هنتنغتون وفوكوياما والفكر الأوراسي
يعتبر النمط المعادي لأميركا في التركيبة الروسية استمرارية للمذهب الفكري عند السلافيين ولا يمكن من خلال النظر للهوية الروسية من دون التخلص من البصمة الغربية أي التحرر من الطريقة الأوربية (وخاصة أوربا الغربية) في النظرة إلى الذات، وهذا ما أصبح معيار بعد بطرس الأكبر. لكن أوروبا اليوم لم تعد أوروبا في العصر السلافي ولا أوروبا في العصر الأوراسي الأول. أوروبا تختلف الآن عن الغرب بمعنى تختلف عن الغرب ذي التأثير الأمريكي. روسيا أصبحت اليوم متحررة وعلى جميع المستويات من النفوذ الغربي والأميركي. الحركة نحو الغرب (Westernism) ليست مجرد موقف فكري إنما هي في نفس الوقت مرض معد وخيانة وطنية. ولهذا السبب يجب علينا أن نكافحها بلا هوادة. وفي سياق الصراع ضد الغرب يؤكد الروس أنفسهم كشعب روسي ينتمي إلى الثقافة الروسية وإلى التاريخ الروسي وإلى القيم الروسية.
ومن جانبه وصف صموئيل هنتنغتون بطريقة واقعية العقبات التي تواجه أنصار العالم أحادي القطب والمتعصبين لنهاية التاريخ. عندما اختفى الاتحاد السوفياتي العدو الرسمي الأخير للولايات المتحدة تصور البعض أن الغرب وصل إلى نتيجة التطور الديمقراطي الليبرالي وأنه على وشك الوصول إلى "الجنة الأرضية" في هذا المجتمع التقني التجاري الحالي. لقد كانت هذه فكرة فرانسيس فوكوياما عندما كتب كتابه المشهور حول نهاية التاريخ كان عند هنتنغتون الوقائع الموضوعية لإظهار كل ما يتعارض مع التفاؤل المعلن في وسائل الاتصال حول العولمة، ومن خلال تحليل هذه الظاهرة وصل إلى استنتاج أنه يمكن إدراج كل ذلك تحت مفهوم واحد هو مفهوم الحضارات وأن هذه الكلمة هي الكلمة المفتاحية.
ولكن هذه الكلمة تعني أيضا ظهور مفهوم ما قبل العصر الحديث في شكله العصري الحديث. الحضارة الإسلامية، على سبيل المثال، وجدت قبل الحداثة. ولكن في العصر الحديث فإن الاستعمار قام بتشريع استخدام هذا المصطلح والاعتراف بالمسلم وتمييز المسلمين "كمجموعة عرقية"، وبعد انتهاء الحقبة الاستعمارية ظهرت الدول القومية التي يوجد فيها "سكان مسلمون"، ولكننا نجد فقط أن الثورة الإسلامية (ذلك النموذج التقليدي للثورة المحافظة) هو النموذج الوحيد الذي تم إنشاؤه كدولة إسلامية يعتبر الإسلام فيها مصدراً للسلطات والتشريع. للتنظير حول الانتقال من الدولة إلى الحضارة، وضع هنتنغتون مفهوما سياسيا وعلميا جديدا يعتمد على هذا المفهوم ويؤسس لبعد جديد في السياسة الدولية التي ولدت بعد زوال الاتحاد السوفياتي. وبعد ذلك، اكتشفت الأوساط الأطلسية أنها سوف تواجه عدواً جديدا، على عكس الاتحاد السوفياتي، لا يقوم على أيديولوجية رسمية بشكل صريح، ولكنه مع ذلك بدأ يسعى لتقويض نظام العالم الجديد ذي المركزية الأمريكية. العدو اليوم هو الحضارات وليس مجرد بلدان ودول إنها نقطة تحول.
