الجزائر و"لعبة الرمال المتحركة"

31.01.2017

إذن، الجزائر أمّة بالتأكيد لديها من الأمجاد في التاريخ الحديث ما لا تملكه أية دولة على وجه الأرض، ومنسجمة مع مذهبها المالكي والإباضي.

نقول هذا لا لأننا عاطفيون أو نعاني من الأخطاء إن في التاريخ أو في الجغرافيا، بل بالعكس من ذلك، ولكن نقول ذلك لنذكر أصحاب العمى السياسي والديني من بقايا التخلّف المذهبي أو بقايا الاستعمار الحالمين بالعودة مرة أخرى إليه تحت يافطة دعاة " الربيع العربي" المشؤوم، لقد أدّعوا بهتاناً وزوراً بأنه ربيع الديمقراطية والذي وقعت في فهمه حتى الجامعة العربية المخطوفة.

نحن أمّة، إذن، علّمتنا الأحداث والتاريخ أن لا أحد يسقط في الفوضى إلا من كان يتيم التاريخ وصاحب رؤية لا تأخذ بالقراءات الجادة لسياقاته، ومن القربان الذي قدم على مذابحه نعم، الجزائر بمواقفها من دون تطبيل لأحد إلا من كان يؤمن بحقها في السيادة الوطنية. لأن تاريخها لا يقبل التجزيئية ولا يسوق بالمجان، لأنه تاريخ مطهّر بالدم والأرواح (مليون ونصف مليون شهيد 7 ملايين لتر من دم الشهداء) لكن، هناك من يحاول اللعب بالأوراق الساقطة من خاصرة التاريخ باسم القوافل الإرهابية التي تُهّيأ في مطابخ الغرف السوداء بإسم الإسلام والإسلام منها براء لخلخلة الواقع الجزائري.

لقد نبّهت الجزائر مند عقدين بأن الإرهاب ظاهرة عمياء لا تؤمن لا بالقِيَم الإسلامية التي تدّعيها ولا بالقِيَم الإنسانية التي تدّعي الانتماء إليها فضلاً عن عدم الاعتراف لديها بالرأي الآخر، لأن قانونهما ما قاله محمّد بن عبد الوهاب وابن تيمية ومرجعيتهما غير متوافقة مع العصر بل الأولى متناقضة أصلاً حتى مع مبدأ التسامح وعدم التكفير لأيّ مسلم  أياً كان مذهبه.

إن الذين استنسخوا الظاهرة من طالبان والوهّابية التكفيرية هم في حاجة إلى قراءة الأحداث من جديد وقراءة تاريخ الجزائر بالخصوص بإمعان، ويكفي أن أعيد هنا ما قاله الملك فيصل رحمه الله للوفد الجزائر الذي زاره في النصف الثاني من الخمسينات حيث قال له من أين جئتم؟  فقالوا له من بلاد جرجرة(القبائل) فقال لهم بالحرف الواحد "منكم نتعلم الإسلام " وكان الوفد بقيادة السيّد الغسيري وهو من الأوراس. وقد عيّن بعد استرجاع السيادة الوطنية سفيراً للجزائر في السعودية.

نعم نحن منذ فجر الإسلام ننتمي إليه انتماء عقائدياً وبه حاربنا الغزاة وبه انتصرنا ولسنا في حاجة لأي كان ومن أي مكان أن يعلّمنا الإسلام، فالتاريخ شاهد لنا والجغرافيا التي ننتمي إليها هي جغرافية الشهداء من أمتنا.

حين يقول "برنار كازنوف" وزير الداخلية الفرنسي في زيارته الأخيرة إلى الجزائر"بأن الأجهزة الأمنية الفرنسية يجب أن تتعلّم من الأجهزة الأمنية الجزائرية". فإن ذلك يعني ببساطة أن الجزائر تملك المصداقية، ولديها جهاز محترم ومحترف، وأن الجزائر بالتالي بعيدة كل البعد عن الهاويات التي تحفر لها في الغرف المظلمة بواسطة هذا الجهاز. وأن معلوماتها الاستخبارية هي الأفضل والأصح، وحين تؤكّد برقية ل "سي آي ايه" مرسلة من ليبيا تحت عنوان سرّي في 16 شباط/ فبرايرعام 2013 "إلى هيلاري من سي.أي.دي". حذّر الرئيس بوتفليقة قادة المخابرات الخارجية الجزائرية بأن تسلم المعلومات بحرص لقناعته بأن المجلس الوطني العام الجديد الحاكم في لبيبا لن يبقى خلال عام 2013 وهو ما وقع فعلاً، وقد نقلت نفس البرقية  ''سي أي ايه'' عن مصدر أن إسلاميين سنّة أثرياء من السعودية قاموا بتمويل الهجومين على مكب الغاز بعين أمناس.

