هل ستفتح أوروبا مخرج نجاة لبريطانيا؟

07.07.2016

تقف بريطانيا الآن أمام الضوء البرتقالي، لتفصلها خطوة واحدة فقط عن الانتقال لمنطقة حمراء تعني حتمية مغادرتها الاتحاد الأوروبي. تلك المساحة الضيقة الفاصلة تستخدم الآن لمساومات الفرصة النهائية. لكن لأنها كذلك، كما كلّ لعبة، يصرخ الخصوم كثيراً، يرفعون عيار الضغط النفسي إلى الأقصى، لكنهم يبقون أوراقهم ملتصقة بصدورهم. البعض يوحي بفتح ثغرة، آخرون يغلقون الأفق تماماً، لتبقى المفاوضات السرية أحد الممكنات التي تقلل خسائر التراجع العلني.

أحد اللاعبين الذين سرقوا الأضواء هو رئيس المفوضية الاوروبية جان كلود يونكر. لم يهنأ بمنصبه خلال عامين صاخبين مرّا من دون أن تكفّ الانتقادات عن محاولة النيل منه. قبل أيام، انتشرت الأقاويل السياسية في الإعلام الاوروبي، الألماني تحديداً، أن الحصان العجوز سيكون الضحية القادمة للاستفتاء البريطاني. يُلام يونكر لأنه من أنصار زيادة الوحدة الأوروبية، معانداً المزاج الشعبي الذي أدى لتصاعد أحزاب شعبوية تعادي المشروع الأوروبي.

حينما خرج من «القمة الأخيرة» للزعماء الأوروبيين مع نظيرهم البريطاني، وقف يجيب على أسئلة بعض الصحافيين. الأخبار منتشرة عن تراجع صحته، مع صيت ذائع بالنسبة للتدخين وعدم التخلي عن النبيذ. كانت كلماته جافة، واضحة، بعكس الوهن الذي ظهر على جسده المتعرّق. سألته «السفير»، وسط المعمعة هل سيكون «الأوروبي الحقيقي الأخير»؟ لم يحتج وقتاً للتفكير: «أنا لست الأوروبي الأخير، فهذا سيكون غير صائب. بعيداً عني، هناك أوروبيون آخرون حقيقيون، وستكتشفونهم في الأيام المقبلة».

إجابة مفتوحة، يمكن أن يفهم منها استعداد ضمني للاستقالة. لكن صرامة يونكر لم تتراجع. أمام المطالبين بإعطاء بريطانيا وقتاً قبل تقديم بلاغ الرغبة بالانسحاب، فسح مجال للمساومة، قال إنه في حال كان رئيس الوزراء الجديد من داعمي «البقاء» فيتوقع البلاغ بعد اسبوعين، أما إذا كان من حملة «الخروج»، فسينتظر منه طلب الطلاق في اليوم التالي لتولّيه منصبه. زادت حملة التسريبات حول ضغوط من برلين، فزاد يونكر عيار انتقاداته، متهماً قادة حملة الخروج بـ «القفز من المركب» هرباً من الورطة التي وضعوا بلادهم فيها.

ليس الوحيد الذي يتصرف على هذا النحو. إلى جانبه، أمام البرلمانيين الاوروبيين المجتمعين لجلسة عامة في لوكسمبورغ، أعاد رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا خلاصته حول حال بريطانيا اليوم: «هذا البلد انهار الآن سياسياً واقتصادياً ومالياً ودستورياً، وسيحتاج سنوات للتمكن من تجاوز هذه الفوضى».

تكثيف حملة الضغوط النفسية والانتقادات يأتي في وقت تظهر فيه حسابات الواقع أن أصحابها يكسبون منها، سواء بالنسبة للاتحاد الأوروبي أو لدوله المنفردة. المؤكد أن بريطانيا تتعرض لخسائر متواصلة، اقتصادياً وسياسياً، لتكون حالها بمثابة عبرة لمن يريد سلوك مسار مشابه. يهم ذلك الاتحاد الاوروبي، كما يهم دولاً فيها حركات شعبوية متطرفة، كما الحال لدى هولندا التي تتحضر لانتخابات عامة الربيع القادم، مع مخاوف من اشتداد عود حزب «الحرية» بقيادة المتطرف غيلد فيلدرز.

لدى رئيس الحكومة الهولندي استطلاعات تدعم خلاصة أن آلام بريطانيا مفيدة. الأمر يتكرر في حالة دولة تواجه وضعاً مشابهاً هي الدنمارك، مع حزب «الشعب» المعادي للاندماج الاوروبي وللمهاجرين. أظهر استطلاع للرأي نشر أخيراً هناك أن نحو 69 في المئة يدعمون الاتحاد الاوروبي الآن، بعدما كانت النسبة 59 قبل أسبوع من الاستفتاء البريطاني. بالمثل، تراجعت نسبة مؤيدي اجراء استفتاء دنماركي إلى 32 في المئىة، بعدما كانت 41 .

حسابات كهذه تشغل فرنسا وإيطاليا وآخرين، تحاصرهم مخاوف مكاسب الاحزاب المتطرفة، فالضجيج حول عداد الخسائر في لندن يعمل كحملة انتخابية ممتازة لهم. رغم التفاوت، مع برلين ودول قليلة أخرى، لكن الاجماع لا يزال على أنه لن يكون هناك أي تفاوض قبل أن تطلب لندن رسمياً الانفصال. لا يمكن إجبارها على ذلك، فيما المرشحون لخلافة ديفيد كاميرون يقولون إنهم سيستفيدون على أكمل وجه من الوقت، مهما طال، لتحسين وضعهم التفاوضي.

