الخلافة الافتراضية: فهم إستراتيجية بروباغندا "الدولة الإسلامية" (الجزء الأول)
“لكي يندفع الرجال بقوة نحو تغيير واسع، لابد أن يكونوا مستائين بشدة ولكن ليس من الضرورة أن يكونوا مُعدمين، ولابد أن يكون لديهم شعور بامتلاك عقيدة قوية وقدوة معصومة أو امتلاك تقنيات جديدة للوصول إلى مصدر قوة لا يقاوم. ولابد أن يكون لديهم تصور كبير لتطلعات واحتمالات المستقبل. وأخيراً، لابد أن يكونوا جاهلين تماماً بالصعوبات التي تعوق مشروعهم الواسع. فالخبرة هي العائق.”
إريك هوفير 1951
مـقـدمـة
حرك الصعود السريع للدولة الإسلامية عودة إقبال الرأي العام على البروباغندا الجهادية. ويجدر توقع عودة مثل هذا الإقبال عند إثارة مجموعة إرهابية ما ضجة حول عملية إعدام جماعي لمجموعة من الأشخاص غير المسلحين، والتباهي باستعباد النساء لممارسة الجنس، فمن البديهي أن يجذب اهتمام الناس وصناع السياسات والمؤسسات الإعلامية. وإذا كانت المجموعة تسيطر أيضاً على أراضي غنية بالنفط، وتمتد عبر الحدود الوطنية، وتسيطر على رأس مال وثروة ضخمة، وتوثق جميع جوانب وجودها بعدسات كاميرات عالية الدقة، لابد أن يترتب على ذلك تمعُّن دقيق ودراسات مكثفة. لقد استطاعت الدولة الإسلامية جذب مخيّلة الإعلام الدولي بشكل لم تستطع أية مجموعة إرهابية تحقيقها من قبل. وهذا ليس حادثاً عرضياً وإنما نتيجة إستراتيجية مميزة، تم نشرها بإنتاج بروباغندا مخططة بدقة وغرس شبكة من الناشرين المتحدين للصعوبات. وحيرت رسائلها الفكرية محاولات الغرب لفهم هذا التنظيم الذي لم يكن له مثيل من قبل.
لا تخفق الحكومات والصحفيون في إدانة الأعمال الوحشية للدولة الإسلامية أبداً؛ ويتم تسليط الضوء يومياً على رفع مستويات العنف الذي يمارسه التنظيم بشكل مستمر. ولكن الغضب المتزايد كرد فعل على أعمال مروجي البروباغندا، مبرر كلياً، حجب فهمنا للمجموعة. وفي الحقيقة، بسبب ذلك، اتجهت الجماهير غير الجهادية عبر العالم إلى فهم الدولة الإسلامية بناءً على جزء ضئيل من رسائلها الفكرية، تاركين الجزء الأعظم يمر دون ملاحظتها. وعندما حاول الناس فك شيفرة عنف المجموعة دون دراسة نمط نشاطاتها بشكل كامل، تم تبني مفهوم خاطئ بشكل كبير. وأدى ذلك إلى ظهور إحساس بأنها غير عقلانية سياسياً ومدفوعة بتعطش للدم والوحشية، وساهمت التقارير التحذيرية في تفاقم ذلك. في الحقيقة، تعد الدولة الإسلامية غير عقلانية، ونتيجة لذلك لا يمكنها الاستدامة على الوضع الحالي، لأنها تحجب قابلية الفرد على فهم سبب انجذاب عشرات الآلاف من الأفراد من أكثر من 90 دولة نحو الذهاب والانضمام للتنظيم حتى الآن.
إن حقيقة وجود أعداد كبيرة من الأجانب داعمة للتنظيم في العراق وسورية، عسكرياً أو بطرق أخرى، هو شيء يرعب غير المؤيدين تقريباً بنفس القدر الذي يضايق به الحكومات التي تحاول جاهدةً دحرها. ولأنه من المعروف أن الأجانب شاركوا بانتظام في الحروب البعيدة في الماضي، جذبت الأزمات في العراق وسورية أعداداً ضخمة لم نشهدها من قبل. ورغم الجهود الكبيرة المبذولة لتحديد احتمال سفر شخص ما يعيش في المملكة المتحدة مثلاً للانضمام إلى الجهاديين في سورية والعراق، لم يبذل جهد يذكر في أي بحث حديث لدراسة العوامل التي أدت إلى اختياره هذه الطريق. ويمتد هذا النقص في البحث ليشمل البروباغندا.
وللتأكيد يتم مناقشة النشاطات الإرهابية على الإنترنت بشكل عام من قبل أشخاص مثل بول غرشمان وغابريل ويمان، اللذان يركزان بالتحديد على مجاميع إرهابية جهادية عالمية مثل القاعدة. وقدم علي فيشر ونيكو بروتشا عدد من التقييمات الممتازة. وحول استخدام الإنترنت من قبل الدولة الإسلامية، بالتحديد، تم تقديم بعض المساهمات المهمة، من ضمنها التقييم الشامل من قبل ج.م. برغر وجوناثن مورغان للآليات التقنية التي تنشر الدولة الإسلامية من خلالها البروباغندا على تويتر، وتحليل البيانات الهائلة لنشاطات النشر الدعائي من قبل علي فيشر، الذي يقدم من خلاله مفهوم “نشر الدعاية من قبل المستخدمين بشكل كبير”. ولكن إلى حد هذا اليوم، هناك القليل من التحليلات التي درست بروباغندا الدولة الإسلامية بشكل كامل، من حيث الانتشار والإستراتيجية.
لا يكفي فهم بروباغندا الدولة الإسلامية انطلاقاً من “القيمة الإنتاجية العالية” و”الاحترافية”. فهذا التقرير يتمعن في جوهر الماكينة الإعلامية للتنظيم إذا انتقلنا إلى ما وراء فن التصوير السينمائي اللافت للأنظار. وسيتم تحليل عمليات نشر الرسائل الفكرية للتنظيم إلى مكوناتها الأساسية وتقييمها بشكل نظامي بتطبيق نظرية البروباغندا لعام 1958 للفيلسوف الفرنسي جاك إيلول في كتابه، “بروباغندا: تشكيل مواقف الرجال”، إلى أرشيف المؤلف حول بروباغندا الدولة الإسلامية الذي قام بجمعه بين حزيران 2014 وحزيران 2015. وبعد شرح المنهجية المستخدمة في جمع المصادر الأساسية للمواد التي تشكل أساس هذا التقرير، سيتم تقديم الفرضيات الرئيسية لإيلول. ويلي بعدها تصنيف أولي لبروباغندا الدولة الإسلامية بالإضافة إلى هيكلها التنظيمي وسردياتها.
