فلسفة دوغين دليل المواجهة العالمية
قراءة فلسفة ألكسندر دوغين ضرورية.
هذا الاعتبار ليس مأخوذاً بالنفوذ الروسي والشهرة العالمية للمفكّر الذي يوصف بـ»عقل بوتين». وعلى رغم وضوح الجهد الفكري والأكاديمي الذي بذله دوغين، وما زال، في إنتاج مشروعه النظري الأبرز منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أنه ليس السبب الوحيد وراء اعتبار قراءة فلسفته ضرورية. ثمة أسباب سياسية فكرية أيضاً.
ففلسفة دوغين أحد المفاتيح لفهم ما يجري في العالم. وذلك ليس على صعيد التيارات الفكرية والأطروحات الاستراتيجية المناهضة للنظام العالمي أحادي القطب والليبرالية والحداثة فحسب، بل في المجريات السياسية والعسكرية والأمنية، وحتى الاقتصادية.
فدوغين يسعى، ومعه الكرملين والمؤسّسة العسكرية-الأمنية الروسية، إلى أن تغدو تلك الفلسفة نظرية الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، بل إلى أن تكون الخلفية العقائدية والاستراتيجية لحركات مواجهة الهيمنة الأميركية-الأطلسية وثقافتها الأحادية الساعية، وفق دوغين، إلى تذويب الحضارات المتعددة وتدمير دولها وسياداتها واستعمار شعوبها وتغريب إنسانها.
أهمية فلسفة دوغين، التي تنشط لتسليح الحركات المناهضة للهيمنة الأميركية-الأطلسية، وكل مَن يتحرّك خارج تلك المشيئة ويفكّر خارج صندوقها، تكمن في المواجهة التي تريد دفع العالم إليها (لعل هذه بدأت في الحرب الروسية-الأوكرانية). لذا، يمكن اعتبار تلك الفلسفة الدليلَ الذي يسير فيه جزء من العالم، أو على الأقل الدليل الذي تسعى روسيا إلى أن يسير على هديه العالم كله أو جزء منه.
لهذا، وفيما يصوغ دوغين عقيدة استراتيجية لروسيا تنتقد الاستسلام للغرب وليبراليته وحداثته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتستعيد التراث الإمبراطوري والديني المسيحي الأرثوذكسي، تراه يفصّل نظرية لعالم متعدد الأقطاب. والهدف من ذلك متعدد أيضاً:
فدوغين المنظّر الاستراتيجي الروسي الذي يعرف أن بلاده ليست بقوة الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي، يسعى إلى استدراج حضارات اليابسة، الصينية والهندية والإسلامية والأفريقية والأميركية، إلى المواجهة مع حضارة البحار الأميركية-الأطلسية.
ودوغين الناشط السياسي يدرك أن الأوراسية التي يعمل لإحيائها وتجديدها كأيديولوجيا ليست قومية يمكن الذهاب بها بقوة إلى المعركة مع العالم أو مع قطبه الأقوى. فهو، في هذا البعد الجيوبولتيكي، أقرب إلى الزعيم السوفياتي البلشفي ستالين منه إلى النازي هتلر أو الفاشي موسوليني.
ودوغين صاحب النظرية السياسية الرابعة، وإن كان يتحسّر على الاتحاد السوفياتي النموذجي للإمبراطورية الروسية (وهو ينتقد قادة الكرملين الذين دفعوه إلى «الانتحار»، وفق تعبيره)، إلا أنه يعتقد أن الماركسية لا تلائم الجيوبولتيكا الجديدة لروسيا وللعالم متعدد الأقطاب.
ودوغين الأكاديمي الذي لا ينفي قوة الليبرالية والحداثة الغربيتين وانتشارهما في العالم وبين نخبه، يدرك أن ليس لدى بلاده ما ينافس ذلك. من هنا، يدعو إلى الخصوصيات الحضارية وتعددها، وإلى عدم فرض الليبرالية والحداثة على أي من الحضارات والدول والشعوب. وفيما يأمل أن يُرضي ذلك الطرحُ تلك الحضارات والدول والشعوب، أو الحركات السياسية فيها المناهضة للهيمنة الأميركية والليبرالية والحداثة، يحصّن عقائدياً الجبهة العالمية المناهضة للأحادية الأميركية-الأطلسية، ولسيادة ثقافتها المركزية.
باختصار، إن أهمية فلسفة دوغين تكمن في ترشيح نفسها لتكون دليل التغيير في العالم، في الحرب قبل السلم، وفي المواجهة الأيديولوجية الثقافية قبل الاقتصاد.