الكتاب الجديد «نظرية عالم متعدّد الأقطاب» جهد أكاديمي سياسي ضدّ الهيمنة الأميركية
يزداد اهتمام مراكز الأبحاث والدراسات ودور النشر والمترجمين في العالم العربي بالمنظّر السياسي الروسي ألكسندر دوغين. يتبدّى ذلك من خلال نقل عدد من كتبه، إضافة إلى مقالات له ومقابلات معه، إلى لغة الضاد. وإذ بدأ ذلك قبل سنوات، فإنه نشط مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط 2022. وفيما يُلاحظ أن لا نقاش عربياً في شأن نظريات دوغين، تنحو الترجمات العربية إلى اختيار مؤلّفات أساسية له، وهي تزاوج ما بين الطابع الأكاديمي والبعد السياسي والأيديولوجي. وهذا بحد ذاته يخدم القارئ والمكتبة العربيين ويُنتظر أن يترافق مع مشاركة العرب في الحوار العالمي والشروع في إنتاج فكر يخرجهم من التبعية والتلقّي... نتوقف هنا عند أربعة كتب لدوغين تُرجمت إلى العربية، ونبدأ من أحدثها.
نقد النظام الدولي وثقافته ومدارسه الدبلوماسية
يَعتبر دوغين صدور كتابه «نظرية عالم متعدد الأقطاب» باللغة العربية (ترجمة ثائر زين الدين وفريد حاتم الشحف عن داري «سؤال» و «استفهام» 2023) «حدثاً مهمّاً جداً». والسبب الذي يدفع دوغين إلى الاحتفاء بهذا الحدث هو جذب العرب والمسلمين إلى مواجهة النظام العالمي الأحادي وسيّدته الولايات المتحدة الأميركية. يقول إن «عالمنا ينتقل بثبات من القطبية الأحادية إلى التعددية القطبية. وهذا ليس مجرّد اتجاه لا رجعة عنه، بل هو- كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- تغيير جذري في البناء الدولي برمّته. لذلك، لا بدّ لأي بلد وأي ثقافة أن تعرف ما هي التعددية القطبية». وانطلاقاً من هذه الغاية يقدّم دوغين كتاب «نظرية عالم متعدد الأقطاب» باللغة العربية، باعتباره «سلاحاً مفاهيميّاً للمرحلة الأخيرة من نضال العالم الإسلامي من أجل الاستقلال عن العمليات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية». أي أن دوغين، باختصار، يمد العرب والمسلمين بـالسلاح الأيديولوجي لمشاركة روسيا في تدمير النظام العالمي الأحادي وبناء «عالم متعدد الأقطاب».
فدوغين الذي يرى «العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا» تجلّياً للتعددية القطبية، لا يسعى لتسليح العرب مجّاناً أو عبثاً. فهو من جهة يريد ترويج نظريته بوصفها مانيفسنتو الشعوب- الحضارات- الدول المناضلة من أجل التحرر، ومن جهة أخرى يقرّ بصراحة بأن بلاده لا تستطيع منفردة كسر الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة على العالم وإقامة «عالم متعدد الأقطاب». وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأقطاب الأخرى، ومنها الدول القومية، التي لا يمكنها فعل ذلك منفردة. ففي مواجهة الحضارة التي تعبر البحار للسيطرة على العالم، لا بد أن تنهض حضارات اليابسة: روسيا (قلب أوراسيا)، الصين (القطب الصاعد المتّجه إلى الصدام مع الولايات المتحدة وهيمنتها)، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (اللذان يرفضان الاعتراف بأنهما مجرد قطب ضمن أقطاب متعددة)، الهند (القطب شبه الكامل)، العالم الإسلامي (حيث نستطيع أن نرى أمثلة على السيادة المتزايدة والمستقلة عن الغرب وحضارة البحر في سياسات الدول الإسلامية مثل إيران وتركيا وباكستان وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية وسوريا ومصر)، أفريقيا، وأميركا اللاتينية (تعد البرازيل والأرجنتين مفتاح الجزء الجنوبي من القارة الأميركية، والمكسيك مفتاح أميركا الوسطى).