يعرض الجزء التالي مناقشة حول الجماهير المستهدفة. بالإضافة إلى المؤيدين والأعداء والخصوم المحتملين والناس غير المنخرطين، هناك دراسة مستفيضة عن الناشرين والدعاة والمسجلين. ويتضح بأن محاولة تقييم بروباغندا الدولة الإسلامية عن طريق نماذج الرسائل الفكرية الجهادية السابقة هي منهجاً خاطئاً، فإستراتيجيتها الإعلامية، مبنية على أساس نظام التحفيز والديمقراطية في النشر، هي خروج مختلف تماماً عن الطرق المألوفة وفريدة في عصرها.
قبل التقدم أكثر، من المهم التأكيد على أن الدولة الإسلامية ليست الوحيدة في استخدام البروباغندا، وليست الفريدة في نشر المحتوى على شبكات التواصل الإجتماعي. على عكس ذلك، تستخدم جميع الجماعات الجهادية تقريباً الإنترنت لنشر رسائلها الفكرية من غرب أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا. ولكن الحرب السورية عرضت نموذجاً إنتقالياً. في الواقع، فإن هذا “الصراع الإجتماعي المدني الأكثر تداولاً في الإعلام على مدى التاريخ” يُعرض تقريباً على نحو آني في شاشات الحواسيب حول العالم، مع تنافس جماعات كثيرة – منها المسلحة وغير المسلحة، المؤيدين والمناهضين – من أجل السيطرة على ساحة الترويج الفكرية على شبكات الإنترنت. في حين أنه ليست الجماعات الجهادية لوحدها من تقوم بنشر تقدمها وأفكارها، فهناك جماعات مثل الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في الشام، دون شك تستحوذ على موقع الصدارة. يجب الملاحظة أنه، بالرغم من أن كلاهما يستخدمان “طريقة فيشر للنشر بكثافة”، فإن طبيعة الرسائل الترويجية التي يستخدمونها مميزة. لذلك السبب، لا يخلط هذا التقرير بين إستراتيجياتهم الإعلامية – فهو يدرس الدولة الإسلامية فقط.
المنهجية
إن الحجم الكلي لبروباغندا الدولة الإسلامية هائل جداً. في وقت كتابة هذا التقرير، كان يتم نشر ثلاثة مقاطع فيديو وأربعة صور فوتوغرافية يومياً. وتظهر نشرات الأخبار الإذاعية يومياً، ويتم بثها بانتظام ودقة ولغات مختلفة، من ضمنها العربية والتركية والكردية والإنكليزية والفرنسية والروسية. وإضافةً إلى البروباغندا المذاعة، تؤلف الدولة الإسلامية وتنتج الأناشيد (أغاني جهادية بدون موسيقا) والأفلام التي تعرض ممارسة الأفعال الأكثر وحشية، التي تنشر شهرياً. ويصح القول بأن الجماعات الإرهابية الأخرى أيضاً تنتج بروباغندا، ولكن حجم عمليات الدولة الإسلامية تبقى دون منافس. وهذه ليست ظاهرة عرضية.
من أجل تحديد الإستراتيجية المتبعة في الاستخدام الاحترافي للإنترنت، حيث يتم نشر المحتويات بوتيرة ثابتة، فقد قام المؤلف بمراقبة إنتاج بروباغندا التنظيم خلال السنة التي تلت إعلان التنظيم “الخلافة” وتنصيب أبو بكر البغدادي “خليفة” لها في 29 حزيران 2014. وقد تم توثيق كل حملة باستخدام عدد من الحسابات المستخدمة لمراقبة الشبكات المؤيدة للدولة الإسلامية باللغتين الإنكليزية والعربية على منصات ومنتديات الإعلام الإجتماعي. وتم استبعاد بروباغندا أسلافها – الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الدولة الإسلامية في العراق (ISI) والقاعدة في العراق (AQI) – باستثناء شيئين، في ضوء التحول الملحوظ في النوعية والكمية والسرديات التي تم نشرها في أعقاب إعلان الخلافة.
ويمكن القول أنه لا ينبغي تهميش محتوى ما قبل إعلان الخلافة على أنه غير ذي صلة، وفي النهاية فإن تطور البروباغندا للجماعات السابقة هو المسؤول عن طبيعة الرسائل الفكرية للدولة الإسلامية اليوم. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن إنتاج البروباغندا قد ازداد بشكل ملحوظ منذ حزيران 2014. وعلاوة على ذلك، باتت شعاراتها أكثر تعقيداً ونظامية. وهذا بحد ذاته مهم جداً، لأنه يبين حتى هذا اليوم أن ماكينة البروباغندا لديها لا تزال في تطور مستمر.
وإلى جانب مراقبة بروباغندا الدولة الإسلامية، قام المؤلف أيضاً بالدخول في محادثات مع مؤيدين حاليين وسابقين للتنظيم الذين لعبوا في السابق أو يلعبون الآن دوراً مهماً (ولكن ليس رسمياً) ضمن الدوائر الغامضة للنشر والتبشير والتجنيد. وتم إجراء مقابلات مكثفة على شبكات التواصل الإجتماعي ومع شخصين عن طريق البريد الإلكتروني، أحدهما عراقي مؤيد للدولة الإسلامية مدعياً بأنه في بغداد، والثاني مؤيد سابق للمجموعة وقام بالتراجع عن وجهات نظره بالكامل.
الإطار النظري لبروباغندا الدولة الإسلامية
يعرض العمل المؤثر لجاك إيلول حول البروباغندا وسائل ناجعة لتسليط الضوء على إستراتيجية إعلام الدولة الإسلامية. في كتاباته عام 1958، ذكر إيلول أن البروباغندا لم تكن طريقة لغرز أفكار جديدة، ولكن وسيلة لمضاعفتها وبلورتها. ولهذه الغاية، يعمل مروجوا البروباغندا على إحاطة الشخص المستهدف بشكل كامل وترسيخ وتطوير الأفكار الموجودة سابقاً في رأسه باستمرار. ويعتبر إيلول الطبيعة الشمولية والغامرة للبروباغندا لتكون أساساً لنجاحها – وتكون أقوى عندما يتيه الشخص فيها ويبدأ في المشاركة وفي النهاية يحصل منها على شعور الرضا عن النفس. عند هذه النقطة عندما تحتل بروباغندا الحياة الشخصية والعامة لذلك الشخص تكون قد نجحت.