وهذا يعني بأبسط الإدراك أن المخابرات الجزائرية كانت تسبق الأحداث وتضعها ضمن سياقها الصحيح حفاظاً على الأمن القومي الوطني والإقليمي، وأن الرئيس بوتفليقة شخصية متميزة بإحساس خاص وباستشراف قوي للأحداث. إنها أيضاً تعمل في صمت على تفكيك كل منصّات الخطر المُعدّ للجزائر قبل حدوثه. مثل ما حدث مؤخراً في ما عرف بخلية التجسس التابعة للموساد في ولاية غرداية، وغرداية يسكنها عرب سنّة وإباضيون (اتباع المذهب الإباضي) والكل قاعدة إسلامية واحدة وفي عيش مشترك منذ 15 قرناً، ولذلك تحاول الوهّابية وعبر قنواتها الفضائية "الدينية" إثارة الفتنة فيها ببعض أدواتها التخريبية.

لقد تبيّن لمصالح الأمن أن للخلية امتداداً خارجياً وبعرقيات متعدّدة، والكشف عنها في الواقع ليس جديداً بل كانت مراقبة من سنة تقريباً قصد الوصول إلى الفاعل الأصلي والمحرّك الرئيسي لها، لأن المخابرات الجزائرية قاعدتها العمل في صمت، حتى وإن تحكّمت في الوضع، وكانت المجموعة تسعى إلى إثارة البلبلة في الجزائر بدءاً من ولاية غرداية بعد أن استتب الوضع بها وبعد أن سعى أثرياء سعوديون إلى إثارة الفتنة فيها.

أكيد، في منطق السياسة، أن تكون ضمن ثوابت ما تؤمن به الأمّة التي تنتمي إليها، والذين يملكون هذا الإحساس بالمنظور السياسي يملكون الواقع بالمنظور المحسوس والملموس معاً، ثقافة الذات هي ثقافة متنامية يغذّيها الواقع والإحساس به، وليس مجرّد وعاء لمواقف قد تتجافى فيها حتى الأوهام فضلاً عن الحقيقة. ثمة من ينظّر للأوهام بادّعاء خاطئ ربما لامس شعوره لحظة ما من أن الجزائر متاحة للعب بالنار فيها، ولكن مقابل ذلك ثمة من يخزن في ذاكرته الحروف التي لا تصلح إلا لوقتها، أي الظروف الحرجة، فينقذ بها مستقبل أمّة بكاملها وهذا هو منطق أجهزة المخابرات الوطنية.

