الاقتصاد أداة للحروب الأمريكية
نعاني من أزمة هيكلية خطيرة في الاقتصاد العالمي. ويرتبط ذلك بتغير الهياكل التقنية، التي يتم تنفيذها من خلال سباق التسلح والعسكرة والحرب. في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كان لهذه الحرب طابع بارد. فالولايات المتحدة الأمريكية، بعد استخدام سباق التسلح في مجال الفضاء، خلقت نواة لبنية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. هذا المجال نما وترعرع بمعدل ثابت- 25٪ سنويا، ما ساهم في تنمية الاقتصاد وضمان التفوق التكنولوجي للأميركيين. وقبل ذلك، حدث مثل هذا التحول الهيكلي في ثلاثينات القرن العشرين، من خلال عسكرة الدول الاوروبية الكبرى، ما نشأ عنه كابوس الحرب العالمية الثانية. الآن نحن نجد أنفسنا مرة أخرى في ظروف مشابهة.
عشية حرب جديدة...
في السنوات الأخيرة، قيادة العالم، تحتلها تدريجيا دول جنوب شرق آسيا- اليابان وكوريا الجنوبية والصين. نظام المؤسسات، الموجود اليوم في الصين، والذي ظهر قبل ذلك في اليابان وكوريا، بفعاليته وسبل تنظيمه للنشاط البشري، يفوق بكثير نظام القلة الثرية في الولايات المتحدة، والذي يسفر الآن عن فقدان كم ضخم من رؤوس المال لقيمتها بسبب الأهرام المالية.
الانتقال من دورة تراكم قرني إلى دورة أخرى (هناك نظرية معروفة حول ذلك) يترافق في التاريخ دائما بالحروب. في الوقت نفسه، الدول المتوجهة للقيادة، تحاول عدم المشاركة في الحرب. ما يوفر لها فرصة التطور السريع. وكقاعدة عامة، الحرب تكون دائما بين الزعيم القديم للعالم، وجزء معين من الهامش العالمي. في دورة التراكم القرني الأولى، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت اسبانيا في حالة حرب مع إنجلترا، وأصبح الزعيم هولندا. في الدورة الثانية (القرن التاسع عشر)، أصبح عصر الحروب النابليونية ضربة لروسيا وصعودا لانجلترا. وفي الدورة الثالثة، القرن العشرين شهد حربين عالميتين، أسفرتا عن خسارة المانيا وروسيا وصعود الولايات المتحدة.
الآن نشهد سيناريو جيوسياسي مماثل. الأميركيون بحاجة إلى حرب عالمية ثالثة للحفاظ على الهيمنة في العالم. ليس لديهم فرصة للفوز في المنافسة مع الصين. الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، تسعى لزيادة التوتر السياسي، وكالعادة، هم يراهنون على حرب في أوروبا، بنظرهم ستسمح للولايات المتحدة بأن تصبح قوة عظمى. أدت الحروب العالمية الأولى والثانية لتدفق رؤوس الأموال والتكنولوجيا من أوروبا إلى الولايات المتحدة، ما أصبح قوة دافعة وراء صعود الرأسمالية الأمريكية. وعلى الطريق التقليدي للأميركيين، هم الآن يدعمون النازية الأوكرانية، ويشكلون في أوكرانيا نظاما إرهابيا معاديا لروسيا.
الكارثة الأوكرانية
هذا هو تكتيك الولايات المتحدة. أوكرانيا كجزء من العالم الروسي، لا يمكننا أن نعتبرها على محمل الجد عدوا لنا. وبتجاهها لن نستخدم أسلحة جدية. مهمة الولايات المتحدة تأليب أوكرانيا ضد روسيا، وتنظيم إبادة السكان الروس لاستفزازنا للقيام بعمل عسكري انتقامي. بعد ذلك، حشد أوروبا وحلفائهم في حلف شمال الأطلسي ضدنا. المهمة تكمن في استخدام النازيين الأوكرانيين كأداة لضرب الدولة الروسية، وتنفيذ سلسلة من "الثورات البرتقالية" في أراضينا، لتقسيمها وفرض السيطرة على روسيا وأنحاء آسيا الوسطى.
أوكرانيا الآن تحت السيطرة، وهنا ليس بسبب أن قادة الولايات المتحدة وحوش وأكلة لحوم البشر. هذه نقطة تتعلق بالقوانين الموضوعية: الحرب العالمية الثالثة ضرورة حيوية للطغمة الأمريكية الثرية. وللحفاظ على هيمنة الثراء التراكمي، رأس المال الأمريكي يسير في الطريق المعتاد عبر إطلاق العنان لحرب عالمية ثالثة في أوروبا. وكتابي الجديد، يتحدث عن أهداف وآليات ودوافع الكارثة الأوكرانية.
"ليس الله في القوة، بل في الحقيقة."
