اللعبة الكبيرة الجديدة
بريطانيا وأتباعها الأوروبيون في حالة هجوم ضد روسيا
من ناحية تعتبر هزلية السياسة الخارجية الإيطالية – وهو نفس وضع مكانة ايطاليا على الساحة الدولية – ما يظهرها بموقف غير جميل ومن جهة أخرى فإنه غالبا ما تظهر ذات ديناميكية جيوسياسية واسعة، وبالتالي تسلط الضوء تاريخيا على استمرار أنماط العلاقات بين القوى العالمية.
هذا ما كان عليه الحال في الآونة الأخيرة عندما زعمت الصحيفة الليبرالية البريطانية "الغارديان" أنه يوجد اشتباه بوقوف روسيا وراء محاولة فاشلة لاختراق حساب البريد الإلكتروني لباولو جينيتلوني في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء الإيطالي غير منتخب وكان يشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة ماتيو رينزي.
ويدعي المقال أن وزير الخارجية جينتيلوني لم يتأثر بالهجوم، ويضيف:
"كانت وزارة الخارجية (المكاتب الميدانية)، بما في ذلك السفارات والموظفين الذين يرسلون تقاريرهم إلى روما حول لقاءاتهم مع مسؤولين أجانب، يتأثرون بهجوم البرمجيات الخبيثة". لكن المسؤول الحكومي قال إن المعلومات الحساسة لم تتعرض لما يثير الشبهة لأنه كان قد تم تشفيرها.
أوجه التشابه بين هذا "الكشف" والظروف المحيطة المبنية من المحافظين الجدد خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة هي أمر ملحوظ ببساطة ويدعو للحرج.
في الواقع، كما هو الحال مع المزاعم السابقة حول التدخل الروسي في الخطاب السياسي الداخلي الأمريكي وقرصنة الكرملين المزعومة لبريد هيلاري كلينتون الإلكتروني، والاتهامات التي وجهتها صحيفة بريطانية فهي أيضا لا أساس لها من الصحة. عدم وجود أي دليل هو أمر واضح جدا بحيث يمكن تجاهلها حتى من قبل كاتب المقال، الذي يقول أن الادعاءات لا يؤكدها أي مصدر رسمي. ومضيفا على الرغم من ذلك ما يلي:
" أن شخصين آخرين على علم بالهجوم قالا أنهما يعتقدان أن الدولة الروسية كانت وراء ذلك".
وعلاوة على ذلك، على أساس النصائح التي وردت من مصادر مجهولة، فقد هدفت الجهود الروسية لتعطيل "المسار الديمقراطي" في الاتحاد الأوروبي خلال العام، كما كان الهجوم الفاشل على البنية التحتية الإلكترونية في ايطاليا من المفترض أن "يؤثر في صنع القرار داخل الحكومة الايطالية".
يأتي مثل هذا القول بوصفه مثيرا للسخرية في ضوء الأدلة التاريخية التي تسلط الضوء على حقيقة أن إيطاليا افتقرت للقدرة على صنع أي قرار في أي وقت مضى منذ عام 1945. ومع ذلك، ومع الفهم الأساسي للتاريخ المعاصر - جنبا إلى جنب مع الحدود الدنيا للمعايير الأخلاقية يجعل أي شخص يعمل ضمن قيود وسائل الإعلام الحديثة يتوقع ، أن التوقيت المحسوب من الغارديان يشهد على الطبيعة الحقيقية للدعاية الأطلسية – وهي الدعاية العدوانية التي لا تشغل نفسها بتقديم رواياتها كروايات قابلة للتصديق.