في فكر إيلول – وحتماً في حالة الدولة الإسلامية – يتمثل الهدف الأول لمروجي البروباغندا في بناء نوع من التفاعل بينهم وبين متلقي البروباغندا، وبذلك يجعلون الجماهير المتلقية تعكس طوعياً صورة مقدرة مسبقاً للأحداث عبر المجالات العامة والخاصة. وبالطبع، عند كتابة إيلول لهذه الآراء لم تكن شبكات التواصل الإجتماعي موجودة آنذاك. ويمكن القول جدلاً بأن هذه الشبكات موجودة حالياً، وعليه فإن آراءه تنطبق على يومنا هذا أكثر من أي وقت آخر. وبأكثر من طريقة، تمثل منصات التواصل الإجتماعي الطرق الأمثل لمروجي البروباغندا لتمرير رسائلهم الفكرية. وبعد كل شيء، يعزز النشر عبر منصات التواصل الإجتماعي شيئاً مماثلاً لهذا التفاعل، حيث “لا يوجد حدود واضحة بين الجمهور ومنتج المحتوى”، وبأسلوب أكثر فعّالية من الإعلام التقليدي: فهي لا تحفز اعتماد البروباغندا على مروجيها فحسب، بل لها القابلية على دفعهم لأخذ دور ناشط.
وعندما يتعلق الأمر بالآليات المختلفة للرسائل الفكرية السياسية، يؤكد إيلول أنه لا توجد بروباغندا واحدة فقط، ولكن بدلاً عن ذلك، هناك تفاعل مستمر لأشكالها المختلفة مبني على غرار الأضداد المتنوعة. وتلك الآليات، التي ستتم مناقشتها لاحقاً ضمن السياق الخاص للدولة الإسلامية، تؤثر إحداها على الآخرى من أجل تدريب وتوجيه واستقطاب متلقي البروباغندا. وفي هذا الأسلوب، لا تعد البروباغندا وسيلة لضمان الدعم فقط، ولكن طريقة لتنشيط المشاركة الشخصية في تمرير الأفكار في حين لا يزالون متوهمين بأنهم يتمتعون بتفكير مستقل. فإنها تعرض المشاكل ومن ثم تقدم الحلول، إنها تشرِّب الأفكار وتختار متلقين جُدد ومن ثم تفسد العملية الفكرية. ونوعاً ما إن الكمية مهمة بقدر النوعية، لأن مروج البروباغندا يستطيع فقط عن طريق النشر المستمر للمحتوى بأن يقدم مجموعة من الأهداف وتنظيم السمات المميزة للشخص ضمن نظام معين. ولتستطيع البروباغندا أن تطوق فرداً ما وتجرده من القدرة على التفريق بين الحقيقة والباطل، فلابد من الاستمرارية والانتظام.
لا يمكن للبروباغندا العمل ضمن الفراغ. فلنجاح إستراتيجية معينة في نشر رسالة فكرية معينة، لابد أن يكون هناك بيئة من الأفكار والمفاهيم والسرديات المساندة. وهذا ما يشير إليه إيلول بـ “ما قبل البروباغندا”.فبدون تلك البيئة، “لا يمكن للبروباغندا أن تتواجد”.وبالنسبة للأشخاص الذين يتقبلون “ما قبل البروباغندا”، لن يشكل هذا المحتوى ببساطة قوة خارجية تؤثر عليهم سلبياً؛ ولكن، من الممكن أن تتحول إلى شيء يسعون لاستهلاكه بمعرفة أو بدونها. فبالنسبة لإيلول هذا الاعتماد هو “عقلية البروباغندا”، ومع تزايد اهتمام الشخص وركود مصادر المعلومات الأخرى، يتخلى متلقي البروباغندا عن الاهتمام ماعدا “التعبير النشط والمثير عن الرأي”، الذي يحتفظ به أصلاً. وعليه، فإن أحد الأهداف الأساسية لمروج البروباغندا هو تعزيز اعتقاد المتلقي إلى الحد الذي يبتعد به عن الحقيقة وينعزل عن أقرانه. وعندما يحدث هذا، يتضاعف الانحياز، وعندما “يقال للشخص بأنه على حق في الاحتفاظ بها”، يتم ترسيخ الأفكار التي كانوا يؤمنون بها أصلاً. وأخيراً، مع استمرار تطويق الشخص بالبروباغندا، يتم تطبيع المفاهيم فيصبح هو أو هي شخصاً آخراً مطيعاً للإيعازات الخارجية”.في هذه المرحلة، يتم إشباع المتلقي للبروباغندا بشكل كامل، وينتهي به المطاف أخيراً بتحوله إلى شخص مستهلك وناقل للمحتوى الذي بات يعتمد عليه، لجميع النوايا والأغراض. ومن خلال عدسة أعمال إيلول، ربما يمكن استيعاب إستراتيجية إعلام الدولة الإسلامية بشكل مثمر. إنها حقاً، تعرض عدداً كبيراً من المميزات المتوافقة مع تقييمه للبروباغندا. وعلى نهج ما كتبه، ليس هناك تصنيف سهل لبروباغندا الدولة الإسلامية؛ فالأفكار التي يروج لها مروجو البروباغندا لا يتم تبنيها من لا شيء، وليس هناك جمهور واحد فقط. وبأكثر من طريقة تقدم لنا الدولة الإسلامية توضيح نموذجي لأفكار إيلول. وفي الغالب ساهم انهماكنا بمعرفة البروباغندا – الأمر الذي لا علاقة له البتة عندما يتم تقييم احتمالية استمرار التنظيم على المدى البعيد – في عرقلة تحليل كيفية تنفيذها لإستراتيجية البروباغندا لديها بالتحديد. تنوي الصفحات التالية أن تغير ذلك، ابتداءً من التصنيف الأولي لماكينة بروباغندا الدولة الإسلامية.