لكن كتاب دوغين ليس دعوة إلى «عالم متعدد الأقطاب» أو تبشيراً حتمياً به فحسب، بل إن هذا المنظّر يأخذ على عاتقه مهمة صوغ نظرية لذاك العالم. ويباشر ذلك، في كتاب «نظرية عالم متعدد الأقطاب»، لكونه يرى أن «ما من نظرية كاملة ونهائية لعالم متعدد الأقطاب حتى الآن، من وجهة نظر علمية بحتة». ويجزم بأنه «لا يمكن العثور عليها بين النظريات والنماذج الكلاسيكية للعلاقات الدولية».
ومن أجل صوغ تلك النظرية يستخدم دوغين عدّته الأكاديمية وثقافته ومنهجيته المنطقية في نقد «جميع النظريات الموجودة: الليبرالية، الواقعية، الماركسية ومجموعة واسعة من نظريات ما بعد الوضعية». وفيما يبحث في تطبيق تلك النظريات في النظام العالمي القائم منذ معاهدتي وستفاليا (1657)، يفحص ملاءمة كلّ منها مع عالم متعدد الأقطاب. ويجتهد من أجل إثبات تهافتها وعجزها عن خلق عالم متعدد الأقطاب تكون الحضارة فيه عنصراً فاعلاً أساسياً في العلاقات الدولية. فهذه النظريات تنتمي، في اعتقاد دوغين، إلى النظام العالمي الأحادي كما هي الحال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار الليبرالية، أو إلى النظام العالمي الثنائي كما كانت الحال إبان الحرب الباردة بين العالم الرأسمالي الحر بقيادة الولايات المتحدة والعالم الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي. وفيما ينفي دوغين أن يكون العالم متعدد الأقطاب هو العالم متعدد الأطراف الدولية اللاعبة أو القوية، يؤكد أنه لا يمكن فهم عالم متعدد الأقطاب من موقع حضارة البحر، بل من موقع حضارة اليابسة. فقوة البحر لا تحترم حضارات اليابسة ولا تعترف بخصوصيّاتها الثقافية، إنما تريد إلغاءها. وحضارة البحر، التي تسعى إلى حكومة وثقافة عالميتين، ترى نفسها، بأنانية وغرور، الطريق الوحيد للبشرية، وتعتقد أن تاريخها هو تاريخ المجتمعات كلها. وحينما تواجه مقاومة من حضارة اليابسة تعتبر تلك المقاومة محافظة وركوداً وانشداداً إلى الماضي. وتنظر إلى تلك الحضارة كتخلّف ومعاندة للتقدم والتغيير الحتمي. لهذا، ترى تعدد الأقطاب في العالم تعدد قوى متصارعة. أما حضارة اليابسة فهي في الأصل تعددية. والتعددية التي هي أساس حضارات اليابسة هي المبدأ الأول لقبول تعددية الأقطاب. ولهذا يسهل فهم عالم متعدد الأقطاب إذا ما نُظر إليه من حضارة/ حضارات اليابسة. من هنا، يعتبر دوغين أن ثمة عولمة أحادية هي التي تفرضها قوة البحر، وثمة عولمة بديلة هي التي تنشدها حضارة اليابسة.
وانطلاقاً من هذا، ينتقد دوغين المدارس الحالية في العلاقات الدبلوماسية، ويدعو إلى علاقات حضارية تقوم على الاعتراف بتعدد الحضارات واستقلاليتها وسيادتها ومنافسة الفاعلين الدوليين، وليس «صراع الحضارات» (صامويل هنتنغتون) ولا «نهاية التاريخ» (فرنسيس فوكوياما) عند حضارة واحدة استعمارية.
