دونباس وسوريا.. جبهتان لحرب واحدة
لقد أصريت دائما على حقيقة أن كلا من مراحل الحرب هذه كانت مرتبطة من الناحية الاستراتيجية. وسيكون من السخف أن نعتقد أن الوضع السوري لا علاقة له مع الأزمة في شرق أوكرانيا. تاريخيا، كل من المنطقتين يسمى "مناطق دخول" على حافة الأرض "ريملاند" التي تحيط بـ"قلب الأرض" التي تهيمن عليها روسيا، وهذا ما أظهره العالم الأمريكي في الجغرافية الاستراتيجية سول كوهين في أعماله. كما أن الجغرافيا السياسية للعلماء في الولايات المتحدة تهدف إلى منع أي تضافر بين عموم أوراسيا والعالم القديم (أو جزيرة العالم، حسب مفردات ماكيندر) أو أي تعاون طويل الأمد بين أوروبا الوسطى وروسيا، فمن الطبيعي جدا أن تدعم المناوشات أو تنظيم حروب طويلة الأمد من قبل وكلاء مشكوك فيهم على الأراضي التي يمكن أن يكون لها وظيفة ربط هامة بين المناطق الرئيسية في القارة الأوراسية.
في الوقت الحاضر الأراضي الأوكرانية شرق شبه جزيرة القرم تصل أوروبا (ممثلة في جنوة وقواعد فينتيان التجارية) بآسيا في زمن ماركو بولو، وقادة المغول العظام أو حتى في وقت لاحق. وكان الساحل السوري بوابة الدخول إلى الطرق البرية الطويلة إلى الهند والصين. الضرورة الحيوية للسيطرة على هذا الطريق أدت إلى شن ثمانية حروب صليبية خلال العصور الوسطى (سبنغلر يشرح لماذا يعتبر مفهوم العصور الوسطى صالح فقط بالنسبة لأوروبا).
الحقائق الجغرافية مستقرة ودائمة. هي فعلا مهمة وجميع التمويهات المثالية التي أنشئت لخوض حروب لا طائل منها أو حروب التأجيل (كارل شميت) ليست سوى أفكار طفيلية للتشويش على السذج. هذا ما حاول ماكيندر شرحه في كتابه "المثل والحقائق الديمقراطية" (عدة طبعات معدلة بين 1919 و1947). اليوم هاتين المنطقتين الهامتين، اذا عم السلام فيهما، يمكن تأمين عبور البضائع والمواد الخام من خلال الطرق البرية، وخطوط الأنابيب، والسكك الحديدية بين شرق آسيا وإيران وأوروبا (في حالة سوريا) وبين الصين وروسيا، و ألمانيا (في حالة أوكرانيا).
ما يهم اليوم هو ما يمكن أن أسميه المشاريع مابعد الماركسية و"الليستية" للصين بصك العملة بفضل الفائض في السيولة النقدية وفي إطار بريكس أو مجموعة شنغهاي، بموافقة من كازاخستان وروسيا في مرحلة ما بعد الماركسية و. وأنا أتكلم من منظور أفكار العالم "فريدرك ليست" (الليستية) حول المنظمة القارية الذي يعتبر كمنظر رئيسي للتنمية في تاريخ العالم. وقد ساعد في تطوير نظام ربط السكك الحديدية في القرن ال19 في ألمانيا، والإسراع في توحيد البلاد وتقوية التصنيع فيها. ولولا "ليست" لما تمكن أحد أن يتحدث عن القوة السياسية أو الاقتصادية الألمانية. وقد عمل على حفر القنوات في كل من الولايات المتحدة (كان يمكلك الجنسية الأميريكة) لربط منطقة البحيرات الكبرى إلى موانئ الساحل الشرقي وفي ألمانيا لربط جميع الأحواض النهرية بين فيستولا والميز في مقاطعة "بروسيا" السهلية شمال أوروبا. ومن دون عبقرية "ليست"، لما تمكن أحد أن يتحدث عن القوة الزراعية العالمية للولايات المتحدة كما لم يكن من الممكن استغلال حزام القمح بشكل صحيح من دون القدرة على نقل الكميات كبيرة الحجم إلى ساحل المحيط الأطلسي.
وفقا ل" ليست"، الذي فكر بمصطلحات التعددية القطيبة القارية وفضل مشاريع الاندماج الناعمة تحت قيادة التطور التكنولوجي، فإن دور الدولة كان دعم الربط للمساعدة في التنمية وخلق صناعات خاصة وقوة تكنولوجية مبتكرة. في هذا المعنى، كان "ليست" ليبرالي بناء، ورمزا للتطبيق العملي الفعال المحافظ غير الذي يمكن أن يتغلب على الجوانب السلبية للأيديولوجية الليبرالية الشائعة.
المفكرون الصينيون في نهاية الإمبراطورية الصينية المحتضرة في نهاية التسعينات من القرن ال 18 ومع بداية التحدي الجمهوري الذي أدى إلى ثورة القومي "سان يا تسين" في عام 1911 استوحوا أفكارهم أساسا من أفكار "ليست"، الذي كان له الكثير جدا من التلامذة الصينيين. بعد المشاكل المحبطة للحرب الأهلية والمواقف التي يسببها أمراء الحرب والاحتلال الياباني الطويل، والحكم الشيوعي، والثورة الثقافية، تخلت الصين سرا كل الهراء الماركسي للعهد "الماوي" (وليس بشكل واضح لكي لا تثير الكثير من القلق بين الجماهير وأعضاء الحزب). في الحقيقة أعادوا اكتشاف "ليست" ولبخطط المبرمجة الشبيهة لتلك التي أعدها "ليست" بالنسبة للولايات المتحدة وألمانيا.
أعطت هذه الخطط قوة اقتصادية وصناعية وزراعية لكلا البلدين. وأنتج الهذيان الأيديولوجي القوضى وأثار الصراعات من أجل عدم تكرار خطط إيجابية لتطوير خطط الربط التي أنجزت لصالح جميع الناس على الأرض. لذلك، يتم شن الحروب الرهيبة وغير المجدية في سوريا وفي دونباس، ويمكن أن تمتد إلى القوقاز (الشيشان وداغستان وأوسيتيا)، وإلى شرق تركيا (الأكراد ضد الحكومة التركية) مغلقة لعقود طويلة إمكانية توسيع السكك الحديدية وخطوط الأنابيب، والطرق.