تصنيف بروباغندا الدولة الإسلامية
غالباً ما تتوافق الآراء على أن الوحشية هي امتداد لبروباغاند الدولة الإسلامية. وببساطة، هذا ليس صحيحاً. فالنطاق الكامل لرسائلها الفكرية السياسية واسع جداً – بالإضافة إلى الوحشية تهتم بالشفقة والضحية والانتماء والعسكرة وطبعاً التنبؤ بالطوباوية. وهذه الأفكار ليست بجديدة على الإطلاق. فأكثر المنظمات الجهادية المماثلة في أيديولوجيتها، إن لم تكن جميعها، تستغل نفس الأفكار. ولكن ما يجعل الدولة الإسلامية مختلفة هو الكمية والنوعية والانتظام التي تستخدمها في معالجة الأمور ببراعة.
منذ إعلان دولة خلافتها، ارتفعت إنتاجية بروباغندا الدولة الإسلامية بشكل هائل وأصبحت أكثر تعقيداً. فقد تم تحسين الأفكار التي كانت موجودة أصلاً وتم إدخال الأفكار الجديدة. منذ 29 حزيران 2014، تزايدت الرسائل الفريدة ذات الطابع البروباغندي بين الجماعات الإرهابية: البث الإذاعي اليومي والموجز الإخباري المكتوب والمقالات التصويرية ومقاطع الفيديو – لجميعها بصمات دقيقة خاصة بها – تُصَور الإعدامات ومقتطفات من الحياة اليومية والتدريبات الدينية والعمليات العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، هناك إصدارات بانتظام قليل ولكن أكثر أهمية تصدر من أفرعها المركزية الثلاثة المختصة بإنتاج فيديوهات البروباغندا، وهي مؤسستي “الاعتصام” و”الفرقان” ومركز “الحياة” للإعلام.
لا يتوقف الأمر هنا. فتساهم البروباغندا المُعدة من قبل مؤيدي الدولة الإسلامية حول العالم في دعم الإنتاج الرسمي للتنظيم. وهناك ثروة كبيرة من المواد المُعدة من قبل الشباب المؤيدين وتشمل فيديوهات وقصائد وملصقات إعلانية ومقالات، بالإضافة إلى إذاعة الأخبار بشكل عام والتي تكون موجهة أكثر فأكثر نحو نشر سردية الدولة الإسلامية. وهذا النشاط، الذي يعتبر أقل أهمية بالنسبة للمنافذ الإعلامية نظراً لإنتماء منتجيها غير الرسمي للمجموعة، يحمل طابع البروباغندا، وبدونها يتواجد المحتوى الرسمي في فراغ. ومهما تكن الحالة، ساهم النطاق الهائل والتنوع الكبير لبروباغندا التنظيم في الوقوف كعائق أمام أي تحليل مفيد. وعليه، قبل الشروع في فحص المواضيع والسرديات المتضمنة، سيتم تنظيمها مرة ثانية في الإطار المقدم من قبل إيلول، والذي يفند فيه جميع أنواع البروباغندا – الرسمية وغيرها – إلى خمس ثنائيات من “الأضداد”.
السياسية مقابل الإجتماعية
الأولى، والأوسع، هي ثنائية البروباغندا “السياسية” و”الإجتماعية”. وفي حالة الدولة الإسلامية، يمكن فهم البروباغندا “السياسية” بأفضل طريقة على أنها الرسالة الفكرية الرسمية والمباشرة، سواء كانت موجهة إلى جمهور صديق أو معادي. ومن ناحية أخرى، تنتج البروباغندا “الإجتماعية” عن “اختراق طويل الأمد وتأقلم تدريجي”، نظراً لكونها منتجة من قبل مؤيدي الدولة الإسلامية وليس من قبل منصات إعلامها الرسمي. وتشمل هذه المنتجات القصائد والمعلومات الثقافية والتقارير المصورة ومونتاج الفيديو التي تحيط بالمادة الإعلامية الرسمية. وتعتبر البروباغندا “الإجتماعية” جوهرية بطبيعتها: لا يمكن فرضها من الأعلى بل يمكن إيحاؤها فقط. ومع ذلك يمكن تسريع هذه العملية بما أنه لا يمكن فرضها بالقوة. وعن طريق إنتاج وتوفير كمية من المحتوى “الخام” الرسمي، يستطيع مروجو بروباغندا الدولة الإسلامية تسهيل إنتاج تدفق مستمر من المحتوى غير الرسمي ولكن متعلق بالرسائل الفكرية. وبهذا الأسلوب، يمكنهم توجيه الصورة المنتقاة للخلافة بدقة و”تكثيف الميول الموجودة، وزيادة دقتها وتركيزها".
التكتيكية مقابل الإستراتيجية
ضمن فئة البروباغندا “السياسية”، يحدد إيلول ثنائية أخرى من الأضداد: البروباغندا “التكتيكية” و”الإستراتيجية”. تهدف البروباغندا “التكتيكية” إلى إحداث ردود فعل محسوسة قصيرة المدى من قبل المراقب. وفي حالة الدولة الإسلامية، قد تكون أي شيء من الهجرة والإرهاب إلى التدخل. وبالمقابل، فإن البروباغندا “الإستراتيجية” تركز على تكثيف الأهداف الطويلة الأمد تلك؛ وتسعى إلى تأسيس والمحافظة على الإطار التنظيمي. إن الجزء الأكبر من بروباغندا الدولة الإسلامية، التي تحافظ على محيطها الإجتماعي، يجب أن تُفهم على أنها “إستراتيجية”. وفي هذه الفئة يقع المحتوى التعبيري أو غير المباشر، وغالباً، الأشياء التي تبدو دنيوية إلى حد كبير: المقاتلون يصطادون الأسماك، وأكوام من السجائر يتم حرقها، والأطفال يلعبون في الشوارع، والأضرحة تُهدم و…… إلخ. ولوحدها يكون تأثير هذه التقارير ضعيفاً نسبياً. ولكن الإشباع المستمر لزاوية الدولة الإسلامية على الإنترنت بهذه المواد يجعل من رسائلها الطوباوية أكثر قوة وتأثيراً. وهنا توظيف كلا العنصرين الأساسيين معاً يشكلان عناصر أساسية من الإستراتيجية الشاملة.