تصفية حساب واقتراح عولمة بديلة
الكتاب الثاني لدوغين، الذي صدر بالتزامن مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، هو «الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة: عصر الإمبراطوريات الجديدة، الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين» (ترجمة إبراهيم إستنبولي ومراجعة إسكندر الكفوري عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2022). وهذا الكتاب لا يبتعد عن «نظرية عالم متعدد الأقطاب»، إنما هو في صميم المشروع الفلسفي والسياسي لدوغين على رغم أكاديميّته الحاضرة في معظم أعماله. ففي حين يبحث الكتاب في قضايا الجغرافيا السياسية ويتناول أهم المراحل في تطور علم الجغرافيا السياسية، يركّز على تحليل حقبة العولمة الأحادية القطب، ومحاولة الولايات المتحدة الأميركية تعزيز هيمنتها على العالم. ويخصص صفحات للجهود التي تبذلها بعض الدول من أجل عرقلة العولمة الأميركية الأحادية القطب وقيام عالم متعدد الأقطاب. ويتوقّف مليّاً عند سعي روسيا والصين ودولٍ أخرى لإقامة تحالف أوراسي بوصفه مشروعاً بديلاً أو موازياً للعولمة الأميركية.
يعارض دوغين أسس ما بعد الحداثة التي تفترض أنّ تحديث المجتمع التقليدي انتهى بنجاح، وأنه لم يعد ثمة وجود لبُعد المقدَس في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ويعتقد أن هيمنة الغرب على كوكب الأرض ولّدت وهماً كاملاً بأنه جرى دمج ناجح للنخب الإقليمية من البشرية غير الغربية في سياق الحداثة. وفيما يرصد ظاهرة مثيرة للاهتمام هي أن الغرب يفوّض الأخبار المتعلقة بـ»ما بعد الحداثة» إلى النخب غير الغربية، يستنتج أن الهدف من ذلك هو حرمان المجتمعات غير الحديثة من ملامحها التقليدية بصورة فعالة ونهائية.
ويشن دوغين هجوماً على «ما بعد الحداثة» في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويميّز بين اتجاهين رئيسيين فيها: الأول «استعماري»، وهو غربي جرى تطبيقه بوساطة نخب فكرية «كمبرادورية»، كان مطلوباً منها أن تخلق شعاعاً أو ناقلاً صريحاً لعملية التحديث المتسارع، حيث يجري تفكيك كل ما كان في جوهره «غير حداثي» في «الحداثة الروسية الزائفة». وإذ يرى أن ما بعد الحداثة في روسيا كانت شكلاً من الكولونيالية المفرطة، يقول إن هذا الاستعمار فرض «نهاية التاريخ» المُنجَزة في الغرب بالقوة على روسيا التي كان تاريخها موجّهاً من أجل التخلّص والهروب من هذا المنطق.
أما الاتجاه الثاني في ما بعد الحداثة في روسيا، فيطوِّر ما سبق ورُمِي على أعتاب العصر الحديث، أي ما قبل الحداثة بعد أن جرى تحويلها ومنحها وجهاً جديداً. ويدّعي هذا الاتجاه «عودة العصور العظيمة»، أي العودة إلى ما قبل الحداثة. ويلفت إلى أن في ذلك اقتراباً حثيثاً من فكرة الإمبراطورية التي جرى تجاهلها على أعتاب العصر الحديث، مع بدء تأسيس الدولة البرجوازية-الأمة. ويخلص، في هذا الشأن، إلى أن ما بعد الحداثة عملية ختامية للحداثة.
ويفتح دوغين جبهة على العولمة التي يرى فيها عملية فرض للصيغة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية والمعلوماتية الغربية، على جميع دول العالم. ويشرف على تحقيق هذه العولمة «الشمال الغني» (بلدان حلف شمال الأطلسي «الناتو») و»المليار الذهبي». ولا يتردد في وصفها «الاستعمار الجديد»، إذ يتحكّم «الأثرياء» في «الفقراء». والنتيجة، وفق دوغين، هي فقدان الشعوب والبلدان النامية ما تبقى لها من «سيادة»، ومن ثم لا يبقى أمامها سوى أحد خيارين: إما أن تندمج في النظام العولمي، أو أن تصبح بلداناً «منبوذة»، مارقة، «محور الشر».
تصرّ هذه العولمة، من الناحية الاقتصادية، على ضرورة تبنّي النمط الليبرالي للاقتصاد في كلّ مكان، إلى جانب سياسة نقدية راديكالية، واعتماد المذهب المالي (تطوير سوق الأوراق النقدية وشركات رأس المال الاستثماري وغير ذلك). أما من الناحية السياسية، فتؤكد العولمة ضرورة ترسيخ نظام ليبرالي ديمقراطي وعلماني على نطاق واسع وشامل، وسيطرة أيديولوجية «حقوق الإنسان» و»المجتمع المفتوح» و»المجتمع المدني». وهذا ما يقود بالتدريج إلى إلغاء مؤسسة الدولة وإدارات السلطة في مختلف البلدان.
