السياسة الروسية تجاه أمريكا اللاتينية

27.02.2024

في الأشهر الأخيرة، كثفت روسيا اتصالاتها مع دول أمريكا الجنوبية والوسطى، حيث تتمتع روسيا بعلاقات ودية طويلة الأمد مع بعض دول المنطقة، يعود تاريخها إلى زمن الاتحاد السوفيتي. لكن في السنوات الأخيرة، بعد انهيار العلاقات مع الغرب الجماعي، وإدراك روسيا أن العودة إلى الشكل القديم للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وعدد من الدول الأخرى، لن تكون ممكنة، قررت موسكو إعادة النظر في توجهات علاقاتها الخارجية. وبالإضافة إلى البلدان الآسيوية والإفريقية، أصبحت أمريكا اللاتينية أيضًا وجهة ذات أولوية أعلى من أوروبا وأمريكا الشمالية.

العلاقات الروسية الخاصة مع كوبا وفنزويلا

في هذا الصدد، قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عشية المؤتمر الوزاري لمجموعة العشرين، بزيارة خاصة إلى جمهورية كوبا، وجمهورية فنزويلا البوليفارية، وهما من أكثر الدول التي تتمتع معها روسيا بعلاقات ودية في أمريكا اللاتينية.

إن الموقع الإستراتيجي لهاتين الدولتين الكاريبيتين مهم، فهما في الواقع قريبتان من الولايات المتحدة، وهو ما يسبب القلق في واشنطن. عند تقييم الإستراتيجيات العسكرية، أشار الخبراء الأمريكيون إلى أنه من خلال نشر الصواريخ والطائرات الإستراتيجية في كوبا وفنزويلا، ستكون روسيا قادرة على إغلاق خليج المكسيك، مما يؤدي إلى شل الإمدادات التجارية والاقتصادية على نحو شبه كامل (نظرًا إلى أن أكثر من 60 % من البضائع تمر عبر خليج المكسيك). ومع ذلك، فإن هذا السيناريو ليس أكثر من خيال أمريكي. لا تحتاج روسيا إلى استخدام أراضي هذه الدول، مما قد يعرضها لهجوم؛ لأنها تمتلك أسلحة فرط صوتية، يمكن إطلاقها من مختلف السفن والغواصات، في حالة الصراع المباشر مع الولايات المتحدة.

ومع أن روسيا مهتمة- بطبيعة الحال- بتعزيز أمن كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، فإن الدول الثلاث تثير غضب الولايات المتحدة بسبب تمردها ومسارها السيادي في السياسة الخارجية والداخلية. وفي هذا الصدد، يُعزَّز التعاون العسكري التقني بنشاط، وهو ما تؤكده زيارات ممثلي قطاع الدفاع في هذه البلدان إلى روسيا على مدى العامين الماضيين. وكانت نيكاراغوا من أوائل دول أمريكا اللاتينية التي منحت روسيا حق استخدام أراضيها لاستضافة عناصر نظام الأقمار الصناعية غلوناس (GLONASS)، وهو نظام للملاحة بالأقمار الاصطناعية تُديره قوات الفضاء الروسية، ويشكل بديلًا عن نظام التموضع العالمي الأمريكي. وفي الوقت نفسه، يعمل الجانب الروسي على تطوير آليات أخرى لتحل محل النماذج الغربية المتمركزة في القطاعات المالية والمصرفية، وغيرها. وهكذا، أُطلقت بطاقات الدفع المصرفية الروسية مير (MIR) العام الماضي في كوبا وفنزويلا. هذا العام، بدأت البنوك الروسية العمل في كوبا، وهو ما سيجعل من الممكن استخدام المدفوعات بالروبل على نطاق أوسع. وعلى الرغم من وجود اتصال مباشر في السابق بين البنكين المركزيين في البلدين، فإن إدخال شبكات مصرفية إضافية سيحسن كثيرًا عمل المؤسسات المختلفة داخل الدولة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذا المشروع التجريبي أن يكون نموذجًا أوليًّا للتوسع في بلدان أخرى. ولأن كوبا كانت خاضعة لعقوبات اقتصادية أمريكية عقودًا طويلة، فإن هذا الالتفاف على النظام المصرفي الغربي من شأنه أن يُظهِر إمكانية حقيقية لإطلاق نموذج بديل تحت رعاية روسيا، يمكن لدول أخرى أن تنضم إليه. دعونا نُضف أن روسيا تقدم- بانتظام- قروضًا تفضيلية لهذا البلد لتطوير مختلف قطاعات الاقتصاد.

فيما يتعلق بفنزويلا، ينصب التركيز في التعاون الثنائي أيضًا على التغلب على العقوبات الأمريكية، وكذلك في الزراعة، وإنتاج النفط، والأدوية، ويبدو التعاون في مجال استكشاف الفضاء والطاقة النووية واعدًا. يمكن تحسين نظام الطاقة في البلاد كثيرًا مع ظهور محطات الطاقة النووية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لفنزويلا أيضًا الاستفادة من تجربة بوليفيا، حيث أُنشئ أول مركز نووي علمي متعدد الوظائف بمساعدة مؤسسة روساتوم (ROSATOM) في القارة. افتُتح هذا المركز في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في مدينة إل التو البوليفية. سيساعد عمل هذا المركز على تحسين المنتجات الريفية، والأدوية، وصناعة الليثيوم (بوليفيا هي إحدى الدول الرائدة في إنتاج هذا المعدن الأرضي النادر)، كما سيعمل أيضًا على تدريب العاملين في الصناعة النووية.