من بين جميع هذه الحضارات فإن الحضارة الغربية فقط هي التي تقدم نفسها على أنها حضارة عالمية وبالتالي لتكون بهذه الطريقة "الحضارة" الوحيدة. أما من الناحية الرسمية، والآن لا أحد يكرر ذلك، فإن الغالبية العظمى من الرجال والنساء الذين يعيشون خارج الفضاء الأوروبي أو الأمريكي يرفضون هذه الهيمنة من الحضارات الأخرى والاستمرار في التجذر في أشكال تاريخية وثقافية مختلفة. وهذا ما يفسر الظهور الجديد للحضارات. استنتج هنتنغتون أن سيادة الحضارة الغربية على العالم ستواجه تحديات جديدة. ونصح بضرورة تواجد الوعي ضد هذا الخطر.
كان فوكوياما من مفكري العولمة المتفائلين، بينما هنتنغتون كان متشائما، حيث قام بتحليل المخاطر وقياس الأخطار، فقد كان هنتنغتون محقا عندما قال إن الحضارات سوف تعود الى الظهور، لكنه لم يكن صائبا عندما أبدى قلقه حيال هذا، بل على العكس، يجب أن نفرح حول إمكانية عودة الحضارات. وعلينا أن نشيد بها وندعمها، وتفعيل هذه العملية وليس مراقبة ذلك بسلبية..
الصراع بين الحضارات أمر حتمي تقريبا، ولكن يجب أن تتركز مهمتنا في إعادة توجيه خصومتنا، والتي لن تتوقف عن النمو، ضد الولايات المتحدة والحضارة الغربية، بدلا من توجيهها ضد الحضارات المجاورة لنا. يجب علينا أن ننظيم جبهة مشتركة من الحضارات ضد هذه الحضارة الغربية والتي تتظاهر بأنها حضارة استثنائية. هذا العدو المشترك والجامح للامتلاك هو العولمة والولايات المتحدة، ومعظم شعوب الأرض مقتنعة بأنه يجب الحد من الصراعات بين الحضارات، واذا كان لابد من هذا الصراع ، فإنه يجب أن يكون بين الحضارة الغربية وبقية الحضارات في العالم والاتجاه الأوراسي هو الصيغة السياسية التي تناسب هذه الحضارات.
وهناك نقطة أخرى، فمن الواضح، أننا لا نستطيع تتبع هنتنغتون عندما دعا إلى تعزيز العلاقات عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة. وللأسف فقد استجاب الجيل الجديد من القادة الاوروبيين بالفعل بشكل إيجابي لهذه الدعوة. قدر أوروبا ليس على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. ويتعين عليها أن تحدد بوضوح نفسها باعتبارها حضارة متميزة وحرة ومستقل. يجب أن تكون أوروبا الحقيقية، وليس أوربا الأميركية والأطلسية. يجب عليها بناء نفسها على أنها إمبراطورية ديمقراطية عصرية، من خلال استصلاح جذورها الثقافية ومقدساتها، باعتبارها مستقبلها مرتبط بقيمها في الماضي. أوروبا التي لا تنتفض أيضا في وجه الولايات المتحدة فهي في نفس الوقت تخون جذورها وقيمها وسوف تدين نفسها في المستقبل. أوروبا لا تنتمي إلى الفضاء الأوراسي، ولكنها بالتأكيد، يمكن وينبغي حتى أن تكون أوراسية إلى الحد الذي تلتزم فيه بفكرة "الفكرة العالمية هي أنه لا يوجد حضارة عالمية استثنائية"، وهذا لا يعني أن تندمج في الفضاء الجغرافي في أوراسيا. الروس يرغبون ببساطة أن تكون أوروبا هي نفسها أوربا، وليست مرتبطة بأية حضارة أخرى، الأوراسية لا تفرض هويتها على الآخرين، بل تساعد باقي الحضارات لأن تثبت نفسها وهويتها، وتطور نفسها عضويا وتزدهر، قال الفيلسوف الروسي قسطنطين ليونتيف "نحن يجب دائما أن ندافع عن فكرة تعددية الحضارات، وهذا هو الشعار المفضل للأوراسية.