الرأسية مقابل الأفقية
وبعد ذلك، هناك بروباغندا “رأسية” و”أفقية”. وأفضل وصف للأولى هو أنها الرسائل الفكرية التي تُنتج ويُفوض بها وتُنشر بشكل رسمي من قبل الدولة الإسلامية نفسها. وتدعم هذه الفئة من البروباغندا شعار المنظمة وتحافظ عليها من الفشل وتشمل جميع المحتويات التي تسعى من خلالها لتحسين صورتها. أما البروباغندا “الأفقية”، تشبه البروباغندا “الإجتماعية” إلى حد ما، من حيث أنها تشير فقط إلى المحتوى الذي ينبثق من المحيط الذي تتواجد فيه البروباغندا الرأسية الرسمية. ليس من الضروري أن تكون سياسية في رسائلها الفكرية، ولكنها كذلك في معظم الأحيان. وتقوم الدولة الإسلامية بدمج هذين النوعين من البروباغندا باحترافية تامة لكي تدعم إحداها الآخرى باستمرار.
التحريض مقابل الاندماج
الثنائية الآخرى لإيلول هي بروباغندا “التحريض” و”الاندماج”. الأولى معنية كلياً بالتعبئة والتجنيد. وتوجه نحو تعزيز أفكار الفرد وتفعيله من أجل الإنتقال من “الاستياء إلى التمرد” – وفي حالة الدولة الإسلامية، من المؤيد السلبي إلى الناشط. وترتبط بروباغندا “الاندماج” بإحكام بالبروباغندا “الإستراتيجية” و”الإجتماعية”، وهي مثلهما تدريجية. تُنشِأ الأسطورة الطوباوية وتحافظ على الآراء التي تعالج البروباغندا “التكتيكة” ببراعة وتقوم بتفعيلها. وببساطة، أوجدت بروباغندا “التحريض” ونُشرت لتأمين النشاط، بينما تسعى بروباغندا “الاندماج” إلى ضمان التزام المراقب بنظام المعتقدات التي تبرر الأفعال التي سيتم إثارتها لاحقاً. وهكذا يعرض مروجو بروباغندا الدولة الإسلامية قدرة فريدة على تركيب هذين النوعين، الشيء الذي يُفقد بانتظام نظراً لحقيقة أن الطبيعة الوحشية الغالبة لبروباغندا “التحريض” تجعلها الأكثر وضوحاً وانتشاراً ولذلك “تجلب كل الانتباه عموماً”.
العقلانية مقابل اللاعقلانية
الثنائية الأخيرة من الأوصاف التي يحددها إيلول هي “العقلانية” و”اللاعقلانية”، وتستخدم الدولة الإسلامية كلاهما في تحريف “الحقائق لإثبات تفوق نظامها بعقلانية” والواقعية المزعومة لمدينتها الطوباوية المُتخيّلة. ويوضح هذا التدفق المستمر للأدلة الصوتية والمرئية التي تصور، مع الإشارة إلى “العقلانية”، تطبيق المشروع الجهادي “اللاعقلاني” للدولة الإسلامية. ويتم توظيف كل شيء، حتى التفاصيل اللحظية التي تبدو غير هامة، في سبيل تعزيز هذه التركيبة المصطنعة من الحقائق والمبالغات والأكاذيب. وتقع هذه الثنائية في جوهر عقدة التفوق الطوباوية للدولة الإسلامية، التي كما هو موضح أدناه، ذات أهمية أساسية في وجود وإدامة التنظيم.
الثنائيات المذكورة أعلاه ليست منفصلة. وتحتاج لدمجها معاً إذا أرادت إستراتيجية البروباغندا تحقيق قدرتها المحتملة. وبالتأكيد، يظهر بأن إستراتيجيي بروباغندا الدولة الإسلامية يدركون ذلك. وخلال تطور الدولة الإسلامية المستمر نحو السلوك الشرير، استطاع مروجو بروباغندا التنظيم التنسيق بين ما تم ذكره أنفاً – البروباغندا “الإجتماعية” و”السياسية” و”الأفقية” و”الرأسية” و”التحريض” و”الاندماج” و”العقلانية” و”اللاعقلانية” – من أجل تغذية وتخصيب وتوسيع محيطها التي تتواجد فيه رسالتها الفكرية. الآن وبعد اقتراح الإطار العملي لفهم هيكليتها، فقد تم تهيئة الأرضية المناسبة لدراسة وتفحص مثمر للمواضيع الأساسية الستة لشعار “الخلافة”.
ستة سمات رئيسية لشعار الدولة الإسلامية
كما تم ذكره أعلاه، هناك مفهوم عام خاطئ حول بروباغندا الدولة الإسلامية، وهي أنها تبدأ وتنتهي بالوحشية. ولكن، سواء كان فيديو يصور إعدام مجموعة من الرجال من قبل فرقة مسلحة في الصحراء، أو قطع جماعي للرؤوس أو كلاهما، فإن العنف الشديد مجرد جزء من الصورة الأكبر. وكما سيتم توضيحه في الصفحات التالية، الوحشية أحد الأساليب التي تستخدمها المنظمة لتضخيم وجودها وأهدافها الإستراتيجية فقط؛ والأساليب الأخرى هي الشفقة والضحية والحرب والانتماء والطوباوية. ومثل الآليات التي يتم عبرها إيصال هذه السمات، هي ليست منفصلة. وفي الحقيقة، يتم توظيفها عادة مع بعضها البعض.
1. الوحشية
لا يمكن للشخص أن ينكر المكانة التي تتمتع بها هذه السمة في الرسائل الفكرية للدولة الإسلامية: حيث يستمد منها جميع مؤيدي أيديولوجية التنظيم الرضا عن النفس. فبعد كل شيء، إنها تدعم الجانب الرئيسي للبروباغندا والتفوق. عند تنفيذ عملية الإعدام في كل مرة، يتم توثيقها وإعلانها، حيث تخدم كتذكرة بالسيادة المزعومة للمجموعة وقدرتها على الإنتقام نيابة عن المسلمين السنة ضد المؤامرة الصليبية – الشيعية – الصهيونية القائمة ضدهم. وتخدم البروباغندا الأكثر وحشية للدولة الإسلامية كوسيلة لنقل رسالة الإنتقام والتفوق.