بعد ذلك يقترح دوغين تعريفاً جديداً للعولمة «الإنسانية» التي تطور الحوار بين الثقافات والحضارات وتبادل الخبرات. وفيما توقف هذه العولمة فرض الغرب نمطه الاقتصادي والثقافي والسياسي والمعلوماتي والقيمي على شعوب العالم وبلدانه، تتيح التنوع في النظم الاجتماعية، السياسية والاقتصادية. ويؤكد دوغين الطابع السلمي لهذه العولمة، إذ تقود إلى إزالة السلاح النووي.
ويخصص دوغين قسماً للاقتصاد، فيسأل عن العلاقة بينه وبين الجغرافيا السياسية. ثم يلقي نظرة على المال والجغرافيا (اليورو مقابل الدولار). وبعد تناوله أنماط الرأسمالية في العولمة، يستشرف النظرية الاقتصادية لأوراسيا الجديدة، ثم الجغرافيا السياسية للغاز. ويتوقف عند ظاهرة الإرهاب التي لا يربط ما بين شيطنتها والنظام السياسي في المجتمعات الليبرالية الديمقراطية من النمط العلماني، حيث يجري تصوير شخصية الإرهابي، من الناحية النفسية والسياسية، وتصنيفها باعتبارها تجسيداً لـ»الآخر» و»الغريب» و»العدو».
الأوراسية والنظرية السياسية الرابعة
ليس غريباً، في سياق ترجمة الكتب الأساسية لدوغين صدور كتاب «الأوراسية: الخلاص من الغرب/ الحضارات الأرضية مقابل الحضارات البحرية والأطلسية» (ترجمة وتقديم علي بدر، عن «دار الكا» 2021). فالأوراسية محور أساسي في فكر دوغين، وهي تندرج في ما يسمّيه المفكر الروسي «النظرية السياسية الرابعة». وهذه تقوم، وفقه، على أنقاض/ نقيض النظريات الثلاث: الليبرالية (يمين ويسار)، الشيوعية (بما في ذلك الماركسية والاشتراكية إلى جانب الاشتراكية الديمقراطية)، والفاشية (بما في ذلك الاشتراكية القومية وأنواع أخرى من الطريق الثالث).
لا بد من الإشارة أولاً إلى أن الأوراسية ليست مفهوماً جديداً، إلا أنها مع دوغين وآخرين، ومنذ وصول بوتين إلى الكرملين، تجددت وأخذت منحى أيديولوجياً جديداً شعاره خلاص حضارات تلك المنطقة من الغرب، وتفكيك النظام العالمي الأحادي.
ويكتب علي بدر في تقديم الكتاب: «للأوراسية شقان، شق جيوبولتيكي وشق أيديولوجي. الجيوبولتيكي يعين الأوراسية بالمنطقة الممتدة بين أوروبا وآسيا وتشمل حضارت أربع: الحضارة الروسية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية والحضارة الإيرانية، وهي حضارات أرضية تللورية تقوم بصراع أبدي مع الحضارات الثالاسقراطية البحرية والأطلسية، مثل بريطانيا وفرنسا قديماً والآن أميركا. وتتعلق الحضارات التللورية بالأرض، فالفكرة الأساسية في هذا المفهوم أنها فلسفة تفسر الناس وحياتهم وثقافتهم من خلال الأرض التي يسكنونها، فهذه الشعوب تحافظ على القديم والروحاني، وتتصف بالشمولية والمحافظة، وتقاوم بضراوة قيم الحضارات البحرية التي تصفها بالتقلب، كما أن الحضارات الأرضية تنافي قيم الحضارات الدنيوية، وتعادي أفكارها ولا سيما الأفكار الليبرالية وأيديولوجيا الحداثة وقيم عصر الأنوار».