وجاءت هذا المقال بعد يومين فقط من الاجتماع الرسمي لجينتيلوني مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، الذي عقد في لندن في 9 شباط/فبراير. في تلك المناسبة، يطمئن رئيس الوزراء الإيطالي نظيرته البريطانية حول موقف روما الودي والمتعاون بشأن مسألة المفاوضات ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الأهم من ذلك، ذكر جينتيلوني أن الرئيس بوتين لن يدعى لحضور القمة G7 المقبلة التي ستعقد في تاورمينا، في صقلية. وبذلك، فإن السياسة الإيطالية لا تفوت فرصة لتأكيد الاستسلام غير المشروط إلى استراتيجية العقل المدبر والمنفذ من قبل محور واشنطن ولندن وبروكسل، والذي كان مسؤولا عن استبعاد روسيا من G7 في عام 2014 في أعقاب أزمة القرم وتنفيذ العقوبات.
وجاء الضعف الإيطالي الذي لا مفر منه في التعامل مع تصاعد التوتر مع الكرملين المفروض من الخارج ليسبب خسارة كبيرة للاقتصاد الإيطالي، والذي كان على عكس الاقتصاد البريطاني يعتمد على نطاق واسع على العلاقات التجارية القوية التي بنيت مع روسيا على مر الزمن. والواقع أن الحجم الإجمالي للصادرات الإيطالية إلى روسيا الاتحادية هبط إلى النصف تقريبا نتيجة للعقوبات، من 14 مليار دولار في عام 2013 إلى سبعة مليارات في عام 2015.
مع المخاوف من النهج الأمريكي بليونة نحو روسيا من قبل الرئيس الامريكي المنتخب حديثا دونالد ترامب وتهديد النظام العالمي أحادي القطبية، اتخذت المملكة المتحدة على عاتقها مسؤولية إعلان قيادة الهجوم العالمي ضد موسكو.
على الفور وقبل تنصيب دونالد ترامب، ظهرت سلسلة من اللقاءات التي تعقد من قبل الحكومة البريطانية، في اطار ما وصفه مسؤولون من السفارة الروسية في لندن باعتبارها أعمال تحريضية ضد الكرملين. ويتبع ذلك ما قالته إدارة أوباما في الأيام الأخيرة من حكمها، وهذا ما اعتبرته الحكومة البريطانية المحافظة مبررا لجنون حرب باردة جديدة مع ضرورة أن تبقى يقظة ضد المؤامرة الروسية الهادفة لتقويض "المسار الديمقراطي" للأمة . وسط تصاعد التوتر الدبلوماسي بين لندن وموسكو، أضاف وزير الخارجية البريطاني السابق وزعيم حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بوريس جونسون الزيت على النار، مدعيا أن روسيا تنتهج سياسة الخداع وتخريب الديمقراطيات الغربية عن طريق الإنترنت والتجسس واستخدام "جميع أنواع الخدع القذرة ".
وعلاوة على ذلك، تم الكشف مؤخرا عن الخطط التي وضعتها وزارة الخارجية البريطانية لتخصيص 700 مليون جنيه إسترليني إلى "صندوق التمكين" الذي يهدف لتعزيز وتقوية حلفاء المملكة المتحدة في أوروبا الشرقية" وهي أوكرانيا ودول البلطيق، ضد ما زعم من ازدياد "العدوان الروسي" . قصة مسلية ومحرجة - نظرا لتراكم قوات حلف شمال الاطلسي على جبهة البلطيق – وبالتالي فإن بيان بوريس جونسون هو منتج ثانوي من المشاعر المعادية لروسيا منذ فترة طويلة في بريطانيا، والتي تجذرت بعمق في ديناميات من القرن التاسع عشر في ما يسمى "اللعبة الكبرى".
