كيف يستفيد الأسد وحلفاؤه من الانقلاب التركي؟
يسود اعتقاد عند بعض حلفاء القيادة السورية، بأن المحاولة الانقلابية «الغريبة» والفاشلة في تركيا، قد تُكمل ما كان قد حصل قبلها من تقارب روسي - تركي، وتزيد التنافر بين أنقرة وواشنطن التي بدأت تُوجَّه اتهامات تركية إليها. يذهب هؤلاء الى حد التفكير باحتمال إفادة سوريا وحلفائها مما حصل. فالأجواء في موسكو كانت حتى عشية الانقلاب، تؤكد أن ثمة تغييرات تركية منتظرة حيال الحرب السورية وبشأن مستقبل الدور التركي في «الناتو» نفسه، الأمر الذي أقلق واشنطن فعلياً، وهي المرتابة أصلاً من دور رجب طيب اردوغان حيال محاربة الإرهاب.
ماذا في أجواء الانقلاب؟
قد لا يكون من قبيل الصدفة اختيار الانقلابيين لحظة زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الى موسكو لتنفيذ الانقلاب. لو نجح الانقلابيون لكانت موسكو وواشنطن ستغيّران حتماً مسار التفاهمات حيال سوريا، لأن القيادة العسكرية التي ستتولى الأمر في تركيا كانت ستُعبِّر حتماً عن موقف جديد في السياسة الخارجية.
إن التقارب بين اردوغان وروسيا، والذي سبق المحاولة الانقلابية بأيام قليلة، جاء في ذروة التوتر التركي مع واشنطن. فبعد فترة على وصف الرئيس الأميركي نظيره التركي في حديثه إلى مجلة «اتلانتيك» بأنه: «فاشل واستبدادي»، وجّه أردوغان اتهامات قاسية الى الإدارة الاميركية قائلاً: «لأن أميركا لم تضع حداً لحزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب الكردي، فإن المنطقة تعيش حمام دم». هو دعا واشنطن للاختيار بينه وبين هؤلاء، والخارجية التركية استدعت السفير الأميركي في أنقرة احتجاجاً على رفض واشنطن اعتبار حزب الاتحاد إرهابياً. زاد في الطين بلة، زيارة وفد أميركي رفيع مطلع العام الحالي منطقة عين العرب برئاسة بريت ماكورغ المبعوث الخاص للرئيس الاميركي الى سوريا والعراق مع قائد عمليات التحالف الدولي في المنطقة لدعم الكرد. وصل الأمر بالرئيس التركي الى التهديد بإقفال قاعدة «انجرليك» بعد تفجيرات أنقرة، وقطع الكهرباء عنها.
مع عودة روسيا للانخراط عسكرياً في معركة الشمال السوري، وتقاطر المعلومات عن قرار استعادة حلب، وجد أردوغان نفسه، أمام حليف أميركي متردّد الى أقصى حد في نهاية ولايته، وعدو روسي لن يتردّد في المواجهة معه إذا ما كرّر إسقاط طائرة روسية او حاول إعاقة العمليات. أضف الى ذلك تعدّد التفجيرات واهتزاز الوضع الداخلي التركي، وتفاقم الاشتباكات مع الكرد، وارتفاع أصوات المعارضة الرافضة للنظام الرئاسي والتضييق على الحريات، ثم القضية الأخطر والمتعلقة باحتمال قيام كيان كردي مستقل في الشمال السوري.
في تلك اللحظة، اختار اردوغان التنازل، فطأطأ الرأس وذهب الى موسكو يقدم اعتذاراً عن اسقاط الطائرة الروسية. كان الأمل يحدوه بأن يشكل الأمر عنصر ضغط على أميركا و«الأطلسي» من جهة، وأن تبادله موسكو هذه الانعطافة بوقف زحف الكرد من جهة ثانية.
إن هذا التقارب التركي ـ الروسي، هو الذي يطرح أكثر من سؤال حول توقيت الانقلاب.
فهل أعطي ضوء أخضر أميركي أو إيحاء معين لجماعة فتح الله غولن للانقلاب على أردوغان؟ أم أن أردوغان يستغله لتبرير الانعطافة صوب موسكو وربما لاحقاً حيال سوريا؟
ماذا في المعلومات؟
إن تصريح رئيس الوزراء التركي الجديد بن علي يلديريم عن احتمال التقارب مع سوريا (والذي أتبعه بتصحيح يفيد بأن ذلك ممكن بعد بشار الأسد)، جاء في أجواء التقارب مع روسيا. أعقب ذلك تعيين سفير تركي جديد في موسكو. تؤكد المصادر الروسية أن المناخ كان أكثر من إيجابي حيال سوريا. لعل أردوغان كان مضطراً للقبول بعودة حلب إلى الدولة السورية مقابل حصوله على ضمانة بالنسبة للكرد.
بعد اجتماع وزراء دفاع سوريا وروسيا وايران في حزيران الماضي في طهران، من المنتظر وفق مصادر روسية عقد اجتماع آخر للوزراء الثلاثة قريباً، وربما في دمشق. السبب هو «ان الروس شعروا مرة جديدة بخديعة واشنطن، ذلك أن فترة الهدنة التي أزعجت دمشق وطهران شهدت دخول كميات كبيرة من المقاتلين والأسلحة والعتاد عبر تركيا، وربما تخطّى عدد الذين دخلوا ٦ آلاف رجل، لذلك قرّرت روسيا الانخراط مجدداً في الحرب شمالاً»، ترافق ذلك مع ترحيب ضمني روسي بانضمام سوريا الى منظمة شنغهاي تماماً كما هي حال إيران.