شيء جميل أن يحترق الفرد ويغامر بكل ما لديه من أجل فك رموز أجهزة معادية تريد القصاص من الجزائر لأننا أحرزنا التقدم فيها، أو لأن لها فيها مواقف تناقض مواقفها ونكون بالتالي من وجهة نظر الواقع قد ألغينا من ذاكرتنا مسافة المسافات السلبية، إن من ماضينا أو حاضرنا وإن بقيت الصورة السوداء لحقبة الاستعمار راسخة فيه، صورة بالتأكيد دائمة الحضور، لقد أصبحنا قرب الأظافر الأخرى لأعدائنا، هكذا تقول أبجديات المخابرات الوطنية. لقد تجاوزنا ما هم عليه من تخطيط لتحويلنا إلى مصاف التخلّف والانتحار، في "دول الربيع" المشؤوم، بل أسقطنا عليهم ما كانوا يحلمون به حتى صاروا هم أقل قدرة على النفاذ إلى ما نحن عليه اليوم من أمن وأمان، ومن وراء كل ذلك بالتأكيد كل الأجهزة الأمنية، والجيش الوطني الشعبي - سليل جيش التحرير والمقاومة - والمخابرات، ألم تعجز جل المخابرات الأجنبية عن فهم ما قامت به أجهزة المخابرات الوطنية من رصد وتفكيك للشفرات السرّية ونحوها في قضية "عين  أميناس" ومركب الغاز فيها والتي لو تمت الخطة بخلفياتهم الإجرامية  لكانت الجزائر اليوم في العدم اقتصادياً واجتماعياً إنساً منسياً.
جاء في نفس البرقية السرّية المذكورة أعلاه وبرأي هؤلاء القادة - قادة المخابرات الجزائرية - فإن حركة مختار بلمختار هي عضو رئيسي في هذه المجموعة ووجّهت لشن الهجوم على المجمع الصناعي الغربي بمناسبة العمليات العسكرية الفرنسية في مالي. ويعتقد المسؤولون الجزائريون أيضاً أن أنصار الشريعة في ليبيا يمارسون دور التغطية للمنظمة. قد سمح الهجوم على عين اميناس لحركة مختار بلمختار بإخراج الحكومة الجزائرية من الساحة "الليبية" وأشار المسؤولون أيضاً إلى أنه بينما كان أعضاء حركة مختار بلمختار يعدون الخطط للهجوم انضمت إليهم قوى مغاوير من المقاتلين المحنّكين من مالي وليبيا والمملكة العربية السعودية والصومال ومصر. فالذين كانوا من خلف المغامرة وأهدافها من الدول وهم كثر، كانوا متأكدين أن الانفجار حادث ولذلك لما فشلت صمت الكل حتى على أولئك الذين قتلوا من الأجانب!! بالطبع  كانوا يخطّطون للدخول في اللعبة الدموية باسم مواطنيهم العاملين في تلك القاعدة الصناعية  تحت غطاء إجلائهم..؟ 

لكن جاءت المفاجآت من حيث لا يدرون، إذ أن كل شيء انتهى في لحظات من الزمن، بقتل المجوعة الإرهابية بكاملها، وأن الجزائر بالتالي عدّت في نظرهم - ربما أفصحوا عنه لتبرير خطئهم - قوية بمخابراتها.. ألم يكن " ساركوزي" يؤكّد على أن الجزائر هي عصب "الربيع العربي " المشؤوم  قي شمال إفريقيا، لأنها قلب الشمال الإفريقي بل بوابة إفريقيا كما يقول "نابوليون" والأقوى اقتصادياً  وعسكرياً، وعليها أن تسقط، و كان على شبه يقين بذلك، لكنه صدم لما رأى أن الجزائر بمخابراتها علمت سرّ الحملة عليها وهي في مهدها ورصدت لها قوانينها، بل إن "جورج بوش الإبن" قال ذات مرة  في همس "لشيراك" إن بوتفليقة إن لم يكن رجل التاريخ فهو رجل المهمات الصعبة وحاول أن ينبهه منه وقد قال شيراك هذا في زلّة لسان منه، في لقاء ضيّق بسويسرا.

كان ذلك بداية الفهم لما يمكن أن يوضح مسار الجزائر وطبيعة قوتها المستمدة من قوة مخابراتها ومن شعبها وجيشها وتاريخها ودينها.. وهذا كله لم يأت من الفراغ أو بناء على صدى الصوت الآتي من خلف الأبواب.. نقول ذلك لأن ما قرأناه، لما سرّبته بعض أجهزة المخابرات أو نطقت به الألسن من الغربيين وغيرهم أوصلنا إلى هذا الاعتقاد، ثم إن توصيف التاريخ في هذا المجال ليس ببعيد عن ذلك الجزء الخفّي من الوقائع والأسرار.. تقارير عدّة تحدثت عن تورّط الوهّابية بدُعاتها التكفيريين في الفوضى التي مرّت بها الجزائر في (العشرية السوداء) وأموال دُفعت وفتاوى تم تفقيسها بعيداً عن الدين ومن صلب البلاط الوهّابي!! وكانت كل الدول بما فيها بعض الأعراب ينتظرون قسمتهم من الجزائر بعد تفتيتها!! وبعد أن تسقط بلا عودة حسب اعتقادهم، وكانت فرنسا بمخابراتها تلعب على وتر الجهوية وهي لا تعلم أن ابن باديس رائد النهضة الإصلاحية من قبيلة صنهاجة الأمازيغية وأهلها متدينون حدّ العظم وحدّ الشهادة.