التاريخ الغربي السائد يصور "اللعبة الكبرى" على أنها المواجهة الدبلوماسية التي جرت بين القوتين العظميين الجيوسياسيتين في ذلك الوقت - الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية - تأتي بشكل طبيعي نتيجة التداخل في آسيا الوسطى بسبب التوسع المتبادل، مما أدى إلى صراع حتمي للهيمنة المطلقة على هذه المنطقة الاستراتيجية. هذه الرواية، ومع ذلك، فشلت بالتمييز بين الطبيعة المتناقضة للإمبراطوريتين. في الواقع، في حين كانت بريطانيا – قوة البحر، تحاول ربط الجغرافيا المتعددة الثقافات والاقتصادات التي تربط بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا – وهي امبراطوريات البحار التي لا تؤمن ترابطا جغرافيا وأنثروبولوجيا بين المكونات، بينما كانت روسيا هي المدخل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لقلب أوراسيا – وقوة الأرض والكيان العضوي الذي يمتد من الأرض السوداء في أوكرانيا إلى الجبال المشجرة من شرق سيبيريا وخارجها - مجالا حيويا، أوراسيا. بريطانيا، وفية لتقاليدها التي تعتمد على القرصنة والتخريب، والتدخل في ممتلكات جنوب الهند من أجل الوصول إلى الطرق الحيوية لتحقيق الربط الاقتصادي والثقافي والسياسي بين قارة أوروبا وقارة آسيا. وكانت تقنيات التجسس والخداع التي يستخدمها البريطانيون في سعيهم للهيمنة في كتاب الكاتب البريطاني بيتر هوبكيرك وهو من الكتب الأكثر مبيعا في العالم ويحمل اسم "اللعبة الكبرى".
ولذلك لم يكن مفاجئا أن المملكة المتحدة، بالتزامن مع محاولات الصين لتنفيذ شبكة لوجستية تمتد بطول القارة الأوراسية، قد أحيت مؤخرا عاداتها القديمة الإمبريالية بما يخص قلب الأرض الذي لا ينتمي بطبيعة الحال إليها .
مع الحلول اللوجستية التي تفسح المجال لتخفيف ثلاثة أضعاف كلف النقل البحري الحالي بين الصين وأوروبا، فإن المبادرة الصينية "حزام واحد، طريق واحد" تشكل واحدة من أعظم المبادرات في تاريخ علم الاقتصاد المعاصر.
في نفس الوقت، هذا المشروع الصيني الطموح يعزز التعاون الذي طال انتظاره، بين الصين وكتلة أوراسيا ويعزز إقامة عالم متعدد القطبية، حيث ستكون روسيا من الطبيعي في صدارته.
في حال أصبح مشروع "حزام واحد، طريق واحد" واقعا فإن هذا سيحدث استياءا لدى واشنطن ولندن، اللتان كانتا تعتمدان حتى الآن على فرض نظام القطب الواحد، لتحقيق الثروات الاقتصادية للحلف الأنجلو الأمريكي من خلال الاستغلال الواسع للعالم الثالث الذي يمتد على طول أمريكا الوسطى والجنوبية وأفريقيا وآسيا.
ظهور الكتلة الصينية الأوراسية قوية ومستقرة لمواجهة الهيمنة الأطلسية هو احتمال سيحرك كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لتعطيله بأية وسيلة، للحفاظ على النظام العالمي الذي انبثق بعد نهاية الحرب الباردة.
باعتبار روسيا تمثل الجامع الاجتماعي والثقافي والسياسي بين الشرق والغرب ، ومع اتخاذ البيت الأبيض المقعد الخلفي بالنسبة للدعاية المناهضة للكرملين، تحاول لندن أن تلعب "اللعبة الكبرى".
حقيقة أن حديث الغارديان الذي ظهر مباشرة بعد "الاتفاق" بين رئيس الوزراء الإيطالي ورئيسة الوزراء البريطانية، يبين عمق الاستراتيجية المذكورة آنفا – والتي تعمل على جعل الدول الأوروبية كأدوات للاستراتيجية الكبرى الأنجلو أمريكية، لاستخدامهم في هجوم العولمة ضد اوراسيا.
بدلا من محاولة رأب الصدع الناجم عن العقوبات من أجل إعادة تأسيس العلاقات الودية التقليدية بين روما وموسكو - وبالتالي التحسين الجزئي للاقتصاد الإيطالي - جينتيلوني يعترف بأنه يلعب دور بيدق في يد سيده الأطلسي.