ويعتبر دوغين أن الأوراسية «فلسفة ككل الفلسفات الحقيقية، تحتوي ضمناً على منظور سياسي، ومقاربة للتاريخ، وإمكانية التحول إلى أيديولوجيا. تستند الأوراسية كفلسفة إلى التحليل البنيوي وليس من قبيل المصادفة أن مؤسس الأوراسية، الكونت نيكولاي تروبسكوي، كان شخصية بارزة في علم اللغة البنيوي. إنها نوع من البنيوية مع التركيز على تعدد الهياكل وتزامنها، حيث يُنظر إلى البنية ككل وهو شيء أكثر بكثير من مجموع أجزائه».
ويرى أن «الموضوعة الأساسية للفلسفة الأوراسية هي الحضارة. فثمة حضارات مختلفة، لا تتشابه مع بعضها. لكل واحدة منها بنيتها الخاصة التي تحدد العناصر التي تتكون منها، وتعطيها معناها وتماسكها. فلا يمكننا تطبيق القواعد والهياكل التي نجدها في أحد هذه البنى على تلك التي نجدها في الحضارات الأخرى، سواء بطريقة غير متزامنة أو متزامنة. تمتلك كل بنية حضارية إحساسها الخاص بالوقت ومساحتها الخاصة».
وبعد أن يعرض دوغين لتطور الأيديولوجيا الأوراسية ومضمونها بأسلوب دعائي مبسّط، يقدم النظرية السياسية الرابعة، التي يؤكد أنها ليست جهداً فردياً بل هي فعل جماعي. ويذكر بالعنوان الفرعي لكتاب «ضد الليبرالية» للمفكر الفرنسي آلان دو بينوا: نحو النظرية السياسية الرابعة.
وفيما يؤمن دوغين بأن النظرية السياسية الرابعة «ضد عالم ما بعد الحداثة»، يكتب: «بالنسبة إلى بلدي، روسيا، فإن للنظرية السياسية الرابعة، من بين أمور أخرى، أهمية عملية هائلة. يعاني كثيرون من الشعب الروسي (الغالبية) من الاندماج في المجتمع العالمي كخسارة لهويتهم. كان الشعب الروسي قد رفض بشكل شبه كامل الأيديولوجيا الليبرالية في التسعينات، لكن من المواضح أيضاً أن العودة إلى الأيديولوجيات السياسية غير الليبرالية في القرن العشرين، مثل الشيوعية أو الفاشية، أمر غير مرجح، لأن هذه الأيديولوجيات قد فشلت بالفعل وأثبتت أنها غير متكافئة مع تحدي المعارضة الليبرالية، ناهيك بالكلفة الأخلاقية التي تنتج عن الشمولية. لذلك، من أجل ملء هذا الفراغ السياسي والأيديولوجي، تحتاج روسيا إلى فكرة سياسية جديدة. بالنسبة إلى روسيا، فإن الليبرالية غير مناسبة، لكن الشيوعية والفاشية غير مقبولتين أيضاً. وبالتالي، نحن بحاجة إلى نظرية سياسية رابعة. وإذا كانت هذه، بالنسبة إلى بعض القراء، مسألة حرية الاختيار وإدراك الإرادة السياسية، والتي يمكن دائماً رؤيتها من منظور إيجابي أو سلبي، فإن الأمر بالنسبة إلى روسيا، هو مسألة حياة أو موت: تكون أو لا تكون!.. وإذا اختارت روسيا أن تكون، فإن ذلك سيؤدي تلقائياً إلى إنشاء النظرية السياسية الرابعة. خلافاً لذلك، يبقى خيار عدم الوجود بالنسبة إلى روسيا، هو ما يعني ترك المسرح التاريخي والعالمي بهدوء، والذوبان في نظام عالمي لم ننشئه أو نحكمه».
ويختم دوغين كتابه باقتراح هذه النظرية على الشعب الأميركي، وإن كان متفائلاً إلا أنه يجد في افتقار أميركا للتربة مشكلة وجودية.