المسألة حاسمة هنا. حالما ترسل بريطانيا بلاغاً يطلب الانسحاب، لن يكون هناك مجال لأي تراجع. حينها، سينطلق مسار باتجاه واحد لا يمكن عكسه. سيكون أمام الاتحاد وحكومة لندن سنتان للتفاوض على «اتفاقية الانسحاب»، ولا يمكن تمديد المهلة إلا باجماع أوروبي، أما إذا لم يحصل فستعتبر بريطانيا منفصلة بحكم الأمر الواقع.

التصلب الأوروبي يتحسّب أيضاً لتكتيكات الساسة البريطانيين، خصوصاً قادة حملة الخروج. هناك خشية من استخدام الاستفتاء سلاحاً تفاوضياً، مع إضمار هدف نهائي هو إبقاء بريطانيا، لكن مع انتزاع تنازلات أوروبية بالنسبة لحرية تنقل المهاجرين خصوصا. يمكن للمفاوض البريطاني القول إن المنفذ الوحيد لتجنب الطلاق هو الحصول على صفقة ممتازة، فحينها يمكن، من حيث المبدأ، الرجوع بها لاجراء استفتاء ثان أو انتخابات مبكرة.

هذا السيناريو، رغم التقليل من احتمالاته، ليس بلا أساس. رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون هو أحد القافزين من المركب، وفق وصف يونكر، وكان قال حينما أطلق حملة «الخروج» إن الاوروبيين لا يستمعون للشعوب «إلا إذا قالت لا». كان يُلمّح إلى استفتاءات سابقة على معاهدات أوروبية، في الدنمارك وايرلندا، عادت بعدها الدولتان إلى استفتاء ثانٍ بعدما حصلت تنازلات حينما حملت الرفض الشعبي إلى طاولة التفاوض.

بعض المعلقين في الصحف البريطانية على تلك السوابق يقولون إن لا شيء يمنع تكرارها، معتبرين أن شدّ الاعصاب حول حدث بوزن خروج بريطانيا سيكون من طبيعة حال الدراما الجيدة: تصديق ما ليس قابلاً للحدوث. واشنطن بدورها فتحت نافذة مرغوبة، بالقول إن هناك «خيارات». بعض الاوروبيين يكسر الحظر على التفاوض، مثل وزير مالية النمسا هانس يورغ شيلينغ الذي قال إن هناك نقاشاً حول «كل الخيارات»، من بقاء بريطانيا، وصولاً إلى انفصال انكلترا فقط مع بقاء اسكتلندا وشمال ايرلندا.

هناك مراقبون يعتقدون أن لملمة المصيبة هي الخيار الأفضل، رغم صعوبته، لأن الخسائر حتمية للجميع. أحدهم يان تريشيه، رئيس مركز أبحاث «كارنيغي يوروب». حينما سألته «السفير» عن القضية، قال «اعتقد انها مجرد فكرة رومنسية أنه حالما تخرج بريطانيا سيكون الآخرين متحررين لفعل ما يريدون، هذا ليس واقعيا، الـ27 دولة الباقية لا يزالون منقسمين كما كانوا سابقاً»، قبل أن يضيف «صحيح أن بريطانيا وضعت دائما رجلاً في خارج الاتحاد، لكن هناك آخرين اختبأوا خلفها وأحبوا ذلك كثيرا، لكنهم سيكونون مضطرين لاظهار أنفسهم إذا خرجت».

البريطانيون من أنصار البقاء لا يتوقفون عن الاحتجاج بطرق شتى. يضمون إليهم مجموعة النادمين ممن صوتوا للخروج. صحيفة «الغارديان» كانت تقول محذرة إن «الاتحاد الأوروبي ليس أسوأ الخيارات الممكنة، بل يمثل أفضل ما فينا». بعد الاستفتاء خرجت بعنوان يناشد الاوروبيين «لا تتخلوا عنا»، لتقف في صف المطالبين بمخرج يمنع الانفصال.

الأكاديميون اللندنيون يتقدمون حملة البحث عن مخرج النجاة ذاك. البروفسورة اناستاسيا نيفاتاليفا، مديرة مركز أبحاث الاقتصاد السياسي لجامعة «سيتي» في لندن. قالت خلال مقابلة مع «السفير» إنه «بالنسبة لنا في بريطانيا تمثل أوروبا عامل الموازنة والحكم بين المجتمع والرأسمالية، فمن دون التوجيهات الاوروبية سنكون أمام رأسمالية متوحشة»، قبل أن تعتبر أن هناك أرضية لاجتراح الحلول: «الآن بات هناك ادراك تدريجي لما حصل، فالتصويت كان محكوما بانتشار الكذب وغياب الحقائق، ثم بدأ الناس يدركون أنه بعد مغادرة الاتحاد لن يكون هنالك سمك أكثر في البحر بل ستبقى حصص الصيد، كما أن مركز لندن المالي سيفقد امتيازات هامة كانت موجودة فقط بفضل العضوية الاوروبية».

الرأسمالية المتوحشة هي الترجمة الأخرى لحديث المسؤولين البريطانيين عن دولة «فائقة القدرة التنافسية» إذا تم الخروج، مع تخفيض قياسي للضرائب على الشركات وإغراءات أخرى. لكنها تبقى تراشقات، عروض قوة، في الطريق إلى طاولة التفاوض. ربما لا يريد الاوروبيين فقدان بريطانيا، لمصالح الاقتصاد والجيوسياسة، لكن الاستعداد لفتح مخرج نجاة شيء آخر تماما غير السماح للندن بادعاء الانتصار. سواء بقيت أم خرجت، يبقى جعلها عبرة رادعة للآخرين مصلحة أساسية: لا هدية لمن يريد الانسحاب ولا مكافأة لمن يهدد به.

جريدة "السفير"