مجزرتا القرة بولي والرويمي ومعارك أبو سليم (طرابلس) وغيرها، التي اكدت استمرار سطوة الميليشيات المسلحة، وفضحت هشاشة وضع الحكومة الجديدة، حتى في الغرب الليبي الذي تقول إنها باتت تسيطر عليه.

ويبقى كذلك ان ورقة التدخل الاجنبي، قد لا تصب نهائياً في مصلحة السراج، إذ هي مليئة بالألغام في هذا البلد الذي لم يخرج بعد من لعنة التدخل «الأطلسي» الاول.

ويصب خبر إعادة فتح المنشآت النفطية، الذي تزامن مع بدء الضربات، في صالح رئيس حكومة الوفاق، لو كان تمكن من التحرر من مشيئة حرس المنشآت النفطية وقائده ابراهيم الجضران المتحالف معه حديثاً، اذ من الضروري ان تستعيد ليبيا عافيتها النفطية لتحسين الإنتاج الذي يعول عليه ستة ملايين نسمة، وكذلك الأمر بالنسبة للدول الغربية التي تُشكل هذه المنشآت بالنسبة لها خطاً احمر.

وفي هذا الإطار، تؤكد كبيرة المحللين في «معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية»، فلورانس غاوب، لـ«السفير»، إن «جميع هذه الأمور مرتبطةٌ في ما بينها بشكل ما، لفهم توقيت الضربات الأميركية»، موضحة أنها «تأتي خصوصاً في ضوء الحرب المفتوحة على داعش. فالدول الغربية، التي لها اجندة في ليبيا، من النفط إلى ازمة الهجرة إلى الإرهاب إلى ضرورة ضبط السلاح، كانت تدرك انه لا بد من تدخل عسكري، لكنها ترددت لفترة طويلة، وخاصة فرنسا، التي لا يخفى انها تقوم منذ فترةٍ بعمليات من تحت الطاولة، لكنها اليوم أكدت وجودها في الشرق».

وتعتبر غاوب أن «الاختلاف بين الأميركيين والفرنسيين هو ان باريس مستعدة للعمل مع أي جهة تُحارب الإرهاب في ليبيا، ولا تولي أهمية كبيرة لنظرية الغرب والشرق، فهي دعمت الوفاق ولكنها ذهبت إلى بنغازي، ولا تمانع في ان تكون في مصراتة او صبراتة، اما الأميركيون فيعتبرون حفتر رجلاً صعباً سياسياً، رغم معرفتهم به جيداً، وهو بالنسبة إليهم غير مستعد لتقديم تنازلات يرونها ضرورية للتقدم في العملية السياسية».

وبالمقارنة مع الاميركيين الذين لا يبدون مستعدين لتقديم اي شيء له بالمجان، فإن الفرنسيين، بحسب غاوب، «أكثر رغبة في حسم الأمور، خصوصاً ان الرأي العام في فرنسا الآن هو اننا أصبحنا متروكين للإرهاب ويجب ان نفعل اي شيء، وأن هذا الرأي يصب في الاعتراف بان الفوضى الليبية قد ترتد على فرنسا التي هي اصلاً سبب في ما حصل لهذا البلد».

بعد سرت.. أي حرب؟
ويأتي الإعلان عن الضربات الاميركية، غداة تطورات متلاحقة كانت قد شهدتها ليبيا في الشهرين الماضيين، منها زيارة حفتر إلى موسكو التي لحقها إليه في اليوم التالي نائب رئيس «حكومة الوفاق» احمد معيتيق، في تنافس واضح على كسب ود الروس، فيما جال عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق، في عدد من العواصم العربية، وزار سلطنة عمان رافضاً دعوة من الدوحة لزيارتها، علماً أنه يسعى إلى مبادرة سعودية لرعاية اتفاق ليبي شامل.

ميدانياً، فتحت معارك اجدابيا التي شنتها قوات تطلق على نفسها اسم «سرايا الدفاع عن بنغازي» نافذةً واسعة للتساؤل حول السيناريوهات التي كانت تحاول أطراف ليبية فتحها بالتزامن مع معركة سرت.
ويقول الخبير المصري في الشأن الليبي احمد عامر في حديث لـ«السفير» أن معركة اجدابيا التي انطلقت ضد جيش حفتر نفذتها مجموعات إسلامية مسلحة أخذت المباركة من المفتي صادق الغرياني الذي لا يملك في ليبيا الآن أي سلطة دينية او تنفيذية، لكن هؤلاء المسلحين كان يجب أن يمروا بالمنطقة التي تسيطر عليها قوات حرس المنشآت النفطية التي يقودها الجضران، والحديث في ليبيا هو حول تورطه في هذه المعارك».

ويعتبر عامر أن قوات الجضران، التي أعلنت تأييدها لحكومة الوفاق بعدما كانت موالية لحفتر، «حاولت أن تلعب ورقةً لاختبار هذه الحكومة التي لم تعلن إدانتها للهجوم على جيش اجدابيا كما رُوّج، بل ان فتحي المجبري، نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي (المعين من الأمم المتحدة) هو الذي أصدر بيان إدانة، وهو نائب عن المنطقة الشرقية أصلاً». ويضيف عامر أن ما يسمى «سرايا الدفاع عن بنغازي» كان «خلطاً ومحاولةً للعب بالأسماء، ولكنهم يصبون جميعهم في خانة أنصار الشريعة (فرع «القاعدة») التي يقاتلها حفتر في بنغازي، علماً أن الغرياني هاجم حكومة الوفاق لما اعتبره ادانتها».

ويلفت عامر إلى أن المعركة بعد سرت، «ستكون من دون شك في طرابلس، حيث تتحضر الخلايا النائمة لداعش للمعركة المقبلة».

من جهته، يعتبر الخبير في الشأن الليبي في «المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية» ماتيا توالدو في حديث لـ«السفير» أن «معركة سرت مهمة لحكومة الوفاق، لأنها ستقول للعالم إنها تمكنت من قتال داعش، علماً ان الهدف كان ان تحصل دون أي مساعدة خارجية، ولكنها قد تطلق بالنسبة لحفتر معركة طويلة ضد مصراتة». ويذكر توالدو بدرنة، التي «ترك فيها حفتر مجلس شورى مجاهديها يطردون داعش منها، ثم ها هو يقوم الآن بمحاصرتهم ويقصف المدينة».

الضربات الجوية الأميركية تفتح مشهداً جديداً في الأزمة الليبية. مشهد قابل للاشتعال، فيما لا يزال بعيداً الاتفاق على حل سياسي شامل محكوم بالتوافق تشاركُ فيه الأطراف المتصارعة والقبائل. لكن بخلاف سوريا التي يحكمها أيضاً الميدان، تبقى الكلمة الأخيرة في هذا البلد للميليشيات ورعاتها الإقليميين، ولأسماء وأسماء تلعبُ وسط حبائل «المتاهة الليبية»، فيما حكومة السراج تستنجد بالاميركيين.

"السفير"