الأسد: الروس أكثر استعجالاً
كانت الاستعدادات الروسية بشأن حلب أكبر مما قيل في الإعلام. تمّ إرسال كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة والعتاد والجنود. حين سأل أحد زوار دمشق الرئيس الأسد عن سبب تلكؤ روسيا، ابتسم وقال: «هم مستعجلون أكثر مني للانتهاء من حلب، لا بل إنهم يريدون أن نشن معارك على ٤ جبهات كبيرة مرة واحدة، لكننا لا نريد تشتيت الجيش والقوات الرديفة أو الحليفة». ما كانت روسيا لتقدم على هذه الحرب الكبيرة في حلب دون تحييد الجانب التركي إلى حد كبير، برغم الثقة الهشّة بين الجانبين نظراً لتلاعب أردوغان السابق في الملف السوري.
صحيح أن زائر موسكو هذه الأيام يلمس حماسة كبيرة لدى المؤسسة العسكرية لتسريع الحسم العسكري في سوريا، لكن الصحيح أيضاً أن الخارجية الروسية لا تزال تنحو صوب التسويات مع ما بقي من عهد أوباما. لا يرتبط ذلك بالوضع السوري فقط وإنما بالملفات الأخرى المتعلقة بأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا والتطورات الأطلسية ـ الروسية. لكن هذا الميل نحو الحل السياسي، يفترض أمرين وفق موسكو لا تراجع مطلقاً عنهما: أولهما، قبول اميركا بوضع «النصرة» وبعض التنظيمات الأخرى على لائحة الاستهداف التي تضمّ «داعش» والمشاركة بضرب هؤلاء، وثانيهما، ترك مسألة الرئيس الأسد لتفاهم سوري سوري دون تدخل خارجي. يبدو أن الزيارة الأخيرة لجون كيري إلى موسكو حققت تقدماً كبيراً في المسألتين.
لافروف والتذكير بالخطوط الحمراء
يلعب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دوراً كبيراً في كبح جماح المؤسسة العسكرية للحصول على تنازلات في ما بقي من عهد أوباما. لكن قرار استعادة المدن السورية الكبرى لا عودة عنه. يروي ديبلوماسي عربي في باريس مثلاً، إن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الروسي الكسي بوشكوف كان متردداً قليلاً حيال مآلات الوضع في سوريا، فتمّ توجيه دعوة إليه لزيارة الرئيس الأسد، وحين عاد صار يقول إن الأسد ممسك جيداً بالوضع وإنه «باقٍ في منصبه أكثر من أوباما نفسه الذي سيرحل مطلع ٢٠١٧». آنذاك التقى لافروف بالسفراء العرب في موسكو، فبادر السفير السعودي الى شجب لقاء بوشكوف ـ الأسد، وما إن حاول السفير السوري الردّ، حتى سبقه الى ذلك لافروف نفسه مذكراً بالخطوط الحمراء وبدور الأسد والجيش السوري في محاربة الإرهاب، قائلاً إن الأسد رئيس منتخَبٌ شرعياً وسيبقى كذلك. لم يعلّق السفير السعودي على كلام لافروف.
ضوء أخضر أميركي أو إيحاء ما
قد يطول الوقت قبل معرفة حجم الأسباب الداخلية والخارجية في محاولة الانقلاب الغريبة والفاشلة ضد أردوغان (غريبة لأسباب عدة في مقدمها أنه لا يعقل القيام بانقلاب دون القبض المسبق على المستهدَف بالانقلاب). لكن الأكيد أن هذه المحاولة التي قام بها ضباط أتراك (أي ضباط أطلسيون) ما كانت لتحصل لولا ضوء أخضر أميركي أو إيحاء به في مكان ما. في المقابل، فإن تشديد روسيا على العلاقة مع الحكومة الشرعية، ومسارعة إيران للتأكيد على العلاقة مع قيادة اردوغان، ووقوف المعارضة التركية الداخلية (الرافضة للحرب على سوريا) والكرد ضد الانقلاب، كلها أمور ينبغي أن تدفع الرئيس التركي الى الاستمرار في ما بدأه مع الروس من تقارب وتغيير في الموقف حيال سوريا، إلا إذا قبلت أميركا تسليمه فتح الله غولن ووافقت على كل مطالبه حيال سوريا والكرد، وهذا أمر يبدو شديد الصعوبة.
يبقى العائق الوحيد أمام تغيُّر أردوغان هو أردوغان نفسه، فالرجل ذو الطموحات الإمبراطورية الكبيرة والاعتداد بالنفس والدور الى حد المغالاة، قد يعتقد أنه خرج من المحاولة الانقلابية أقوى، ويستعيد سياسة قلب الطاولة بوجه الجميع، فكل ضابط سيعترض على سياسته من اليوم فصاعداً مرشح للاتهام بالتورط في الانقلاب. لكن الأكيد أن روسيا وحلفاءها باتوا اليوم أقرب إلى تركيا من واشنطن المتَّهمة حتى تثبت العكس.
جريدة "السفير"