كما تم ذكره آنفاً، لا يستهدف هذا المحتوى المؤيدين العلنيين فقط. في الحقيقة، هم ليسوا حتى من الجماهير الأساسية المستهدفة. ولكن هذه المواد موجهة إلى المعارضين الناشطين أو الذين من المحتمل أن يتحولوا إلى معارضين للدولة الإسلامية. وأيهما بالضبط يعتمد على الوحدة المسؤولة عن الإنتاج ومن الذي يتم إعدامه. على سبيل المثال، الفيديو المنتج في تشرين الثاني 2014 لإعدام ثلاثة جنود من الجيش العربي السوري، كان له جمهور مختلف تماماً عن الذي صور مقتل الصحفي الياباني كينجي غوتو. فكلاهما كان وحشياً وصادماً، ولكن لأسباب واضحة، اجتذب الأخير فقط اهتماماً عالمياً. عندما تصور الدولة الإسلامية الإعدامات الشنيعة للرجال الذين تزعم أنهم “جواسيس”، فهي تسعى إلى تحذير المنشقين المحليين المحتملين بما سيحل بهم من عقاب صارم وشديد إذا ما انشقوا عنها.
أياً كانت الحالة، هناك أربع دوافع وراء إدخال الوحشية في نسيج الرسالة الفكرية للدولة الإسلامية. وعلاوة على كسب رضا مؤيديها ببساطة، تسعى إلى ترهيب أعدائها، وتحذير السكان المحليين من العقاب المترتب على التجسس أو الإنشقاق وإثارة غضب رأي الإعلام العالمي والتسبب في استجابات إنهزامية من قبل صناع السياسات المعادين لها. وغالباً ما يتم السعي لتحقيق الدوافع الأربعة في نفس النشرة الإعلامية.
2. الشفقة
تظهر سمة الشفقة عادةً بالترادف مع الوحشية. فهي مرتبطة بفكرة التوبة، أمام الله والدولة الإسلامية نفسها. وهناك مثال واضح على ذلك في فيديو مصور في نيسان 2015 بعنوان “من الظلمات إلى النور”، حيث يظهر مقاتلون من جبهة النصرة والجيش السوري الحر والجيش العربي السوري – من المزعوم أن جميعهم من الأعداء اللدودين للدولة الإسلامية ولبعضهم البعض – ينكثون عهدهم القديم ويلتحقون بالدولة الإسلامية. تنشر الدولة الإسلامية بانتظام مثل هذا المحتوى حيث يتم عرض الناس وهم يستجيبون لدعوة “الاستتابة”. وعند التوبة، تُعرض مثل هذه المقتطفات التي تظهر ترحيب الجهاديين بهم. الرسالة واضحة: سوف تعفوا الدولة الإسلامية عن الانتماءات الماضية للشخص، بشرط أن يتخلى عن الماضي برمته ويعلن بيعته للدولة الإسلامية. فإذا ما تم الإلتزام بهذه الشروط، يمكن للشخص أن يصبح واحداً من العصابة.
لا تقتصر هذه “الشفقة” على المقاتلين، ولكن تشمل أيضاً المدنيين والموظفين الحكوميين السابقين. على سبيل المثال، في بداية السنة الدراسية الأولى للخلافة، فقد ورد بأنه تم تصوير معلمي المدارس الإبتدائية والإعدادية وهم يعلنون توبتهم في تجمعات مختلفة وبعدها تم إعادتهم إلى النظام الدراسي. وهناك فيديو وثائقي لمدة 30 دقيقة حول هذا الموضوع. وبالمجمل إن للشفقة علاقة رمزية وثيقة مع الوحشية. حيث يتم غالباً ربط الفكرتين في ثنائية مزدوجة، تعرض على سكان المناطق الواقعة تحت اعتداء الدولة الإسلامية خياراً مطلقاً: قاوم، تُقتل، أو تُب، واستسلم وكفر عن المعتقدات السابقة، تسلم وتُكافأ بالغفران.
3. الضحية
السردية التالية، التي تعتبر سمة مشتركة بين جميع الجماعات الجهادية، هي أن المسلمين السنة أصبحوا ضحية الحرب العالمية على الإسلام. مثل الشفقة، يتم تكرار استخدام فكرة الضحية بانتظام ترادفاً مع الوحشية. إحدى الأمثلة الواضحة على هذا جاءت في مقتطف “شفاء صدور المؤمنين” الخاصة من إنتاج مؤسسة “الفرقان”، وفيه تم حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة وهو حي قبل ردم جثته بجرافة. وهنا يتم معالجة الثنائي المتضاد للضحية والعدالة الإنتقامية ببراعة مذهلة. قبل عرض الشريط الذي يظهر حادث مقتل الكساسبة، تم نشر مشهد ما بعد قصف طائرات قوات التحالف، تظهر القتلى والأطفال يموتون. تم القيام بهذا العمل لسببين: أولاً، تذكير المشاهد بالتبرير لسردية “المقاومة” في حرب الدولة الإسلامية، وثانياً، العودة إلى الأسس الدينية التي يستمدون منها أساليب الإعدام، وبالتحديد المماثلة، أو القصاص بالمثل. لقد تم استخدام فكرة مماثلة للعنف والضحية في فيديو آخر تم نشره في تشرين الثاني 2014، الذي يتم فيه ذبح اثنان وعشرون جندياً من الجيش العربي السوري في آن واحد في سورية.
وفي فيديو نشر في حزيران 2015 في ولاية نينوى التابعة للدولة الإسلامية، يتم عرض مثال جيد آخر على هذا. ويبدأ بعرض مقاتل يحمل ذراع طفل منفصل عن جسده في موقع تفجير غير معروف. وبعدها بفترة وجيزة، تظهر ثلاث مجموعات من “الجواسيس” المزعومين يتم حرقهم أحياء في سيارة مصابة بقذيفة صاروخية موجهة، يغرقون في قفص حديدي وتقطع رؤوسهم بالمتفجرات. ويهدف تصوير جثة الطفل في بداية الفيديو إلى تجسيد الأذى والظلم الواقع على المسلمين السنة في العراق بالإضافة إلى تبرير ما يحدث لاحقاً. من الواضح إذاً، أنه قد تم توظيف سردية الوحشية هنا أيضاً وتم استغلالها بنجاح كبير. ومحلياً يسعى الفيديو إلى ترهيب السنة الذين يفكرون في التخلي عن التنظيم أو القتال ضد الدولة الإسلامية؛ وعالمياً، تقصد تداولها من قبل الإعلام الغربي وإيصالها إلى الجماهير المناهضة وغير المكترثة بالموضوع. وللتأكد من أن مروجي البروباغندا قد حققوا أهدافهم – عرضت بعض المنصات الإعلامية صوراً ثابتة للجواسيس وهم يعدمون، والتي تم مشاركتها آلاف المرات في غضون ساعات قليلة. من الجدير بالملاحظة، أن مروجي بروباغندا الدولة الإسلامية يتجنبون هذا النوع من النماذج المتماثلة كلياً، ونيابة عن ذلك يختارون التركيز على ما بعد الحدث فقط، فعلى سبيل المثال، الغارات الجوية لقوات التحالف على ما يدعون بأنها أهداف مدنية. أياً كانت الحالة، فإن الأضرار الجانبية تصب في صالح مروجي بروباغندا الدولة الإسلامية؛ ويتم استغلال الجثث والأطفال المشوهين عادةً لعرضها ضمن قائمة الجرائم التي ترتكب من قبل “الأعداء”.وهذا ليس بالأمر المفاجئ. فمنذ اتخاذ الرئيس أوباما قراراً بقصف الدولة الإسلامية جواً في 2014، كان لابد لها أن تحرف سردية جعلهم الضحية لكسب قلوب الجماهير.