بشكل عام، هناك نماذج عامة معينة في علاقات دول أمريكا اللاتينية مع روسيا، تفرضها الخصائص المحددة لكل دولة، اعتمادًا على ملفها الجيوسياسي.

ما تفتقده روسيا حاليًا، غياب التمثيل الدبلوماسي في عدد من دول المنطقة، خاصة في دول الكاريبي الصغيرة، التي سيكون من الضروري توجيه الموارد الدبلوماسية إليها؛ نظرًا إلى ما تقدمه الدبلوماسية العامة من مساعدة للدولة الروسية في أمريكا اللاتينية.

العلاقة الروسية مع التكتلات اللاتينية

تظهر حالة الإكوادور أن روسيا قادرة تمامًا على الرد سريعًا على التهديدات التي تواجه مصالحها، واتخاذ التدابير المضادة المناسبة. وبعد أن أعلنت قيادة البلاد أنها ستنقل معدات عسكرية سوفيتية وروسية الصنع إلى الولايات المتحدة لتنقلها الأخيرة إلى أوكرانيا، أرسلت روسيا إشارة بأنها لن تشتري بعد الآن الموز من الدولة الواقعة في أمريكا اللاتينية بسبب اكتشاف طفيلي خطير هناك؛ وعليه، عُلِّقَت الصادرات، وهو ما يمثل نحو 25 % من إجمالي مبيعات الإكوادور. وبما أن الرئيس دانيال نوبوا، هو نفسه رجل أعمال، وأحد أكبر موردي الموز من البلاد، فقد أثر ذلك في مصالحه التجارية الشخصية، وبعد ذلك أُلغي قرار نقل المعدات إلى واشنطن.

في المقابل، صرحت- مؤخرًا- القيادة الجديدة للأرجنتين، الموالية للولايات المتحدة (خافيير مايلي يدعم نظام زيلينسكي) بأنها لن تدخل في أي نزاع مع روسيا، وستظل جميع العلاقات التجارية والاقتصادية قائمة. والحقيقة هي أن الأرجنتين، وكذلك جارتها العملاقة البرازيل، وعدد من دول أمريكا اللاتينية الأخرى، تعتمد كثيرًا على إمدادات الأسمدة المعدنية الروسية، وهذه البلدان ليس لديها خيارات أخرى، وإذا توقفت الأسمدة عن التدفق من روسيا، فسوف تلحق أضرار بالغة بقطاع الزراعة، التي تشكل جزءًا كبيرًا من الناتج المحلي الإجمالي لهذه البلدان. إن العامل العقلاني يفوق أي جهود ضغط من جانب الولايات المتحدة لتقويض العلاقات مع روسيا.

ومع ذلك، في جميع الاتصالات بين دول أمريكا اللاتينية وروسيا، هناك عامل غريب، ومهم، وشائع في الوقت نفسه عن طبيعة سكان روسيا والسكان الأصليين لدول أمريكا اللاتينية. مع أن الخصائص العرقية والثقافية متنوعة تمامًا، فإنه حتى في هذا هناك شيء يجعل روسيا وأوراسيا وأمريكا اللاتينية أقرب بعضها إلى بعض. هنا وهناك، شعوب أصلية حافظت على تقاليدها القديمة، ويمكن أن تُعزى كلتا المجموعتين إلى الحضارات، التي تشمل طبقات كاملة من الهويات (من اللغوية إلى الدينية)، المترابطة على نحو متبادل. تسعى كل من روسيا وأمريكا اللاتينية إلى بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، ولهما مشروعات تكامل خاصة بهما. في روسيا، يوجد الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وفي أمريكا اللاتينية، السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور)، ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (سيلاك). كما يوجد تحالفات محلية أخرى، مثل التحالف البوليفاري لشعوب أمريكتنا (ALBA)، الذي يضم إحدى عشرة دولة، وهي (أنتيغوا وباربودا، وبوليفيا، وكوبا، ودومينيكا، وغرينادا، ونيكاراغوا، وسانت كيتس ونيفيس، وسانت لوسيا، وسانت فينسنت والغرينادين، و‌فنزويلا)، ويرتبط بعلاقات متميزة مع روسيا.

بالإضافة إلى ذلك، لم تنتهج روسيا قط أي سياسة استعمارية أو عدوانية تجاه دول أمريكا اللاتينية، التي نالت استقلالها عن بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال، وشهدت أيضًا سيطرة خارجية، وفي بعض الحالات احتلالات عسكرية، وما زالت تعاني بعض المضايقات من تصرفات الولايات المتحدة في المنطقة.

الخاتمة

كل ما سبق يضع أساسًا متينًا لشراكة إستراتيجية طويلة الأمد بين دول أمريكا اللاتينية والاتحاد الروسي. وبالإضافة إلى ذلك، المشاركة في المشروعات المتعددة الأطراف، مثل مجموعة “بريكس بلس”. ومع أن الأرجنتين رفضت (ربما مؤقتًا) الانضمام إلى هذا النادي الدولي، فقد تقرر بالفعل أن تنضم فنزويلا إليه قريبًا. ومن المرجح أن يُتخذ القرار النهائي في قمة هذا العام في روسيا.

إن الاحترام المتبادل لمصالح الطرف الآخر، ومبدأ عدم التدخل في إطار التعاون بين دول أمريكا اللاتينية وروسيا، يشكلان مثالًا جيدًا للدول الأخرى.

https://eurasiaar.org