منذ قرون عديدة، وضع الكسندر نيفسكي، في أساس عقيدتنا الجيوسياسية عبارة "ليس الله في القوة، بل في الحقيقة" الة الحرب الأمريكية، والتي تحصل على نصف الإنفاق العسكري العالمي، تفعّل مرة أخرى سباق التسلح الوحشي. ولكننا في حال عدم خوفنا من الحقيقة، سنجد العديد من الحلفاء الذين لا يسعون لتصعيد الحرب العالمية الثالثة. ويمكننا إنشاء تحالف مناهض للحرب العالمية، لن يسمح للاميركيين بعزلنا. هم يستخدمون مبدأ "فرق تسد" لزعزعة علاقاتنا مع أقرب دولنا. اذا استطعنا الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع الصين والهند، لإنشاء مراكز جديدة للنفوذ السياسي لكتلة "بريكس"، التي تغطي أكثر من نصف البشرية، والتركيز على شركائنا وأصدقائنا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، فإن خطط الولايات المتحدة لإطلاق عنان الحرب العالمية الثالثة سيكون مصيرها الفشل.
الحرب الهجينة
نحن بالفعل في حالة حرب عالمية ثالثة، بدأتها الولايات المتحدة. هذه الحرب الهجينة، لا تعني في أي حال، استخدام الدبابات والمدرعات وأسلحة الدمار الشامل، لأنها تعتمد على ترسانة كبيرة من التقنيات الأخرى: المعلوماتية والمالية. الحرب المالية ضدنا تدور على قدم وساق. لقد تم بالفعل عزلنا عن مصادر الائتمان الخارجية، وهناك حديث عن تعطيل النظام المالي الروسي ومنعه من التواصل مع البنوك في العالم، يتم استخدام العقوبات والحظورات، هناك انتهاك صارخ للقانون المدني والتجاري والمالي الدولي. في دونباس، أيضا، هناك حرب ضدنا، نحن لم يكن لدينا شك في ذلك. ولدفع أوروبا للدخول في هذه الحرب، قام المجلس العسكري الأمريكي في كييف باسقاط الطائرة الماليزية، كما تم في أوكرانيا انشاء دولة شبه إرهابية.
يجب علينا قول الحقيقة عن أوكرانيا: هناك اغتصاب للسلطة. لم تكن هناك انتخابات رئاسية، بل تم تعيين الرئيس من قبل السفير الامريكي ومن قبل أجهزة الأمن الأمريكية. بالمثل تمت انتخابات البرلمان في أوكرانيا. كل ما يحدث في أوكرانيا، هو انتصار للفوضى. وبهذا، يخلص الحقوقيون إلى أن استفتاء القرم الذي أسفر عن توحيد شبه الجزيرة مع روسيا، كان مشروعا وقانونيا تماما، بما يتفق مع الشرعية الدولية، وعلى أساس القانون حول وضع شبه جزيرة القرم، الذي اعتمد في وقت سابق. الاستفتاءات في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، هي أيضا قانونية تماما، بموجب القانون الدولي، الناس لديهم سبب وجيه لإعلان الاستقلال، وخاصة في حالة عدم وجود دولة في أوكرانيا.
أوكرانيا - دولة محتلة
في الواقع، أوكرانيا دولة محتلة، هي تحت سيطرة المخابرات الامريكية، وفي ظل السيطرة على الحكومة الأوكرانية من الخارج، فإن محاولة الاتفاق معها، تبدو مثل محاولة إقناع كلب مسعور بعدم عضك. ولذلك، فإن الاتفاقات بشأن إحلال السلام وحماية المدنيين تفشل. الحكومة الأوكرانية تنتهك هذه الاتفاقات بشكل منتظم. كل يوم في دونيتسك تتم أعمال القصف واطلاق النار، والناس يموتون. دول الناتو تدعم ذلك، والدعاية النازية تشوه الأحداث وتعرضها بشكل معاكس للحقيقة تماما.
الحرب كضمان قوة للولايات المتحدة الأمريكية
أساس قوة الولايات المتحدة، هو استخدام الدولار كعملة عالمية. ولكن هذه قوة مفيدة ليس للدولة، بقدر مدى فائدتها للأثرياء الكبار في الولايات المتحدة، الذين يتطفلون على بلدهم. الولايات المتحدة لديها مشاكل داخلية هائلة- عشرات الولايات تعمها انتفاضات الأفارقة الأمريكيين، مستوى المعيشة لم ينمُ منذ عشرين عاما. تحولت مدن بأكملها إلى أحياء فقيرة. أثرياء الولايات المتحدة يريدون الحرب العالمية الثالثة، وهم لا يشعرون بالقلق إزاء الشعب الأمريكي، ومصير المراكز الصناعية في البلاد، حيث الملايين من الناس عاطلين عن العمل. هم يريدون السيطرة على العالم، لأن نتيجة هذا، ستكون حصولهم على أرباح كبيرة. وأقوى ضربة لهيمنة الولايات المتحدة، ستكون رفض استخدام الدولار كعملة عالمية.
الولايات المتحدة دولة عدوانية. العدوان، ليس بالضرورة يتم تطبيقه بصراحة. اليوم، هو متعدد الأوجه، ويأخذ مكانا في مجموعة متنوعة من المجالات. إذا استطعنا ادراك أن الولايات المتحدة دولة عدوانية، فلا ينبغي لنا استخدام العملة الأمريكية، وانشاء علاقات مالية معها، ولا يجب تمويلها ودعمها. نظامنا المالي سنويا يحول 120-140 مليار دولار لصالح النظام المالي الأمريكي، عبر شراء ديون الولايات المتحدة، وبذلك، نحن نمول بأنفسنا الحرب العالمية الثالثة ضدنا.
