البحار والمحيطات من الاسناد والإمداد إلى المواجهة الجيوسياسية

18.03.2017

غالباً ماكانت الصراعات التقليدية بين القوى الكبرى تهدف إلى السيطرة البرية وإيجاد مرتكزات على اليابسة تؤمن استمرار السيطرة والنفوذ والوصول إلى أماكن أبعد وأوسع كدافع رئيس في صراع النفوذ بين القوى الكبرى.

ولكن ومع اختلاف أدوات السيطرة وتطور وسائل التكنلوجيا والتي كانت للصناعات العسكرية النصيب الأكبر منها اختلفت معها الأهمية الاستراتيجية للمواقع البرية بوصفها أهمية جيواستراتيجية وأصبحت تتركز هذه الأهمية بالدول الشاطئية والتي تعتبر مرتكزاً بحرياً فأخذ الصراع الجيوبولتيكي الدولي يأخذ بعداً بحرياً كون النفوذ المائي أصبح أكثر ضماناً لسير البضائع وربط أرجاء المعمورة من النفوذ البري والخضوع لاتفاقيات جامعة وقوانين خاصة.

إضافة إلى أن النفوذ البحري أصبح يشكل مع تطور البوارج الحربية وسيلة هجومية دفاعية نوعية، ترتبط بالأمن القومي للدول الكبرى وتمكنها من ضمان نفوذها في مناطق تواجدها، بحيث أصبحت الطريق الرئيس الذي يجب أن تسلكه الدولة الكبرى لتستمر كقوة كبرى أو تتحول لدولة عظمى هي تأمين نفوذها البحري والدفاع عنه اقتداءً بنظرية العالم الجيوبولتيكي الأمريكي (ألفرد ماهان) الذي كان مفهومه عن "قوة البحر" مبنيًا على فكرة أن الدول صاحبة القوة البحرية الأعظم سيكون لها التأثير الأكبر في جميع أنحاء العالم، وحقيقة الأمر أن هذا المفهوم كان محركاً لكبرى الصراعات الحديثة في العالم حيث سعت كل من روسيا والصين إلى مد نفوذها البحري بعد أن فطنت لأهمية هذا النفوذ ضد النفوذ البحري الامريكي فقامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 بعد أن قامت الاستخبارات الأمريكية بقلب نظام الحكم في أوكرانيا بهدف السيطرة على ميناء سيفاستوبول البحري المؤجر للقوات البحرية الروسية.

ثم ليأتي بعدها التدخل الروسي في مكافحة الإرهاب في سورية بطلب من الحكومة السورية والذي أخذ شكلاً جوياً وبحرياً أدى فيما بعد إلى مصادقة مجلس الدوما الروسي على استئجار قاعدة طرطوس البحرية وتوسيعها وتثبيت التواجد الروسي في شرق المتوسط بالتزامن مع تغيير الصين عقيدتها العسكرية وزيادة الانفاق العسكري وسعيها لزيادة عديد قوات مشاة البحرية لديها بمقدار 4 أضعاف لحماية خطوطها وطموحاتها البحرية وإنشائها لجزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي ومحاولة بسط كامل النفوذ الصيني على منطقة الجزر المتنازع عليها مع دول الجوار والتي تمر عبرها ثلث حركة المرور البحري في العالم وإحياء مشروع الصين "حزام واحد، طريق واحد" والذي يرتكز على طريق الحرير البحري "القديم-الحديث"حيث أعلنت الصين عن بناء قاعدة بحرية عسكرية عملاقة بالقرب من القاعدة الأمريكية في جيبوتي والتي تعد أكبر قاعدة بحرية أمريكية في أفريقيا وأن وحدات بحرية صينية ستتمركز مستقبلا في الموانئ الصينية على شواطيء جيبوتي في القرن الأفريقي، إضافة إلى ميناء غوادر التي بنته الصين في جنوب غرب باكستان والقريب من مضيق هرمزالذي يعتبر ممرا رئيسيا لنقل النفط من الخليج، وترسو به قطع بحرية عسكرية صينية بين الحينة والأخرى، مما يعني بسط نفوذ نسبي بحري صيني روسي مشترك يمتد من البلطيق والمتوسط وصولاً إلى الهادي من (الغرب إلى الشرق) والذي سيؤدي إلى ظهور كتلة صينية أوراسية تحصر الهيمنة الأطلسية المطلقة على المحيط الأطلسي فقط، وتحمي اقتصاد كل من البلدين من أي نكسة مستقبلية قد تنهي الطموح بعالم متعدد الأقطاب، مما يجعل كل من بحر الصين الجنوبي والبحر المتوسط ساحتي صراع بين الدول الكبرى الثلاث (الصين-روسيا-الولايات المتحدة الأمريكية) وقد تؤسس لمواجهة محتملة في أي ظرف خاطئ وهو ما نلحظه جلياً في الدوريات التي تقوم بها القوات البحرية الأمريكية في بحر الصين الجنوبي حول الجزر التنازع عليها والتي تنتشر حولها القوات البحرية الصينية والتوتر الكبير بعد كل مرور أمريكي إضافة إلى المبادرة الأمريكية لإعادة إطلاق مناورات"مالابار" في المحيط الهندي بمشاركة كل من(الهند، اليابان، استراليا، سينغافورة) ومناورات "النجم الساطع" البحرية في المتوسط التي تقام في مصر بمشاركة كل من (الولايات المتحدة الأمريكية، مصر، تركيا، اليابان، باكستان، الكويت، هولند، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، أيطاليا، اليونان) وهي أكبر المناورات متعددة الجنسيات في العالم.

هذا يرشح المسطحات المائية لتكون أرضية المواجهة التقليدية بين الدول الكبرى وهو من أخطر السيناريوهات حيث يسود الاعتقاد اليوم أن المواجهة التقليدية الفتاكة قد ولت وضعفت احتمالاتها وأصبحت محاطة بضوابط كثيرة وحذر شديد وحلت محلها الحروب بالوكالة ولكن واقع الصراع على النفوذ البحري يفرض المواجهة المباشرة نظراً لما تتطلبه من إمكانات لاتمتلكها دول عادية ومتوسطة القوة بالتالي لن يكون هناك مواجهات بحرية بالوكالة ولا يسمح للمساحات المائية بأن تكون منطقة فوضى تحت أي ظرف كان وهو مايؤكد عليه العمليات الدولية المشتركة في مكافحة القرصنة وعدم محاولة أي طرف لاستغلالها ضد أطراف أخرى كما هي الحال مع المنظمات الإرهابية على الأرض، وذلك بسبب أهميتها بالنسبة لجميع الدول والصعوبة البالغة في الاستغناء عنها أو استبدالها على مختلف الصعد العسكرية والاقتصادية وغيرها مما يؤكد على أن أحد المسطحات المائية المذكورة ستكون ساحة النار المقبلة والتي من الممكن أن تلتهب وتطال الأقاليم البرية للدول المتواجهة حيث البحر فتيل المواجهة العالمية المقبلة إن حدثت وليس البر.