4. الـحـرب
تعتبر آلة حرب الدولة الإسلامية الجزء الرابع الهام جداً من شعارها. وباستمرار يقوم مروجو بروباغندا التنظيم بتضخيم الانتصارات العسكرية، بالإضافة إلى تصوير مخيمات التدريب بانتظام والعرض العسكري لمدفعيتها ودباباتها وسياراتها المدرعة وكذلك العمليات الإنتحارية.
وعلاوة على ذلك، ينشرون صور القتال في الخطوط الأمامية، وغالباً ما تنقل مباشرة من قبل المراسلين العسكريين للدولة الإسلامية التابعين لوكالة أخبار “أعماق”.إلى جانب ذلك، هناك انهماك بجمع الغنائم – سلب أسلحة الأعداء وذخائرهم – ويفيد هذا مروجي البروباغندا ضمن سعيهم لتجسيد زخمها القوي وتفوقها. وكل ما سبق، إضافة للزي النظامي والانضباط والحركات المنسقة، يهدف إلى تغذية فكرة أن الدولة الإسلامية “دولة” واقعية مع جيش حقيقي، ومن ثم المساهمة في سردية بناء الطوباوية.
بالرغم من أنها تهدف ظاهرياً إلى ترهيب القوات المعادية ورفع معنويات المقاتلين، يخدم هذا المحتوى أيضاً غرضاً تكتيكياً. بالإضافة إلى تقديم فهم محرّف إلى المؤيدين والمتعاطفين عن انتصاراتها، تعمل كذلك على إرباك الأعداء عن طريق نشر معلومات مزيفة. فبعد كل شيء، ورغم أنها ترغب في نقل الانطباع بأنها تقوم بذلك، لا تعرض الدولة الإسلامية حربها كلياً. في بعض الحالات، يركز مروجوا بروباغندا التنظيم على توثيق ما يجري في جبهة معينة بينما يفرضون التعتيم الإعلامي على جبهة أخرى. في صراع تقل فيه المعلومات الاستخبارية، تشكل المعلومات التي يمكن الحصول عليها من المصادر المفتوحة على الإنترنت مصادر قيّمة. وباعتبار ذلك، تهدف إلى انتقاء وحفظ المعلومات المتوفرة عن طريق احتكار التقارير الصحفية الواردة من ساحة المعركة. فهجومها على مدينة الرمادي في ربيع 2015 كان مثالاً حياً على ذلك. في الأسابيع الأولى للهجوم، كادت الأدلة البصرية التي تثبت بأن الهجوم قد حدث حقاً تكون معدومة. وفي نفس الوقت، أغرق مروجوا بروباغندا الدولة الإسلامية موجات البث بالصور والفيديوهات من هجوم آخر على مصفاة بيجي للنفط، التي عملت على لفت انتباه المراقبين في الاتجاه الخاطئ. ولذلك، في أيار 2015، كان الهجوم الأخير على مركز محافظة الأنبار مفاجئة لأغلب المشاركين بشكل مباشر في العملية حسب تعبيرهم.
5. الانتماء
إن سردية الانتماء قريبة من السرديات الأربعة السابقة، لكنها تختلف عنها. هذه الفكرة هي إحدى السرديات الأكثر قوة لاستقطاب المجندين الجدد وخاصة من الدول الغربية. ورغم منشوراتهم المستمرة، على سبيل المثال، التقارير المصورة التي تصور استراحة المجاهدين وتظهر المقاتلين في حالة الاستراحة وهم يحتسون الشاي ويأكلون معاً، يؤكد مروجوا البروباغندا على فكرة الأخوة في دولة الخلافة. تجسد هذه الصور الصداقة الحميمة بين المقاتلين وتؤكد على نقل رسالة مؤثرة بأن المجندين الجدد يتم استقبالهم بحفاوة حال وصولهم إلى أراضي الدولة الإسلامية، وهو شعور لا يقاوم حسب اعتقاد مروجي البروباغندا. في أغلب الفيديوهات المنتجة باللغات الأجنبية الصادرة عن مركز “الحياة” للإعلام، على سبيل المثال، “الأخوة” من جميع أنحاء العالم يظهرون على عدسات الكاميرا مع بعضهم البعض في الحدائق وهم يستمتعون بأوقاتهم ووجوههم صورة للهدوء والسكينة.
ليس من الصعب إدراك سبب استغلال هذه السردية؛ إذا ما أرادت الدولة الإسلامية استكمال صفوفها مجدداً، تحتاج إلى استهداف وتجنيد الأجانب. من أجل فهم عملية الاستقطاب نحو التطرف بشكل أفضل، يدرك مروجو البروباغندا بأن عرض الصداقة والأمان والإحساس بالانتماء عوامل قوية لجذب مؤيديها في الخارج. يتم تحريف الأفكار نفسها ببراعة لجذب المؤيدين على نحو أقرب إليهم. على سبيل المثال، في “منهج النبوة”، يقوم مروجوا البروباغندا في مؤسسة “الفرقان” بإدراج مقتطفات للمجندين الجدد وهم يحضنون إخوتهم الجدد بفترة وجيزة بعد مبايعتهم للبغدادي.
تعزز الدولة الإسلامية مفهوم الأمة بقوة فائقة وتأخذه إلى أبعد بكثير من سردية الطليعة الأولى النخبوية للقاعدة. ومن خلال ذلك، تضفي الطابع الديمقراطي على قابلية الإنخراط في النزاع، وتجعله جهاداً على طريقة “نفذه بنفسك”. وإلى جانب الأفكار المذكورة أعلاه، يتم دمج هذه الفكرة القوية للانتماء إلى المكون النهائي لشعار الدولة الإسلامية، الذي سيتم ذكره أدناه.