تعتمد قوة العدو على الحق الحصري لأثرياء الولايات المتحدة في السيطرة على بنك الاحتياط الفيدرالي، الذي يصدر الدولار. هم يقومون بطباعة العملة العالمية تحت طائلة الديون. وهذا يشكل 90٪ من ضمان إصدار الدولار. إذا نظرتم الى الرسوم البيانية، فإن الدين القومي الأميركي يرتفع بأضعاف مضاعفة. في الرياضيات هذا يسمى بنظام الذروة، عند دخول النظام في مثل هذا الوضع، فإنه سينهار لا محالة. الهيمنة الأمريكية لا بد أن تصل إلى نهايتها، وهذا أمر موضوعي. وكلما أسرعنا في الخروج من المخطط الهرمي للدولار، سنسهم في انخفاض الخسارة ليس المالية فقط ولكن أيضا البشرية. جزء كبير من الدولارات المطبوعة، والتي نشارك بدعمها، ونحفظ احتياطاتنا فيها، تذهب لتمويل العمليات العسكرية والارهابية.
الاقتصاد الروسي وإمكاناته
القطاع الصناعي الروسي يستخدم ثلثي إمكاناته. فعالية القدرات الانتاجية، وخاصة في قطاع التكنولوجيا العالية، والهندسة الميكانيكية، تتراوح ما بين 40 و60٪. لدينا بطالة مقنّعة في المجال الصناعي، ما يسمح بزيادة الانتاج دون الحاجة لعمالة إضافية بنسبة 20٪. لدينا منبع لا ينضب من الموارد الطبيعية. لا توجد أسباب موضوعية لتراجع الاستثمار والإنتاج. لدينا كل الإمكانيات لنمو بمعدل 6-8٪ سنويا.
سقوط الروبل، جاء نتيجة للسياسة غير الفعالة للبنك المركزي والسلطات النقدية بشكل عام. قيادة البنك المركزي لا تضع نصب أعينها هدف استقرار العملة الوطنية. وبذلك، يمكننا الاعتماد فقط، على أمل أن المضاربات سيتم كبحها بواسطة وكالات إنفاذ القانون.
تظهر عدم كفاءة البنك المركزي بسبب اتباعه للمبادئ المعتمدة في أواخر الثمانينات في اتفاقية واشنطن، أي عقيدة استحالة مراقبة العملة، والتي تستخدمها واشنطن في البلدان النامية. في حال عدم وجود أي سيطرة، هذا يعني أن رأس المال الأمريكي لديه إمكانيات لا حدود لها في هذه البلاد. إذا كنت لا تسيطر على حركة رأس المال، لا يمكنك أن تتنافس، وألف مرة سيقل وزنك في السوق العالمية. القدرة المالية يتم تحديدها على النحو التالي: للحصول على العملة، أنت بحاجة الى شيء لبيعه أو تصديره. الأمريكيون لا يحتاجون لهذا الشيء، فهم لديهم مطبعة عملة وموارد مالية ضخمة، يمكن زيادتها بشكل تعسفي. ولذلك نرى هيمنة رأس المال الأمريكي في تلك البلدان، التي لا توجد فيها رقابة على العملة. وتتعرض هذه الدول لاستغلال لا يرحم، ولا يعادل التبادل الاقتصادي.
استراتيجيات الخروج من الأزمة
إذا كنا نريد أن ننمو بنجاح وعلى نحو دائم، نحن بحاجة للانتقال إلى مصادر الائتمان المحلية. إنشاء آلية خاصة بنا لإقراض الاقتصاد. للقيام بذلك، نحتاج إلى منع هجرة رأس المال، وحماية نظامنا المالي من هجمات المضاربة من الخارج، السيطرة والتحكم بتحركات رأس المال العابرة للحدود وبالعمليات المالية. بدون هذا، نحن لن نتمكن من الانتقال إلى مصادر الائتمان المحلية، وسيكون مصيرنا الفشل في الحرب الاقتصادية.
مصيرنا في السنوات المقبلة، يعتمد كليا على القرارات السياسية. بعضها حدده الرئيس فلاديمير بوتين في خطابه أمام الجمعية الاتحادية. على سبيل المثال، العفو عن رؤوس المال الهاربة. وبعد اعتماده، جزء من رؤوس المال عاد بالفعل إلى البلاد.
الإمكانيات لدينا واسعة جدا، ونحن قادرون على صنع معجزة اقتصادية، تحقيق دفعة والعودة مرة أخرى لنصبح واحدة من الدول الرائدة. صد العدوان الأمريكي واستعادة دورنا كواحد من المراكز الأكثر تأثيرا في تحديد مسار التنمية في العالم. وفي الوقت نفسه، لا شيء يحمينا من الانهيار والدمار.
سيرغي غلازوف : اقتصادي وسياسي روسي