مستقبل روسيا الجيوبولتيكي
بعد نحو خمس سنوات من صدور كتاب «أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي» لدوغين في موسكو (1999)، أقدمت «دار الكتاب الجديد» على نشره، وقد ترجمه وقدّم له عماد حاتم (2004). وهذا الكتاب الذي يعدّه دوغين «المؤلَّف التعليمي الأول باللغة الروسية في علم الجيوبولتيكا»، يتضمن «العقيدة الجيوبولتكية لروسيا». ولا يُخفي دوغين أنه يريد له أن يكون «الدليل الذي لا بديل منه بالنسبة إلى جميع من يتّخذون القرارات في الميادين الأعظم أهميّة في الحياة السياسية الروسية. فالجيوبولتيكا بالنسبة إلى دوغين هي «علم السلطة» ومن أجل السلطة، ويكشف تاريخها، وفق التقديم، أن «مَن عكفوا على دراستها كانوا من دون استثناء ممن شاركوا في حكم الدول والأمم، أو ممن يهيؤون أنفسهم للقيام بتلك الأدوار».
يمهّد دوغين لذلك من خلال مناقشته الفكرة القائلة إن الصراع الإنساني أمر طبيعي في صلب الوجود الكوني. لكن الصراع الذي يتحدث عنه دوغين يختلف عن الصراعات التي تشير إليها الفلسفات والأيديولوجيات والسياسات السائدة، كالصراع الإتني أو الطبقي أو الساعي إلى الاستئثار. فصراع دوغين هو بين القوتين البرية والبحرية. ويشكل هذا الصراع هاجس دوغين الذي لا ينفك يدعو إلى الخروج من نظام القطب الواحد السائد في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
وبعد عرض أكاديمي للنظريات الجيوبولتيكية التي ينتقد دوغين احتكار الأقوياء في العالم لها، يقترح تطبيقاً جيوبولتيكياً لدعم الإمبراطورية الأوراسية الجديدة. وفي هذا السبيل يدعو دوغين إلى ما يشبه التحالف الروسي الألماني. ومن أجل هذا «التكامل» بين «الأشقاء» يحث دوغين على مقابلة العبارة الشهيرة لبسمارك «لا عدو لألمانيا في الشرق»، بشعار روسي يقول: «ليس لروسيا في الأقاليم الغربية وفي وسط أوروبا إلا الأصدقاء». والأهم من هذا أن دوغين «القومي الروسي» لا يتوانى عن دعوة روسيا إلى إعادة منطقة كاليننغراد (بروسيا الشرقية) إلى ألمانيا، على رغم الأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة التي انتزعها ستالين بعد الحرب وضمّها إلى الاتحاد السوفياتي المنفصلة عنه جغرافياً، وما زالت قاعدة عسكرية طروادية لروسيا في أوروبا الغربية.
وفيما يدعو دوغين الذي ينتقد قيادة الاتحاد السوفياتي في سنواته الأخيرة (بوريس يلتسين أولاً وميخائيل غورباتشوف بدرجة أقل) نظراً لجهلها الجيوبولتيكا على خلاف الزعيم السابق جوزف ستالين، إلى التحالف مع الهند، تراه يتحمّس للتحالف مع اليابان وتجاوز تاريخ الصراعات بينها وبين روسيا. ففيما يعتبر دوغين أن الهند الضعيفة اقتصادياً لا تشكل إلا «مخفراً أمامياً لأوراسيا»، يتخوف من الصين وميلها إلى الغرب. أما اليابان، التي لا تنسى الإبادة الذرية في ناكازاكي وهيروشيما، فهي المؤهّلة للاستقلال السياسي، إضافة إلى إمكاناتها وثقافتها.
وأخيراً، هناك محور ثالث يدعو إليه دوغين، ويضم روسيا وإيران اللتين يجمعهما وجود عدو واحد هو الأطلسي. ومن خلال هذا التحالف تتوافر لروسيا فرصة الخروج إلى البحار الدافئة الذي تسعى إليه منذ قرون ويمنعها الأطلسيون منه. وإذ يرى دوغين أن لهذا التحالف انعكاسات إيجابية لروسيا، كون إيران إسلامية، لا يستبعد وجود سلبيات وحواجز قد تنشأ بين روسيا والعالم الإسلامي السني، خصوصاً تركيا والسعودية وآسيا الوسطى. وفيما يراهن على دور طهران في تذليل عقبات مع العالم الإسلامي، يحث العرب على بناء مشروعهم.