6. الطوباوية
السردية الأخيرة التي يستغلها مروجوا بروباغندا الدولة الإسلامية هي الطوباوية، التي تعتبر جدلاً بأنها الفكرة الأوسع والأهم. في الحقيقة، تعمل جميع السرديات المذكورة أعلاه بشكل متراكم على دعم الطوباوية. وبتعزيزها بمحتوى جديد عدة مرات في اليوم الواحد، تسري فكرة الخلافة الطوباوية بقوة عبر جميع رسائل التنظيم. ويقدم وجودها المستمر شعوراً بأن تأسيس الدولة الإسلامية وتطبيق الخلافة يعتبر من النقاط الفريدة للترغيب في الدولة الإسلامية. وتقوم بتذكير العالم باستمرار، وخصوصاً الجماعات الجهادية المنافسة والمجندين المحتملين، على أنه أمر حتمي. وكلما قدمت الدولة الإسلامية أدلة أكثر، كلما أصبحت أكثر مقاومة في وجه المصممين على أنها غير شرعية.
أدت الرغبة في تعزيز كيان دولتها إلى مظاهر عجيبة: من رحلات صيد السمك والكرافانات الدعوية إلى تنظيف الخراف وشق الطرق. وللوهلة الأولى قد يبدو هذا المحتوى مستحسنناً، لكن ظهوره ذو أهمية كبيرة. إنها طريقة التنظيم للمحافظة على مظاهره. وإلى جانب تسمية الوزارات والأقسام والمكاتب، تسعى الدولة الإسلامية دائماً لتقديم الأدلة على أنها لا تتحدث عن الخلافة فقط، ولكن تُشرعنها أيضاً: تعليم الأطفال تلاوة وحفظ القرآن، وتأسيس محاكم شرعية تطبق عقوبات الحدود وتجمع وتوزع الزكاة. فزاويتها على الإنترنت مشبعة بمثل هذه المواد، وجميعها محفزة بالحاجة لتعزيز سردية التنفيذ.
بالطبع، لأغلب هذا المحتوى أهداف متعددة. من خلال اعتبار الانتشار اليومي للصور التي تعرض عقوبة الحدود كمثال على ذلك، يتضح بأن كل جمهور مستهدف يتأثر بشكل مختلف. ورغم حقيقة مهاجمتها من جميع الجهات، تهدف إلى عرض قدرة الدولة الإسلامية على توفير الأمن والاستقرار بالنسبة للسكان المحليين، ويمكن أن تكون القسوة والصرامة التي يعاقب بها المجرمون فكرة جذابة ضمن سياق تفشي أمراء الحرب وانعدام القانون. وبالنسبة للمعارضين المحتملين، تخدم هذه الصور كإنذار مسبق. وبالنسبة للمؤيدين الأيديولوجيين والأعضاء الناشطين، تثبت هذه الصور الشرعية وتقدم الرضا على أبسط المستويات. أما بالنسبة للمجندين المحتملين، إنها ببساطة جزء من “الدليل” المستخدم لإقناعهم بأن الدولة الإسلامية تتمتع بالشرعية. وأخيراً، بالنسبة لغير الجهاديين – الأعداء المحتملين بمن فيهم الخصوم والجمهور الدولي – تندمج هذه العقوبات بسردية الوحشية المشار إليها أعلاه، وتبرهن على رفض الدولة للمعايير الدولية المعتادة وإصرارها القطعي على تنفيذ مشروع دولة الخلافة.
عندما أعلنت إعادة تأسيس الخلافة استولت الدولة الإسلامية على الخطاب الإسلامي المتطرف. وفرضت نفسها على جميع الجماعات الأخرى على أنها تجسد الطوباوية التي كانت كافة الجماعات الأخرى تسعى إلى تحقيقها. وعليه يحتاج مروجوا بروباغندا الدولة الإسلامية المحافظة على هذه الفكرة عائمة، والسعي إلى تضخيمها، واستغلال مسألة الذهاب للآخرة في الإسلام، وهو الأمر الهام جداً للخطاب الرسمي للتنظيم. ويتم التركيز بصورة روتينية على قرب الآخرة لزيادة الإحساس بالحاجة إلى الاستعجال. والفكرة أنه مع نهوض الدولة الإسلامية يقترب يوم القيامة أكثر؛ فقد تم تأسيس الخلافة، ومنذ آب 2014 بدأت المواجهة المباشرة مع الصليبيين. وهنا الرسالة بسيطة: انضم إلينا الآن أو واجه الخلود في الجحيم.
إن التلميح للآخرة ليس بإدخال جديد على البروباغندا الجهادية. ولكن زخم المحتوى الذي تبثه منصات الإعلام التابعة للدولة الإسلامية تعزز بأن هذه الفكرة جديدة. في كل خطاب رفيع المستوى صادر عن القيادة، يتم التشديد على اقتراب نهاية العالم، وفي كل مرة تصدر نسخة جديدة من مجلة “دابق”، تزخر صفحاتها بالإشارة إلى المعركة الفاضلة. ويضفي التركيز على الإيمان بالآخرة صفة الاستعجال على سردية الدولة الإسلامية وتحث الجهاديين الآخرين – الأفراد أو الجماعات – للانضمام إلى التنظيم.
في السنة التي تلت إعلان الخلافة، استجاب البعض لهذه الدعوة، وضموا أنفسهم “كمحافظات” جديدة إلى الخلافة، على الأقل من حيث الرسائل الفكرية. ويتم الاحتفال بهذا الانضمام في كل فرصة، وكلما يتم الإعلان عن بيعة جديدة (قسم الولاء) لأبي بكر البغدادي على شبكات التواصل الإجتماعي للدولة الإسلامية، يتم نشرها على أوسع نطاق كدليل على نجاح التنظيم وحصوله على الدعم السماوي. ثم تم نشر عدد لا يحصى من الفيديوهات المصورة في المحافظات تبين ردود فعل ابتهاج المدنيين في الأسابيع التالية. ويهدف هذا للحفاظ على الشعور بالإندفاع والاستمرارية. فبعد كل شيء، تصوير القوة المتنامية باستمرار لا يبرز أهمية رمزية فقط، وإنما يولد سلطة حقيقية.